“استمع جيدًا.
مالك العقار الحقير ذاك خفّض الإيجار بسبب الرائحة الكريهة.
لكن، ما الذي تظن أنه سيفعله عندما تختفي الرائحة؟”
“هل… تنوين رفع الإيجار؟”
أومأت جوديث بحماس كردّ على تساؤل تان.
“انظر، لم أتمكن من العمل لعدة أيام، وتخلّصت بالفعل من مصدر الرائحة.
لكن إن كان الثمن هو رفع الإيجار، فما الفائدة إذن؟”
“… هذا غير عادل، أليس كذلك؟”
“لذلك، يجب أن نوضّح هذا الأمر مسبقًا.”
في تلك اللحظة، تمتم إيرن، الذي كان يُصغي لحوار جوديث وتان، وكأنما شعر أخيرًا بالراحة:
“أجل، هذا صحيح.
الآنسة هارينغتون لا تعبأ بأحقاد الآخرين.”
“ما رأيك في زوجتك؟”
“هل تعرف سميث، المرابي؟”
“أعرفه.”
“إنها تشبهه إلى حد ما.”
في المرة الأخيرة التي رآهما فيها إيرن، بدَوا متشابهين تمامًا…
فكلاهما مهووسين بالمال.
—
“هل لديكِ عائلة كبيرة؟ لما كل هذه الفاكهة؟”
“آه، أنا من افتتح محل العطور هناك.
إنها المرة الأولى لي في مجال الأعمال، لذا رغبت في تحية الجيران وطلب دعمهم.”
قدّمت كيس الخبز الذي اشترته مسبقًا إلى بائع الفاكهة.
“أنت تبيع الفاكهة، لذا لم أرغب في تقديم فاكهة، فاشتريت خبزًا بدلًا منها.
أرجو أن تعتني بي.”
“يا إلهي، يا لها من شابة مفعمة بالحيوية!”
“إنها تجربتي الأولى في التجارة.
أتمنى أن أتعلم منكم الكثير.”
أضفت عبارتي الأخيرة بلُطف، فصفّق البائع بسعادة، معبرًا عن إعجابه بجارته الجديدة.
“بالمناسبة، هل تعرف من كان يدير ذلك المحل سابقًا؟”
“كان هناك شاب يُدعى جورج، كان يبيع الخضار المخلّلة، لكن بعدما كُشف أنه ينتمي إلى الشارتين، أُغلق متجره، على ما أعتقد.”
“هل تعرف أين هو الآن؟”
هزّ البائع رأسه بتردد، ثم صفق كفيه وكأنه تذكّر شيئًا.
“آه صحيح، اذهبي إلى العم ماكس، منظف المداخن.
سمعت أن جورج يعمل معه الآن ويتعلم منه.”
“أين يمكنني مقابلته؟”
بعد بحث طويل، تمكّنت من كشف من أطلق اللعنة، وماذا حدث بالضبط.
في تلك الأثناء، نظر إيرن إلى جوديث بنظرة متأملة:
لمَ لا نترك مهمة تتبع المطاردين لجوديث بدلًا من المركيز موسلي؟ أظن أنها ستعثر عليهم بشكل أسرع.
—
في مقبرة على أطراف العاصمة.
مرّ ثعلب صغير أمام شاهدة قبر مهجورة منذ زمن، في ذلك المكان الذي يُدفن فيه الفقراء عادة.
تبادلنا، أنا وإيرن، النظرات في آنٍ واحد.
“يا لها من مملكة للثعالب.”
“أعتقد أننا في المكان الصحيح.”
مسحت برفق الطحالب والتراب المتراكم على الشاهدة، فتبيّن لي الاسم المنقوش:
جورج.
لم تُكتب سنة ميلاده أو وفاته… ربما لضيق ذات اليد.
“كان يملك محلًا للخضار المخلّلة.
شاب يُدعى جورج، وكان بارعًا للغاية.
زبائنه كُثر.”
“كان طيبًا وصادقًا.
لكن حظه العاثر قاده إلى مالك جشع.
ألا تعرفين هذا النوع؟ رجل وضيع، عامل جورج كخادم.”
بحسب ما سمعته من تجار الساحة، قبل خمس سنوات، كان جورج يبيع الخضار المخلّلة في المتجر الذي أملكه الآن.
نال حب الزبائن بفضل صدقه، ولطفه، ومهارته الفائقة في التخليل.
لكن في يومٍ ما، أغلق جورج متجره وبدأ يدفع عربة ويبيع الخضار في الشوارع.
“قال جورج إن عقده انتهى، لكننا كنا نعلم أن هذا غير صحيح.”
بعدها بأيام، بدأ المالك ببيع الخضار المخلّلة في المتجر ذاته، وحقق أرباحًا طائلة، ببساطة لأنه استولى عليه.
ومع ذلك، ظل جورج يتفوق عليه حتى أثناء دفع العربة.
غار المالك من نجاحه، فأطلق إشاعة تقول إن جورج شارتين، وأنه يستخدم تعاويذ في التخليل.
والمشكلة؟ أن جورج فعلًا كان شارتين.
“لم يكن يبدو كذلك على الإطلاق.
لم يصدقه أحد، حتى استدعى المالك والدة جورج إلى الساحة.
كانت والدته، بطبيعة الحال، شارتين.”
جورج، الذي أنكر دومًا نسبه إلى الشارتين، لم يحتمل رؤية والدته العجوز تُذل أمام الجميع.
توقّف الناس عن شراء منتجاته، فانتهى به المطاف بالتخلي عن التجارة والعمل كمنظف مداخن.
“مضحك، أليس كذلك؟ يرفضون أكل ما يصنعه الشارتين، لكنهم لا يمانعون أن ينظفوا لهم المداخن.
وقد أغاظه هذا كثيرًا.”
أغلق الجد ماكس، الذي درّبه، عينيه بأسى وهو يروي القصة.
“كان المالك يعلم منذ البداية أن جورج شارتين. استغل هذا السر وأجبره على أداء شتى المهام.
بل وطلب منه لاحقًا أن يعلمه سر التخليل.”
“لكنه لم يخبره، أليس كذلك؟”
“بل أخبره.”
“وكشف عن هويته؟ لماذا؟”
“لماذا؟ لأن المالك كان يعلم أنه إذا اختفى جورج، سيرتفع دخله.”
دهاء لا يُضاهيه إلا دهاء الشيطان نفسه.
“وماذا حدث لجورج؟”
“سقط من على سطح أثناء تنظيفه لمدخنة.
اختل توازنه.”
ساعد الجد ماكس والدة جورج في جمع جثته ودفنها.
أما حفّار القبور، فقد قال إن العجوز ظلت جالسة أمام قبر ولدها، تمتنع عن الطعام لأيام، ثم ذات يوم جاءت ومعها ملقط وشبكة، وبدأت تصطاد الثعالب.
“فقدت عقلها من شدة الحزن.
حاولت ردعها، لكنها كانت تضحك وهي تصطادهم.”
“وماذا فعلت؟”
“دللتها على أماكن تجمعهم لتصطاد كما تشاء.
على أي حال، احذرا جيدًا.
عضة الثعلب ليست بالأمر الهيّن.”
وبالفعل، كانت الثعالب تتجمع بكثرة حول قبر جورج.
ظنّ البعض أن اللعنة بسببه.
لكن الحقيقة؟ لم يكن جورج من أطلق اللعنة…
بل كانت أمه التي فقدت ابنها غدرًا.
“كانت شارتين، وتعرف السموم جيدًا.”
حتى وإن لم يكن سحرها متقنًا، فقد كان ذلك طريقتها الوحيدة للثأر من الظلم.
“بالمناسبة، ذاك المالك… حقير للغاية.”
حتى إيرن أخرج لسانه بازدراء.
“أتستطيعين التعامل مع شخص كهذا؟”
“لن أستطيع وحدي.”
انخفض بريق عيني جوديث.
“لابد من مواجهة الشر… بالشر.”
—
في مكتب سميث.
تفاجأ سميث بقدوم جوديث في يوم لم يكن مخصصًا لسداد الفوائد، لكنه لم يطردها.
فقد كانت زبونة وفية تواظب على الدفع.
وفوق ذلك، شاع مؤخرًا أن شموع جوديث تُباع كالماء.
لا حاجة للدخول في نزاعات مع مدينة تفي بالتزاماتها.
“لدينا ضيف، ولا حتى كوب شاي، سيد سميث؟”
“سيصل حالًا.”
قطّب سميث حاجبيه. أهذا مقهى برأيه؟
“ألا يوجد شراب غير الشاي؟”
سأل إيرن، وهو يتجول في المكان متفحصًا.
“لا يوجد خمر.”
أهذا حانة في نظره؟!
“لا خمر؟ كيف ذلك، وهناك من يبدو وكأنه يعيش على الزجاجات؟”
“هذه هي الكارما.
هل تعتقد أن شرب الخمر أثناء العمل أمر سليم؟”
التخلّص من الكحول؟ كاد سميث يعض أسنانه.
يا لهما من ثنائي مزعج.
“لماذا أتيتِ؟ هل تعجزين عن دفع الفائدة مجددًا؟”
“ابني.”
“…؟”
ابني؟ ارتجف سميث من وقع الكلمة غير المتوقعة.
أنا… ابنها؟
صحيح أنهما وقّعا عقدًا ينص على أنه في حال عجزت جوديث عن سداد ديونها، ستتبناه وتنقل له اللقب، لكن… أن تبدأ بهذا الشكل؟!
رمقه بنظرة مطالبة بالتفسير، فحوّل إيرن عينيه وكأنه يقول: لا علاقة لي بالأمر.
“ابني؟”
“من فضلك لا تناديني هكذا، الأمر محرج.
فقط أخبريني بما جئتِ من أجله.”
وقف سميث متجهمًا.
اقتربت جوديث من مكتبه وسحبت كرسيها.
“هل نحن في صف واحد؟”
“نادراً ما يكون الدائن والمدين في صف واحد، لكن حسنًا، سنفترض ذلك.
بما أنكِ تتحدثين وكأنكِ ستطلبين معروفًا، فاختصري.”
“أرغب في استعارة اسم ابني… وبعض رجاله.”
ظلّ سميث صامتًا من شدة الدهشة.
وبعد لحظة، فتح فمه ببطء:
“أهذا مكتب قروض؟”
“وهل تظن أنني لا أعلم؟”
أوه… لا، في الحقيقة أنا لا أعلم حقًا.
التعليقات لهذا الفصل " 47"