في اليوم التالي، توجّهوا إلى الصيدلية.
أشاد هنري بالصيدلي قائلاً إن خبرته في معالجة الأعراض وتوصيف الأدوية تفوق خبرات معظم الأطباء، رغم أنه مجرد صيدلي، فضلاً عن أن أسعاره زهيدة للغاية، ومع ذلك فإن طوابير الانتظار أمامه لا تنتهي.
اضطرت جوديث وإيرن للانتظار طويلاً قبل أن يحين دورهما.
“ما الأعراض التي تعانين منها؟”
“أشعر بصداع وغثيان، وانزعاج في المعدة…
كما لو أنني مصابة بعسر هضم.”
بدأ الصيدلي يدون ملاحظاته، ثم رفع رأسه وحدّق في جوديث، ومن ثم نظر إلى إيرن الذي كان نصف وجهه مغطى، وابتسم بخفة.
“نحتاج إلى فحص للتأكد، لكن وفقًا لما تصفينه… هناك احتمال أنكِ حامل.”
ماذا… ماذا قال؟!
توقفت جوديث عن التفكير.
أحقًا سمعته يقول ذلك؟!
حتى إيرن بدا مذهولًا.
كان الصيدلي يرمقه بنظرة دافئة، كما لو أنه يبارك لهما، فشعر بالارتباك الشديد، وكأن الهواء قد انقطع عن رئتيه.
“لا! لا، هذا غير صحيح!”
قالت جوديث بسرعة وهي تلوّح بيديها نفيًا، وقد احمرّ وجهها خجلًا، كأنها تخيلت سيناريو غريبًا.
“حقًا؟ أليس هناك أي احتمال؟
متى كانت آخر مرة…؟”
“ما الذي تهذي به؟!”
كان إيرن على وشك سؤاله عمّا يقصد، لكنه فهم في اللحظة التالية، فصمت تمامًا.
“لا، لا شيء كهذا حدث بيننا!”
قالت جوديث وهي تهز رأسها بقوة.
“بالضبط!
لا يوجد سبب لفعل ذلك أصلاً!”
كان يمكن لأي شخص أن يرتكب أمرًا كهذا مهما بدا بريئًا، لكن إيرن المرتبك قال أول ما خطر على باله دون تفكير.
[فحطت من الضحك!!]
“نحن فقط نعاني من الأعراض ذاتها.
مجرد مرضى لا أكثر.”
“في بعض الحالات، يشعر الأزواج أيضًا بأعراض الوحام…”
“كم مرة عليّ أن أكرر: الأمر ليس كما تظن!”
ضرب إيرن الطاولة بقبضته، فأسرع الصيدلي إلى تغيير موضوعه.
“هل تناولتما شيئًا فاسدًا مؤخرًا؟”
“لا أظن أن السبب طعام.
بل الرائحة.
منذ أيام، هناك رائحة كريهة تثير غثياني كلما شممتها.”
“سأعطيكما مسكنًا وهاضمًا، لكن هذا مجرد حل مؤقت.
الأفضل تجنّب مصدر الرائحة نهائيًا.”
كتب الصيدلي وصفة وأشار إليهما بالانتظار ريثما يتم تحضير العلاج، ثم اختفى خلف جدار في الصيدلية.
جلس إيرن وجوديث ينتظران بوجنتين محمرتين، يشعران بالخجل من تعليقات الصيدلي غير المتوقعة.
“تان، أين وضعت الكرفس المجفف وعشبة الأوراق الحمراء؟”
صاح الصيدلي من الخلف
“الأعشاب التي يجب أن تكون هنا اختفت!”
“تان؟”
رفعت جوديث حاجبيها بدهشة لدى سماع الاسم.
بدا لها مألوفًا بشدة، كما لو أنه عالق في ذاكرتها منذ زمن بعيد.
نهضت واقتربت من الجدار محاولة التحقق.
وفي تلك اللحظة، دخل رجل عبر الباب الخلفي وهو يحمل الأعشاب المطلوبة.
“الكرفس المجفف هنا، أما الأوراق الحمراء فهي في الدرج السفلي…”
كان على وشك تسليمها، لكنه لمح جوديث وهي تتلصص من خلف الجدار، فسارع إلى تغطية رأسه بقبعته.
لكنها كانت قد رأته بالفعل…
رأَت عينيه الكهرمانيتين.
“اعذريني، آنستي، يمكنني أن أشرح…”
حين أدرك الصيدلي أن جوديث لاحظت هوية تان، سارع لتبرير الموقف، لكن جوديث رفعت يدها لتوقفه.
“كنت أعلم أنني سمعت هذا الاسم من قبل!”
“ما الذي يجري؟”
نهض إيرن بعدما سمع صوتها المرتفع، وتوجّه نحو الباب الخلفي.
أمسكت جوديث بذراعه وهتفت بحماس:
“إنه هو!
الوسيط الذي أجرى الطقوس لك حين كنت جثة!”
الاسم بدا مألوفًا.
إنه الوسيط الذي ساعد في إنقاذ روح إيرن بإرسالها إلى السماء.
بحث هنري عنه طويلًا بعد أن استعاد إيرن وعيه، لكنه اختفى تمامًا، حتى ظنوا أنهم فقدوا الأمل في العثور عليه.
لكن أن يعثروا عليه هنا…
“تشرفت برؤيتك مجددًا.
أعطني ذهبيتيّ الاثنتين!”
—
“هاه… هاه…”
كان يلهث وهو يركض في الأزقة الخلفية، يتعمّد اختيار الممرات الضيقة والملتوية.
لم يكن بعيدًا جدًا عن الصيدلية، لكنه كان متأكدًا من أنه لن يستطيع التفوق على ذلك الرجل من ناحية اللياقة البدنية.
لم يكن يتخيل أن يصادفهما هنا بالضبط!
ذلك اليوم، حين أنقذ تان الجثة التي بدت حقيقية، قرر أن يتخلى عن عمله كوسيط روحاني.
فشل في الطقوس، وسرق قطعتي ذهب، ثم اختفى.
ومنذ ذلك الحين، يعمل كمساعد لدى ابن عمه الصيدلي.
لطالما حرص تان على إخفاء عينيه الكهرمانيتين تحت قبعته حتى لا يميّزه أحد من أبناء الشارتين.
لكن كيف عرفته تلك المرأة بالذات، بعد أن كشف عن وجهه للحظة؟
“هل تخلّصت منهم؟”
أبطأ تان حركته والتفت حوله.
لم يكن أحد يلاحقه. تنفّس الصعداء.
من الأفضل أن يختبئ في مكان مظلم حتى الغروب.
أسند ظهره إلى حائط والتقط أنفاسه…
لكنه شعر ببرودة شديدة على عنقه.
استدار بسرعة، كما لو أنه دمية مكسورة.
وبضع خطوات أمامه… كان الرجل، الرجل الذي بدا كجثة، يحدق فيه بابتسامة باردة.
“استسلمت بهذه السرعة؟”
“آه…”
بعد دقائق، كان تان يلهث بجنون.
“آه… آه…”
لم يكن من المفترض أن تصل الأمور إلى هذا الحد.
ركض بجنون، بينما لم يبذل الرجل أي جهد في الإمساك به، كما لو كان واثقًا من قدرته على اللحاق به متى شاء.
لكن تان نشأ وسط الشارتين، وهم بارعون في الهرب.
في المرة الماضية، اختار طريقًا خاطئًا، أما الآن فقد دخل ممرًا لا يعرفه أحد.
“لم أكن أعلم بوجود ممر كهذا.”
“أوه…”
“بفضلك، رأيت مكانًا جميلًا.”
الرجل، الذي لم يكن يُصدر أي صوت، كان يتفحص الأزقة بإعجاب كأنها موقع سياحي.
متى بدأ بملاحقتي؟!
“آه!”
شعر تان بالغثيان من شدّة التعب.
قدماه تؤلمانه.
“أه…”
استمر في الركض دون تفكير.
نسي لماذا بدأ الهرب أصلاً، فقط استسلم لغريزته.
كان يشعر بوجود الرجل خلفه، دون أن يلتفت.
إن تباطأ للحظة، سيشهر سيفه.
رأى بريق النصل في ضوء الشمس، وعيناه امتلأتا بالذعر.
فركض كما أراد ذلك الرجل.
“هاه… هاه…”
خارت قواه، وسقط أرضًا كدمية قُطعت خيوطها.
“كنت مخطئًا… أعترف بذلك.”
ركع تان باكيًا، ينظر للرجل المقترب.
“أرجوك، ارحمني…”
وقبل أن يبدأ في الانهيار…
“تان!”
جاء صوت مألوف من بعيد، فاستدار مذهولًا ليجد نفسه أمام باب الصيدلية مجددًا.
اندفع الصيدلي نحوه وعانقه بقوة.
“أخبرتني الآنسة هارينغتون بكل شيء.
سأعطيك الذهب، فقط لا تؤذه!”
“لا أريد الذهب.
ولا أنوي إيذاءه.
ولا حتى أعرف كيف…”
لكن إيرن، الذي رفع رأسه فجأة، التفت بعد أن شعر بنظرة حادة.
كانت جوديث تقف خارج الصيدلية، تنظر إليه بحدة،
ثم رفعت حاجبيها إشارةً:
“ألا نحتاج الذهب؟ في وضعنا الحالي؟”
“…أنا أيضًا بحاجة للذهب.”
—
“أعتذر مجددًا عمّا فعله تان.”
كان الصيدلي، “بييتشي”، يبدو ذا هيبة إمبراطورية، لكنه في الحقيقة من الشارتين، وهو ابن عم تان الثامن.
سلّمهم قطعتين ذهبيتين من خزنة الصيدلية، واعتذر مرارًا بأدب جم.
وبينما كانوا ينتظرون تان الهارب، شرحت له جوديث الوضع، وأن الرائحة الكريهة ما زالت تزعجها رغم التنظيف المتكرر.
“كاعتذار عمّا حدث، أرغب في مساعدتكما للتخلّص من الرائحة.
أعتقد أن عرّابته تعرف الطريقة المناسبة.”
هكذا، توجهت أنا وإيرن إلى منزل عرّابة تان.
في البداية، لم أكن مرتاحة للفكرة، لا سيما أنني أرافق شخصًا خدعني من قبل.
لكنهم أعادوا لي نقودي، وعرضوا المساعدة مجانًا، فكيف أرفض؟
وفوق هذا، كان إيرن معي، لذا شعرت بالأمان.
تحدثت إلى تان الذي حرص على إبقاء مسافة آمنة بينه وبين إيرن.
“سيد تان، في ذلك اليوم، قلت إن روح إيرن عالقة في جسده ولا تستطيع الخروج.
هل كان ذلك صحيحًا؟”
أومأ تان برأسه يائسًا.
في الحقيقة، لم يسبق له أن رأى جثة تنبض بالحياة كما بدا إيرن حينها.
“بصراحة، شعرت بالرعب.
تظاهرت بأنني أفهم، فقط لأنك وعدتِني بذهبيتين.”
“وماذا عن الطقوس؟”
“نفذتها بناءً على تعليمات في كتاب.”
“لكنّك أخفيت ما تفعل، وطلبت منا ألا ننظر! لماذا؟”
تردد، ثم قال:
“كنت أخشى أن يُكتشف أنني لا أفعل شيئًا في الواقع…”
فبعد أن أغلق الباب على جوديث وهنري، جلس وحيدًا، ينتظر طلوع القمر، مفكرًا كيف يتظاهر بأنه يُجري طقسًا حقيقيًا.
“وإن لم يبدأ جسد إيرن بالتحلّل بعد الطقوس،
ماذا كنت ستفعل؟”
التعليقات لهذا الفصل " 43"