3
ⵌ21
حين أنجبت زوجته الثانية طفلاً، تقدّم البارون بريغز بطلب زواج ليلى.
قال لها إنه إن تخلّت عن زارك وتزوجت رجلاً من اختياره، فسيكتب وصية يمنحها فيها اللقب.
بمعنى آخر، إن اختارت زارك، فلن تنال شيئًا.
“لماذا عليّ أن أضحّي بمن أحبّ من أجل طفل ستُنجبُه امرأة أخرى؟”
تلك المرأة التي خانت والدتها، ودَفعتها إلى الموت، استحوذت على مكانها، وها هو طفلها يحاول الآن الاستيلاء على ما هو حقّ ليلى.
“أليس من حقي أن أناله أنا؟”
لذلك، قررت ليلى هذه المرة أن تبادر.
أن تُقصي وريث والدها الآخر، الطفل المدلّل والمولود من زوجته الثانية.
“هناك عرّاف مشهور يُدعى سيرُيس.”
كانت هناك مواثيق أخلاقية يلتزم بها العرّافون، كأن يمتنعوا عن بيع السموم أو اللعنات المميتة.
المخالفات البسيطة، كجرعة تُسبب عُسرَ هضم أو لعنة تُفوّت على المرء فرصة، كانت تُعدّ مقبولة.
أما ما يتجاوز ذلك، فمحرّم.
وبشكل خاص، من يُضبط وهو يبيع سُمًّا أو لعنة تُفضي إلى الموت أو ما يعادله، يُحكم عليه بالإعدام فورًا.
لكن حيثما وُجد الطلب، وُجد العرض.
كان هؤلاء العرّافون يعملون في الظلّ، بلا مقارّ ثابتة، ويتنقلون في أنحاء الإمبراطورية، لا يعلم بقدومهم سوى قلّة.
“في البداية، كنت أفكّر في شراء دواء.
لكنه أوصاني بهذا الخاتم.
قال إنّه يُخفي الإجهاض بطريقة طبيعية تمامًا.”
لكن الخاتم لم يكن شيئًا يُقدَّم كهدية.
وإن حاولت ليلى إخفاءه في غرفة البارونة، فهناك احتمال أن تعثر عليه الخادمة.
حينها، خطرت في بال ليلى الشمعة التي كانت جوديث تبيعها.
ألن يبدو طبيعيًا أن تخبّئ الخاتم داخل الشمعة، وتقدّمها للبارونة كهدية تهنئة بالحمل؟
“طلبت من السيد زارك أن يفعلها بدلًا مني، لأن الآنسة هارينغتون قد تشكّ إن قلت إنني أضع خاتمًا في هدية حمل.
قد يبدو الأمر سخيفًا، لكن لو قلتُ إنه تذكار، فسيبدو مقنعًا.”
نعم، بدا مقنعًا.
لولا البكاء الذي كانت تسمعه كل ليلة، لكانت جوديث قد انخدعت.
“لا أعرف كيف أقولها لكِ يا آنسة… أظن أنكِ تعرّضتِ للاحتيال.”
كانت جوديث تحاول كسب الوقت بيأس، فبمجرّد انتهاء الحديث، لم يتبقَّ سوى خطوة واحدة.
“ماذا قلتِ؟”
“ذاك الخاتم… لماذا رغبتِ في معرفة حقيقته أصلًا؟”
ترددت الآنسة بريغز للحظة، ربّما لأن كلمات جوديث باغتتها.
“لأنه مريب؟”
“أحقًا؟
لم أستطع النوم من البكاء الذي يُصدره الروح المرتبط بالخاتم كلّ ليلة.”
شرحت جوديث بإيجاز قصة ذلك الصوت الباكي.
ليلى كانت ترغب في إنهاء أمر الطفل بهدوء، لكن استخدام هذا الخاتم سيجعل الأمر مستحيلًا.
فالروح ستظلّ تتجوّل باكية، تبحث عن امرأة حامل.
وإن حدث الإجهاض بعد سماع البكاء، فسيُثار الشكّ على الفور.
“لقد استدعيتُ وسيط أرواح أيضًا… أتظنين أن حضرة البارون سيبقى صامتًا؟”
من المؤكد أنه سيبحث عن مصدر ذلك الصوت.
ربما سيأخذ الأمر وقتًا وسط مشاغله، لكنه إن أراد، فسيجده.
وحين يعثر على الخاتم داخل الشمعة، سيستدعي جوديث، صانعة الشمعة، وستنطق باسم زارك دون تردّد.
“لو لم أكن هنا، لوقعتِ في ورطة كبرى، أليس كذلك؟”
لذا، أرجوكِ، دعيني أرحل، قالت جوديث وهي تضمّ يديها متوسّلة في أضعف هيئة يمكن تخيّلها.
“هاه… لا أملك مالًا يكفي لهذا الثمن الباهظ.”
قطّبت ليلى حاجبيها.
يبدو أنها اشترت الخاتم بثمن مرتفع.
“شكرًا لكِ على المعلومات.
لكن بما أنكِ عرفتِ خطتي، الآنسة هارينغتون، آه!”
“ليلى!”
“آه!”
بينما كانت ليلى تهمّ بتهديد جوديث بالقتل، انحرفت العربة فجأة ومالت بعنف كأنها ستنقلب.
كادت ليلى أن تصطدم بجدار العربة لولا أن زارك جذبها إلى صدره لينقذها.
أما جوديث، فقد ارتطم رأسها وكتفها.
لم تكن الإصابة خطيرة، لكن شعورًا غريبًا بالحزن اجتاحها.
“هل أنتِ بخير، ليلى؟”
الشخص الذي احتضن ليلى وامتصّ الصدمة بجسده كان زارك نفسه، وقد أولى اهتمامه بسلامتها أولًا.
“أنا بخير، وأنت؟”
“ضربة كهذه لا تُذكر.”
تعانق زارك وليلى بقوّة، وكأن كليهما شعر بالطمأنينة بعد الخوف.
“…”
أوه، أنا هنا أيضًا.
حتى لو كنتما تنويان قتلي، أليس من اللائق أن تسألاني إن كنت بخير؟
وبينما كنت أغلي من الداخل بصمت، التقط زارك سيفه الملقى عند قدميه وفتح باب العربة.
“ما الذي حدث بحق الجحيم! ماذا لو أُصيبت الآنسة؟…”
لكنه توقف فجأة وهو يصرخ على السائق.
بين باب العربة المفتوح وزارك، وقف شخص مغطّى الوجه في هذا المكان المقفر.
“السير إيرن!”
فارس نبيل، كيف وصل إلى هنا؟
يا لفرحتي، ويا لسعادتي التي كدت أعيشها.
كنت على وشك النزول من العربة، لكن زارك أوقفني.
لكنني لم أكن خائفة.
ولا حتى متوترة.
زارك، الذي لم يُمنح لقب فارس بعد، لا يمكنه مجاراة إيرن.
لكن كيف لحق بنا؟ ركضًا؟ رأيت فرسًا يقترب من خلف ذراعي زارك اللتين تحجبان الباب.
من أين جاءت تلك الفرس؟
“من أنت؟”
“الفتاة خلفك، تلك التي كنت تُلقي عليها نظراتك من حين لآخر…”
زوج؟ رفيق سكن؟
تردد إيرن في كيفية تقديم نفسه.
في الواقع، بعد أن أرسل جوديث إلى قصر البارون، لم يشعر بالراحة أبدًا.
كان لديه شعور بأن شيئًا سيحدث.
في المهمات أو في ساحة المعركة، حين يشعر بذلك الإحساس، فلا بد أن أمرًا ما يقع.
والحق يُقال، لم يكن يهتم كثيرًا بمصير جوديث.
حين اتُّهمت ظلمًا بقتل كليف، ساعدها لأنه كان بحاجة إليها في ذلك الحين.
قرار جوديث كان نابعًا من إرادتها وحدها، لذا عليها تحمّل العواقب.
ومع ذلك، لم تستطع قدماه التراجع.
ظل يتجول، متردّدًا بين الذهاب والامتناع، إلى أن رأى زارك يجرّ جوديث إلى العربة.
حينها لم يتردّد.
بل لم يستطع.
جسده تحرّك من تلقاء نفسه.
“من أنت؟”
قطّب إيرن حاجبيه حين رأى زارك يشهر سيفه.
لماذا يطرح هذا الفتى دومًا أسئلة مستفزة؟
“هل هذا يهم؟”
لا أظن أن هذا سؤالًا ذا أهمية.
“يكفي أن تنظر إليّ لتدرك أنني جئت لإنقاذها.
ألا يستطيع مقاتل يحمل سيفًا أن يفهم ذلك؟”
ورغم أن نصل سيف زارك اللامع كان موجّهًا إليه، إلا أنه لم يرفعه حقًا.
كانت تلك إشارة ازدراء واضحة: أنّه لا يحتاج حتى إلى استخدام سيفه لمواجهته.
“زارك، اهدأ.”
وقبل أن يتفاقم الموقف، استعادت ليلى هدوءها.
“السير إيرن، أهو أنت؟ سمعت أن عائلة الراينلاند بأكملها ماتت بسبب لعنة.”
ورغم أن وجهه كان مغطى بقطعة قماش سوداء، إلا أن ليلى عرفته.
“يبدو أن الشائعات كانت خاطئة.
ما زلتَ على قيد الحياة، وبصحة جيدة.”
“أتعرفينني؟”
“وهل يوجد من لا يعرف الأساطير المدونة؟”
أومأت جوديث برأسها.
لقد كان إيرن بطلًا خاض حربًا قيل إنها مستحيلة، ومع ذلك انتهى به الأمر متورّطًا في تمرد.
حتى إن لم يعرفوا وجهه، فالجميع يعرف اسمه.
“رأيتك مرّة في مأدبة إمبراطورية.”
“تعرفينني فقط من ذلك اللقاء؟”
أجابت ليلى بدهشة:
“من غير إيرن راينلاند يمكن أن يملك شعرًا ذهبيًا فاقعًا، وعينين خضراوين، وقامة طويلة، وسيفًا لا يفارقه، والأهم: يُلقّب بـ ‘السير’ إيرن؟”
أها.
أومأت جوديث وإيرن معًا، موافقَين على هذا الوصف الدقيق.
تردّد إيرن قليلًا، متسائلًا إن كان عليه تغطية شعره من الآن فصاعدًا.
تردّد زارك قليلًا، ثم أعاد سيفه إلى غمده ونظر إلى ليلى.
وعندما أومأت له، تنحّى جانبًا، مُفسحًا الطريق أمام جوديث.
“أنتِ لستِ خصمي.”
توقفت جوديث لحظة وهي تنزل من العربة.
رغم قلق ليلى من أن يتأذى زارك، إلا أنها تركت جوديث ترحل في صمت.
هل ستتركها حقًا وشأنها الآن وقد انكشف سرّها؟
في تلك اللحظة، خطرت في بال جوديث فكرة…
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ22
“هناك أمر لم أخبركِ به، يا آنسة…
في الحقيقة، كنتُ أعتزم أخذ هذا الخاتم إلى البارون للحصول على المكافأة.”
نظرت ليلى إلى جوديث بنظرة حائرة، كأنها عاجزة عن فهم سبب بوحها بهذا الآن.
“هل يمكنني الحصول على المال مقابل القضية أيضًا؟”
“أتعنين أنكِ ستصمتين إذا قدّمت لكِ رشوة؟”
ورغم أن ليلى استوعبت مغزى كلمات جوديث، فإن ملامح وجهها عبّرت عن شك واضح.
“فأنتِ لا تعتزمين إثارة الجلبة من الأصل.”
كان التخلص من جوديث هارينغتون أمرًا يسيرًا، دون أن يشعر به أحد.
لكن اختفاء كونتيسة راينلاند، زوجة بطل الحرب إيرن راينلاند، سرًا؟ ذلك أمر عسير للغاية.
لا سيما وأن إيرن كان شاهدًا على حادثة الاختطاف.
ومع ذلك، لم يكن قلق ليلى عبثيًا؛ فجوديث قد ضبطتها متلبسة بفعل يمكن أن يفضحها، وكانت بحاجة إلى تهدئتها.
“سأضع سري كضمان.”
مالت جوديث نحو ليلى وهمست:
“ما رأيك أن نتبادل الأسرار؟”
“نعم، صحيح… هذا السر يهدد حياتي.
أظن أن اتفاقًا كهذا سيمنحك شيئًا من الطمأنينة.”
وإذا كان السر يهدد الاثنتين، أفلا يكفي ذلك ليزرع الثقة في قلب ليلى؟
“لكن… كتمان هذا السر يحتاج إلى بعض المال، أليس كذلك؟”
“هذه صفقة غير عادلة.”
ضيّقت ليلى عينيها، ولو لم يتدخل إيرن راينلاند، لما كانت لتقبل بهذا العرض المجحف.
لكن كما توقعت جوديث، ليلى لم تكن راغبة في إثارة فضيحة.
“لكن استمعي إليّ.”
“قرار حكيم، يا آنسة.”
ابتسمت جوديث ابتسامة مفعمة بالرضا وهي تسلّم الشموع وتتسلّم الثمن.
“لقد تزوجت.”
ما هذا؟ أهذا هو السر الذي تقصدينه؟
وما إن ارتسمت الخيبة على وجه ليلى، حتى أشارت جوديث إلى إيرن، الواقف خارج العربة.
“تزوجتُ من ذلك الرجل.”
ثم روت لها كل شيء: زواجها العرضي من إيرن، ووراثتها لديون الكونت، وتعاملها مع الدائنين.
بطبيعة الحال، لم تذكر موت إيرن وجسده غير المدفون، فقد تظاهر بالموت ليصطاد من حاول قتله، ولحسن الحظ مرت الخدعة بسلام.
“حسنًا، فهمت.
لكن… لماذا يُعد هذا سرًا؟”
سألت ليلى بلهجة تنمّ عن عدم استيعابها الكامل.
“جميع الشموع المطلوبة تُصنَع في قصر راينلاند.”
“في ذلك القصر المشؤوم؟”
اتسعت ملامح ليلى نفورًا.
“لو علم الناس أنني أبيع شموعًا من صنع قصر راينلاند، لكان رد فعلهم تمامًا مثل ردكِ.”
“لن يجرؤ أحد على شرائها.”
“نعم، وإن لم أبعها فلن أتمكن من سداد ديوني، وإذا عجزت، فسينتهي بي المطاف إلى البيع لمقرضي الأموال… وهذا أشد من الموت ذاته.”
يا له من سر رهيب!
“لذلك، فإن كتمان هذا السر له ثمن.”
ظلت ليلى تفكر، ثم أطلقت ضحكة خفيفة.
“لو توقفتُ فجأة عن شراء شموع الآنسة هارينغتون بسبب امتعاضي من هذا السر، فسيبدو الأمر مريبًا للغاية.”
فالبـارونة بريغز كانت تُروّج لشموع جوديث بحرارة، ولو امتنعت عن شرائها فجأة، لتساءل الجميع عن السبب.
وشك طفيف من هذا النوع قد ينسف كل شيء.
على الأقل حتى تنقشع لعنة القصر المشؤوم ويستعيد مكانته، لا بد أن يبقى الأمر طيّ الكتمان.
ولهذا، كان إيرن يسلك الطريق الخلفي ويخفي وجهه تحت قلنسوته.
“رائع.”
بدت ليلى متفهّمة لمحنة جوديث، وأومأت برأسها موافقة بعد تردد طويل.
“طالما أن الآنسة هارينغتون ستكتم السر، فلن تخسر عائلتنا تجارتها.
آه، وستتحمّلين ثمن الخاتم.”
“لا تشغلي بالك بهذا.”
انحنت جوديث احترامًا لليلى، ثم غادرت العربة.
“أوه، صحيح.”
وقبل أن تذهب إلى إيرن، التفتت نحو ليلى فجأة بنظرة فضولية.
“فقط سؤال عابر.”
“ما هو؟”
“كيف يظهر رضيع فجأة… دون أن يُولد أصلًا؟”
راقبت جوديث تعابير ليلى، التي تجمّدت من الذهول تدريجيًا، ثم اكتفت بهز كتفيها واستدارت.
“أنتِ حقًا تحبين الضمانات.”
وقبل أن أنبس بشكر، زمجر إيرن ساخرًا وقال:
“كان من الممكن تجنّبه… لكن، من أين جئتِ بتلك العبارة؟”
هل ارتجلها للتو؟ يُقال عنه إنه فارس بارع، لكنه يبدو بارعًا أيضًا في هذا النوع من التلاعب…
“اشتريتها.”
“هاه؟ ومن أين لكِ المال؟”
أملت رأسي حتى كاد أن يلامس كتفي، فربّت إيرن على عنق الحصان وقال بلا خجل:
“من مالكِ أنتِ.”
شعرت أنني تعرضت لصفعة نفسية.
—
حين كنت أركض، تبعني إيرن وامتطى أحد الأحصنة، وصاح بصاحبه بأنه يريده حالًا.
بالطبع، لم يطلب إذنه.
كنت أعتزم إعادة الحصان ودفع أجرة يوم واحد، لكن مالكه أصرّ على الثمن الكامل، بحجة أنه كان سيبيعه في السوق على أية حال.
اضطررت لشرائه تحت تهديده بإبلاغ الشرطة إن لم أدفع.
وهكذا، أنفقت ما يعادل فوائد ثلاثة أشهر من الدين.
انحنت كتفايا، وازداد وجهي شحوبًا كما كان يوم اختطافي.
“ثمن زهيد مقابل الحياة.”
هكذا همس عقلي، لكن قلبي لم يشاطره الرأي… خصوصًا مع تعليقات إيرن التي بدت وكأنها تسلّيه.
“لكن… ماذا قلت في النهاية؟”
“ماذا تعنين؟”
“قلت إن الطفل في رحم البارونة لا يبدو ابنًا للبارون.
هل هذا مجرّد استنتاج أم أنكِ سمعته فعلًا؟”
هززت كتفي بلامبالاة.
“بل سمعته… في حفلة شاي أقامتها ماركيزة فيرني، سمعت إحدى السيدات تقول إن امرأة ما خانت زوجها، ولهذا لم تعد تُرى في المحافل الاجتماعية.”
لا بد أنها عانت من زواج قاسٍ برجل يكبرها كثيرًا.
“لا أعلم إن كانت البارونة هي المعنية، لكني أردت فقط أن أزرع في ذهن الآنسة بريغز فكرة أن بيدي أوراقًا أخرى غير الخاتم.”
قد تبدو المسألة غامضة، لكننا الآن في مركب واحد.
“إذا ورثت الآنسة بريغز اللقب، فسيكون لديها ما تخاف عليه.
وكلما زاد حرصها على كتمان السر، زادت قيمته.”
ظل إيرن يستمع بصمت، ثم عبس وكأنما يشك أنني أبتزّها.
“لقد كدتُ أُقتل وأنا أطالب بثمن القضية من ذلك المنزل.
أهذا أمر تافه في نظرك؟”
“كلما زاد الخطر، زاد العائد.
ومن لا يخاطر، يبقى فقيرًا إلى الأبد.”
وما الذي يعرفه الابن المدلل عن هذا؟ زمجرت غاضبة.
“أما الحصان… فسيكون من نصيب السير إيرن.”
“ماذا؟”
تراجع بدهشة.
“ما الأمر؟ تبدو متوجسًا؟ هل أنت مريض؟ يُقال إن تغيّر المرء فجأة دليل على قرب أجله.”
وضع يده على جبيني وقال بجديّة: “لايبدو أنكِ مريضة.”
دفعت يده بانزعاج وعبست.
“لا فائدة من بقاء الحصان معي.”
“ألستِ من كنتِ تفكرين ببيعه؟”
في الواقع، فكرت في ذلك.
“أنا ممتنة… لأنك لم تطلب الطلاق، ولأنك أنقذتني.”
ربما كانت لإيرن أسبابه للاحتفاظ بالزواج، لكنها لا تُقارن بأسبابي.
ولو أصرّ على الطلاق، لما استطعت منعه.
“هل الآنسة جوديث هارينغتون تشعر بالامتنان أيضًا؟”
أهذا وقت السخرية ممن يعبّر عن امتنانه بصدق؟
“لا تريد الحصان؟أذن… سأبيعه، أو آكله.”
“لا تقولي هذا أمام طفل يسمع!”
غطّى إيرن أذني الحصان بعناية.
ومن عدم اعتراضه على أخذه، يبدو أنه يكره المشي فعلًا.
“لكن طريقتك في الحديث توحي وكأنكِ لن تعودي.”
“ألن ترحل أنت؟”
فعندما تُفضح الهوية المزيفة، سيرحل إيرن بحثًا عن كليف.
وبعد أن يسمع من كليف خبر وفاته، هل سيعود إلى قصر راينلاند؟ إلى امرأة لم يعرفها سوى أيام معدودة؟
إجابتي كانت: لا.
“كنت سأمنحك مصروف السفر، لكني أقدّمه الآن كهدية.”
“مصروف سفر؟ هل أنتِ بخير؟ لمَ تتصرفين بهذه الطريقة الغريبة؟”
“ألم تكن تتوسل إليّ لشراء حصان؟ والآن بعدما اشتريته لك، لماذا… هاه؟”
سائل دافئ سال من أنفي وبلّل شفتي.
لمست أنفي بأصابعي، فإذا بطرفها يكتسي باللون الأحمر.
“صحيح، أنتِ مريضة… يبدو أن وقتكِ قد حان.”
بل وقت الذهاب إلى العالم الآخر.
“لم يحن بعد.”
أخرجت منديلاً، وضعته تحت أنفي، ونظرت إلى إيرن.
“لم أذق النوم منذ أيام… بسبب ذلك الخاتم.”
—
صرير… صرير… صرير…
“آه، بحق السماء.”
كنت أخمش أذني من صوت حشرة تنخر في مكان ما، أحدق بالأرض والجدران… أسمع الصوت، لكن لا أرى مصدره، لذا لا أستطيع القضاء عليها.
كان هذا الصوت يحدث أحيانًا في الماضي، لكنه ازداد مؤخرًا بشكل مزعج.
“هل أشتري مبيد حشرات؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ23
ذهبتُ لتوصيل طلبيّة إلى مستودع رجال بريغز، فوجدته أقل ازدحامًا من المعتاد.
ويعود الفضل في ذلك إلى أنّ الأمر انقضى بسلاسة ودون أي تعقيدات.
استمعت ليلى إليّ وتبعت البارونة، مقتنعة أن الخسارة أحيانًا خيرٌ من المكاسب.
في الواقع، كانت البارونة على علاقة غرامية بشاب آخر، تصادف أنه مساعد البارون بريغز.
ويُقال إن البارون فقد أعصابه وطرد البارونة شر طردة.
لقد كانت الصدمة عليه قاسيةً للغاية حتى أنه سقط طريح الفراش، ولم ينهض منذ ذلك الحين.
وبسبب هذا، أصبحت ليلى نائبة البارون، وهو ما يُعادل فعليًا تولّيها منصب ربّ الأسرة.
وقد غمرها شعور بالرضا، فأوفت بوعدها وطلبت كمية كبيرة من الشموع، بل وأرفقت معها مبلغًا من المال سلّمتني إياه مباشرة.
قالت مبتسمة:
“حين يضيق الحال، تنفتح الألسنة.”
فأجبتها بابتسامة ساخرة:
“أما الآن، فقد ثقل لساني يا آنستي.”
قالت وهي ترفع حاجبها:
“آمل أنك اعتنيت بالخاتم كما يجب؟”
“بالطبع.”
كان الخاتم قد دُمّر على يد الوسيط الذي كشف عن حقيقته، ورغم أنني دفعت مبلغًا إضافيًا مقابل ذلك، لم أتعرّض للخسارة، إذ حمّلت التكاليف على حساب البارون بريغز.
خرجت من قصر البارون بخُطى خفيفة كخفّة جيبي،
حين ناداني صوت من الخلف:
“عذرًا، آنسة.”
“نعم؟”
كان رجلًا ذا مظهر غريب، ربما بسبب الندبة التي تشوّه وجهه، وقد ترك في نفسي انطباعًا غير مريح.
“هل لي أن أسألك عن الطريق إلى الساحة؟”
“تابع السير مستقيمًا، ثم انعطف يسارًا.”
“شكرًا لكِ.
آه، بالمناسبة…”
أوقفني الرجل وأنا أهمّ بالانحناء للمغادرة.
“أنا لست من النوع الذي يتحدث بلا مناسبة، لكن هناك أمرًا غير طبيعي فيكِ، يا آنسة.”
كان في كلامه شيء مألوف ومثير للريبة في الوقت نفسه.
قال:
“إذا دخلتِ زقاق قائد الخيّالة، ستجدين خيمة مزيّنة بشرّابات حمراء.
إذا حدث شيء… تعالي إلى هناك.
سأمنحك نظرة مجانية، وخاصة.”
تعرفين الطريق؟ هناك طريق بالفعل.
أومأت له بأدب وغادرت المكان.
إن كنتُ عبدة لطائفة، فأنا من يدفع الثمن يا سيدي.
غادرت الرجل بسرعة، واشتريت ما كنتُ بحاجة إليه من السوق وعدت إلى القصر.
كان إيرن قد سبقني وعاد بعدما حصل على هوية مزيفة.
“هل عدتِ، سيدتي؟”
“السيد هنري جاء معك أيضًا.”
“علينا أن نقيم حفلة وداع لهذا الرجل.”
وكما هي عادته، لم يأتِ هنري خالي الوفاض، بل أحضر معه طعامًا ونبيذًا.
“ضعه فقط في طبق.
إذا دللتني على المطبخ، سأتولى الأمر.”
“تعال معي، سيدي هنري.
سأضع أغراضي وأعود فورًا.”
دخلت الغرفة، وضعت سلّتي، وارتديت مئزري، ثم خرجت.
“تفضل، سيدي هنري.”
“لحظة فقط، سيدتي.
لقد سقط هذا.”
كان هنري قد التقط كيسًا حريريًا أصفر اللون سقط من حجري.
“هاه؟ ما هذا؟”
“أليس من أغراضكِ يا سيدتي؟”
أمالت رأسي وفتحت عيني قليلاً.
غريب.
هذا الكيس لم أره من قبل، ومع ذلك يبدو مألوفًا بشكل مريب.
أمر غير مفهوم.
“ما الذي بداخله؟”
فتح هنري الكيس بغير اهتمام، وما إن نظر إلى داخله حتى تجمّد لثلاث ثوانٍ، ثم صرخ وألقاه نحوي بفزع.
“آآه!”
“سيدي هنري، ما بك؟ ما الذي في الداخل؟”
“ح… حشرة!”
“ما الخطب؟”
كان إيرن يوضّب أغراضه في غرفته، فهرع إلينا فور سماعه لصراخ هنري.
أشار الأخير إلى الكيس الحريري المرتطم بالأرض.
قلت مطمئنة:
“هل تخاف من الحشرات، سيدي هنري؟ هذا القصر كان مهجورًا لفترة طويلة، من الطبيعي وجود بعض الحشرات.”
سألني إيرن فجأة وقد ظل صامتًا لحظة وهو يحدّق في الكيس:
“هل سبق أن رأيتِ حشرة في هذا القصر؟”
“حشرة؟”
لحظة، هل سبق لي أن رأيتُ واحدة؟ سؤالٌ جعل علامة استفهام تطفو في رأسي.
عندما وصلت إلى قصر راينلاند، كان نظيفًا للغاية.
لا أثر لعنكبوت، ولا صرصور، ولا حتى ذبابة واحدة.
“لم أرَ واحدة، لكني كنت أسمع أحيانًا صوتًا يشبه صوت القضم.”
“صوت قضم؟”
“نعم، مثل: خَشْ خَشْ.”
كنت أسمعه دائمًا.
عند إعداد الحساء، أو عند الاستيقاظ، أو حين أظل مستيقظة بسبب البكاء… ذاك الصوت كان دائم الحضور.
“مهلًا، هذه ليست القضية الآن.
تلك لم تكن حشرة عادية، لقد تواصلتُ معها بالعين.”
“سيدي هنري، حتى الحشرات تملك أعينًا.”
رؤية عيونها صعبة، لكنها ممكنة.
“لا، سيدتي، هذه الحشرة… تملك أعينًا بشرية!”
“ماذا؟”
هل هذا منطقي؟ تناولت الكيس وفتحته.
“هاه؟ إنها ليست حشرة، بل قطعة ذهبية؟”
كان بداخل الكيس قطعة ذهب بحجم إصبعي.
لكنها لم تظل كذلك طويلًا.
فبمجرد أن نظرت إليها، بدأت القطعة الذهبية تتحرك.
رفعت رأسها، وعينان سوداوان، كعينيّ، ثبتتا نظراتهما عليّ.
سيقان لا تُحصى، جسد متجعّد، ووجه إنساني يتدلى منه.
“…!”
عندما لم أستطع أن أشيح بنظري عنها، انتزع إيرن الكيس من يدي فجأة.
وما إن اختفى من أمام عيني، حتى استعادت حواسي وصرخت بفزع.
“آآه!”
“أليس الصراخ جاء متأخرًا؟”
تنهد إيرن وأغلق الكيس بإحكام، ثم ألقاه على الطاولة.
“هل هذه المرة الأولى التي ترين فيها هذا الشيء؟”
عضضت شفتي وأنا أنبش ذاكرتي بحثًا عن إجابة.
الكيس الحريري الأصفر والذهب الذي يشبه الحشرة… كان مألوفًا!
“آه!”
تذكرت.
في اليوم الذي دخلت فيه قصر راينلاند أول مرة…
حين كنت أستكشف القصر، وجدت كيسًا حريريًا أصفر في غرفة سيدريك راينلاند.
“ما هذا؟ ذهب؟ يا للعجب.”
تذكرت أنني فرحت به كأنه كنز صغير، وفكرت في استخدامه كمال احتياطي للطوارئ.
لكنني لا أذكر ما حدث بعد ذلك.
كأن ذاك الجزء من ذاكرتي قد مُسِح.
“لكنه كان ذهبًا، أنا متأكدة!”
“لم يكن ذهبًا.
إنه كان حشرة منذ البداية، وأنتِ فقط رأيته كذهب.”
تركزت أنظارنا على إيرن، الذي بدا وكأنه يعرف شيئًا.
“هل تعرف ما هو هذا الشيء، يا إيرن؟”
“حشرة آكلة للبشر.”
“ماذا؟!”
“لا أعرف التفاصيل، لكن ما أعلمه أنك إن لُدغت منها، تموت.”
قطّب إيرن حاجبيه وكأنه يسترجع ذكرى.
“ألم تقولي إن أفراد عائلتك نزفوا من أنوفهم، وتقيأوا دمًا، وماتوا بثقوب في أعضائهم الداخلية؟”
“م… ماذا قلت؟!”
“نعم.
عندما سمعت قصة هذا القصر لأول مرة، بدا لي الأمر مريبًا.”
فالأعراض كانت مطابقة تمامًا لتلك التي مرّ بها إيرن عندما لُدغ من تلك الحشرة الذهبية.
لكنه لم يشك لحظتها.
“لم يكن القصر هو من يلتهم الناس… بل تلك الحشرة.”
“ولِمَ تقول هذا الآن؟! لماذا؟!”
كنت شاحبة، على وشك الانهيار، وقبل أن أنطق، وضع إيرن يده على فمي.
بدأت أسعل بشدة، وظهر دم على راحتي.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟”
بالطبع لا.
كيف أكون بخير وأنا على شفير الموت؟ ارتخت ساقاي وسقطت على الأرض.
“قلت إن هناك شرًا عالقًا بي، أليس كذلك؟”
“من؟”
“رجل غريب سألني عن الطريق وقال لي:
“هناك شر ملتصق بكِ، تعالي إن حدث شيء.””
مسحت الدم بمنديل قدّمه لي هنري، ثم التقطت الكيس ووقفت فجأة.
“عليّ أن أذهب إلى حيث أشار ذلك الرجل.”
إنه شخص تمكّن من ملاحظة الشر المتعلّق بي في لحظة خاطفة.
لا بد أنه يعرف طريقة لطرده.
“أين هذا المكان؟”
“زقاق الحدادين، الخاص بالخيول.”
“سيدتي، الحيّ هناك خطر.”
قال هنري وهو ينظر عبر النافذة التي بدأت تغيب عنها الشمس.
“الخطر يزداد ليلاً.
السرقة شائعة هناك.”
حتى الشرطة لا تجرؤ على التجوال في تلك المنطقة بعد غروب الشمس.
“لكن إن ذهبتِ مع إيرن، فسيكون الأمر آمنًا.”
قال هنري هذا بعد لحظة تفكير وهو ينظر إليّ بقلق، ثم التفت نحو إيرن.
“ولِمَ تُقحمني فجأة؟”
“حتى وإن نُزعت عنك صفتك كفارس، لا بد أن تحتفظ بروح الفروسية يا إيرن.”
ناوله هنري سيفه، ووضعه في يده قائلًا:
“أظن أن هذا آخر عمل نبيل ستقوم به قبل رحيلك.”
نظرت إليه برجاء، كمن تتوسّل من أجل حياتها.
كانت نظرتي منكسرة، وشفتي الصغيرة مضمومتين، مثل أرنب ابتلّ بالمطر…
‘أرنب؟ هل تتجمّد كل الأرانب حتى الموت؟’
نفى إيرن هذه الفكرة سريعًا، لكنه لم يستطع تجاهل تلك النظرات البائسة.
زفر قليلًا، ثم وقف.
“هيا، قودي الطريق.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ24
بالقرب من محل الحداد المختص بالأحصنة، بدأت أعداد المارة تقلّ تدريجيًا.
وما إن دخلت الزقاق المجاور للورشة التي كان يديرها حداد كالح الوجه، حتى تبدّل الجو بشكل غريب.
“قالوا إنها خيمة تتدلى منها شرّابات حمراء.”
“أهي هذه؟”
كانت عصا مشي تتدلّى منها شرّابات حمراء معلقة مكان اللافتة أمام خيمة صفراء محشورة بين عشش قديمة.
“أظن ذلك. هه؟ إنه ذلك الرجل.”
وفي اللحظة نفسها، خرج الرجل الذي سبق أن أخبرني بأن شيئًا شريرًا يتبعني من الخيمة.
“ذلك الرجل؟”
“نعم، لماذا؟ هل تعرفه؟”
أعرفه… أعرفه جيدًا، وتلك هي المشكلة.
رفع إيرن غطاء رأس عباءة جوديث وسحبه للأسفل، ثم التفت مبتعدًا.
روام؟ ما الذي جاء بهذا الصبي إلى هنا؟
“هل أنت متأكد أنه هو؟”
“نعم، متأكد.
قال إن شرًا ما ملتصق بي.
لماذا تتراجع إذًا؟ هل تعرفه يا سيدي إيرن؟”
“ليس وسيطًا روحيًا.”
“إذًا من يكون؟”
“خائن.”
خائن؟ من أين ظهر هذا الخائن فجأة؟
“كان في نفس فرقة الفرسان التي أنتمي إليها.
دعينا نخرج من هنا أولًا، سأشرح لك لاحقًا.”
وإذا كانت فرقة الفرسان المقصودة شبيهة بفرقة إيرن، فهي بالتأكيد الفرقة الثالثة التي تحرس قصر الإمبراطورة.
كانت الإمبراطورة وفرقة الفرسان الثالثة، العقل المدبّر في القصة الأصلية، يعملون معًا، لكن إيرن لم يكن ضمن تلك اللعبة.
في الواقع، تأسست فرقة الفرسان الثالثة بدعم من جهات تشارك الإمبراطورة رؤيتها.
طُرد إيرن من فرقتي الفرسان الأولى والثانية بسبب طبيعته “الكلبية”، وأُلحِق بالفرقة الثالثة كخيار أخير.
ولأنه لم يكن شخصًا ودودًا، لم يكن على وفاق مع باقي الفرسان في الفرقة، ولم يكلف الآخرون أنفسهم عناء التقرب منه.
في تلك الأثناء، خططت الإمبراطورة لاغتيال الإمبراطور وولي العهد، مع الإبقاء فقط على طفل ولي العهد.
وحين تمكنت أخيرًا من أسر البطلة – التي كانت تحمل طفل ولي العهد – نفّذت تمردها.
خلال التمرد، اتخذت الإمبراطورة البطلة رهينة وقيّدت يدي ولي العهد، إلا أن إيرن، المكلّف بحراستها، أطلق سراحها، مما أدى إلى فشل الثورة.
ندمت الإمبراطورة حتى لحظة موتها لأنها لم تنجح في كسب ولاء إيرن مبكرًا.
وباستثناء إيرن، الذي أنقذ البطلة في النهاية، تم تطهير كل من كان ضمن صفوف الإمبراطورة.
فلماذا لا يزال هناك أحياء من الفرقة الثالثة؟
“إهيت.”
فجأة، توقف إيرن، الذي كان يسير محتضنًا كتف جوديث، واستدار فجأة.
“لا يزال هناك شخص آخر حي.”
لا، من المفترض أن النهاية كانت سعيدة، حيث أُعدم الجميع وأُغلق الملف بالكامل، فلماذا هناك هذا العدد من الناجين؟
أخفضت جوديث رأسها وسرّعت خطواتها.
“من هنا.”
انتقل إيرن من زقاق إلى آخر وهو يحيط جوديث بذراعه، حتى وجد منزلًا مهجورًا فدخل إليه دون تردد.
كان المنزل ضيقًا لا يحتوي على أماكن للاختباء.
دفع إيرن بجوديث إلى الزاوية الواقعة بين الباب والنافذة، ووقف أمامها مواجهًا الحائط.
“…”
كان تركيزه منصبًّا بالكامل على الأصوات القادمة من خلف الباب.
كانت مصاريع النوافذ المهترئة تصدر صريرًا مخيفًا وهي تهتز بفعل الريح.
أما جوديث، المحاصرة بينه وبين الجدار، فلم تكن تعرف أين تضع يديها.
إذا أنزلت يدها، ستلامس خاصرته.
وإذا أمسكت بخصره، ستبدو كأنها تعانقه.
وإذا رفعتها، ستلامس صدره.
وضع يدها على عنقه أو كتفه بدا هو الآخر غريبًا.
بل لعلّه الأغرب على الإطلاق.
وأخيرًا، وضعت يدها على ضلوعه.
“توقفي عن التحسس.
هل ترغبين بفعل ذلك في مثل هذا الموقف؟”
همس إيرن بصوت منخفض في أذنها.
ارتجفت جوديث وسحبت يديها وكأنها تحاول تقليص مساحة التلامس لأدنى حد.
“أنا أتحسس لأنه لا يوجد مكان أضع فيه يدي.”
“عذر جيد يا آنسة هارينغتون.”
وبينما لا يزال نظره مثبتًا على الباب، مال برأسه قليلًا وهمس:
“ما إحساسك حين لمستِني؟”
“…قاسٍ؟”
قاسٍ؟ في الواقع، لم يكن الإحساس سيئًا.
“صادقة كالعادة، حتى في هذا الموقف.”
في خضم هذا كله، من لديه وقت للمزاح؟ أرادت جوديث أن ترد عليه، لكنها أطبقت فمها عند سماع خطوات تقترب.
“…هناك.”
“…انظر.”
الحديث كان قريبًا بما يكفي لتفهمه بوضوح.
“يبدو أنهما اتجها إلى هذا الاتجاه.”
صرير—
انفتحت المصاريع.
عضّت جوديث شفتها كي لا يصدر منها أي صوت.
“هل أنتما هناك؟”
“لا أظن.
لكن هل أنت متأكد مما رأيته؟ هل كان فارسًا حقًا؟”
“يمكنك أن تميّز ذلك من مشيته.
أحدهما يمسك بسيف.
وقد تعلّم فنون السيف من الأساس.”
هل كانوا يبحثون عن إيرن؟
“هل من الممكن أنهم لم يكونوا يبحثون عنا؟”
“أقول فقط، من باب الحيطة.
دعنا نتحرّك من هنا.”
بدأ صوت الأقدام يتلاشى تدريجيًا.
وما إن اختفى الصوت تمامًا، أطلقت جوديث زفيرًا كانت تحبسه بصمت.
“قلت إنهم ماتوا كلهم، فكم بقي منهم على قيد الحياة؟”
ما الذي تفعله فرقة فرسان الإمبراطورية؟ هل من الممكن أنهم ماتوا ثم عادوا للحياة مثلي؟
قطّب إيرن حاجبيه عند سؤالها، ثم أمسك يد جوديث بسرعة.
“هذا سؤال لاحق.
المهم الآن هو الخروج من هنا.”
“علينا المغادرة.”
—
“لقد أفلت منا.
آسف يا سيدي روام.”
“لا بأس.
هو من النوع الذي لا يُمسك بهذه السهولة.”
لم يكن إيرن من الأشخاص الذين يمكن القبض عليهم بسهولة.
حتى بعد أن مات وعاد، لا تزال قدرته على إدراك الموقف وسرعته في التلاشي وسط الزحام كما كانت.
“هل تعرفه؟”
“أعرفه جيدًا.”
كان روام، نائب قائد الفرقة الثالثة، يتذكر أيامه مع إيرن.
في كل مرة يكلفه بمهمة، كان يختفي ويتكاسل، وإذا طُلب منه تدريب الجدد، يثير الفوضى.
كان متميزًا للغاية في القتال لدرجة أنه لم يكن بالإمكان هزيمته، لكن لا يمكن نقله إلى الفرقة الأولى أو الثانية.
“إذا كنت ستتكاسل، فابقَ متكاسلًا.
لماذا تخرّب العمل حين يحين وقت الجد؟”
“همم.”
لماذا لا أملك أي ذكرى جيدة معه؟
تلاشت الابتسامة التي كانت على شفتي روام.
وفي تلك اللحظة، دخل عجوز بثياب وسطاء روحانيين إلى الخيمة، وعلى وجهه علامات القلق.
“سيدي روام، صدر أمر بإيقاف العملية.”
“توقف؟ وأنا لم أفعل شيئًا بعد؟”
كان صوت روام يحمل الاستياء، فيما بدا على العجوز علامات المرارة.
“هذا صحيح.”
—
“كانوا من الأتباع، بلا شك.”
الأتباع.
قبيلة من الشارتين فقط، يشكّلون طائفة دينية. يعبدون إلهًا سحيقًا يُدعى “دوهاريتا”، وهدفهم إسقاط الإمبراطورية.
لطالما حلموا بإسقاط الإمبراطورية التي نبذتهم واحتقرتهم، وبناء وطن خاص بالشارتين وحدهم.
في القصة الأصلية، كانوا هم العقول المدبرة الحقيقية، وكانت الإمبراطورة واحدة منهم.
“من هم الأتباع؟”
“مجرمون على صلة بالإمبراطورة.”
كان هذا رد إيرن على سؤال هنري، لكنه لم يكن تفسيرًا كافيًا.
أما جوديث، التي كانت تعرف القصة، فهزّت رأسها صامتة.
لم يكن الأتباع معروفين على نطاق واسع، رغم كونهم المحرّضين الحقيقيين، وذلك بسبب البطلة في الرواية.
فالبطلة كانت واحدة من الأتباع، دخلت القصر لإغواء ولي العهد وتنفيذ مخططاتهم.
لكنها مع تطور الأحداث، وقعت في حب ولي العهد، وبدأت تضحي من أجله بلا توقف.
حتى الآن، لا تزال النظرة سلبية تجاه حقيقة أن الإمبراطورة الحالية، وأم ولي العهد القادم، هي من الشارتين.
فكيف سيكون الحال لو تبيّن أنها كانت من المتمرّدين أيضًا؟
أخفى الإمبراطور تلك الحقيقة حفاظًا على الإمبراطورة.
وانتهت الرواية الأصلية بجملة من نوع: “سنعالج الأمر من الجذور، فحسب”، لكن هل حدث ذلك حقًا؟
لم يكن الإمبراطور يدرك أن الخونة يجولون في العاصمة.
وعلى كل حال، كان على جوديث التظاهر بعدم المعرفة، فاكتفت بالنقر بلسانها في سرّها.
“هل ستتولى الأمر بنفسك؟”
“أنا؟ أي تحقيق سيجريه شخص ميت؟”
كان إيرن يعرف تمامًا كيف يستخدم كونه “ميتًا” في الوقت المناسب.
“اكتب رسالة إلى ماركيز موسلي، وسيتولى هو الباقي.”
وإذا كانوا قد عادوا للحياة مثله، فسيعرف ماركيز موسلي السبب.
وبدعم من العائلة المالكة، سيكتشف الحقيقة أسرع بكثير مما لو قام بذلك وحده.
“تتحدث وكأنك تأمرني بفعلها.”
“إن لم تفعلها، فهل أتحرك أنا، الميت؟”
ترك إيرن الأعمال المزعجة لهنري.
“لكن لماذا اقترب الخائن من زوجتك؟”
“يُقال إنهم كانوا يجمعون الأتباع بهذه الطريقة أيضًا.
يتحدثون عن شرٍ ملتصق، أو نحس، وما شابه ذلك.”
روام كان فارسًا، لا وسيطًا.
من الأرجح أنه تعرّض هو نفسه لذلك الشر العالق بجوديث بدلًا من أن يراه فعلًا.
هز هنري رأسه متفهمًا، ثم نظر إلى جوديث بدهشة.
“وماذا عن زوجتك؟ ذلك الوسيط أنقذ حياتها!”
“أوه، صحيح.”
يا له من اهتمام متأخر! وكأن حشرة كانت على وشك التهامي! أوه فعلًا!
قالت جوديث من بين أسنانها:
“أخيرًا تذكرتني.
شكرًا، لقد تأثرت لدرجة البكاء.”
تظاهرت جوديث بالبكاء، فظهرت علامات الارتباك على وجهي إيرن وهنري.
“آه، سيدتي؟ هل تبكين فعلًا؟”
“نعم؟”
مسحت جوديث عينيها، فتسللت دماء إلى ظهر يدها.
“هيه، هل أنت بخير؟”
“أظن أنك بحاجة لطبيب…”
شهقت جوديث فجأة ونظرت بصمت إلى يدها.
“…همف.”
ثم فقدت وعيها في الحال.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ25
“إيرن، هل تعرف كيف يمكن الهروب من تلك الحشرة؟ إذن ساعدني.
أليس هذا مثيرًا للشفقة؟”
بدا أن هنري قد تعلّق بجوديث، وكأن في داخله شعورًا بالأسى تجاهها بعد انهيارها.
“لا أعرف بالتحديد.
لكنني أعرف شخصًا يعرف كيف.”
“إذن أخبرني من هو، وسأُحضر زوجتي وأعود.
أما أنت، فتابع تنفيذ خطتك.”
لم يبدُ على وجه إيرن أيّ تعبير وهو ينظر إلى أمتعته المكدّسة، لكن في عينيه انعكست أفكارٌ متشابكة ومعقدة.
كان هنري يظن أن سبب اضطرابه هو تعثّر خطته لتعقّب “كليف” وكشف حقيقة وفاته، غير أن الحقيقة لم تكن كذلك.
فبمجرد أن وقعت عيناه على كيس الحرير المألوف، أدرك إيرن غريزيًا أن الأمر ليس محض صدفة.
“إيرن.”
“لا تقلق.
سأتولى الأمر.”
سواء أكان الأمر مصادفةً أم قَدَرًا، كان يمكنه أن يتجاهل كل شيء ويرحل، لكنه لم يستطع أن يصرف نظره عن جوديث.
رغم مرونتها، فإن الشراب الذي حصلت عليه بانكسار كبريائها، والحصان الذي اشترته له كهدية وداع، جعلا إيرن يتردد.
رغم أن اليد التي دفعت الثمن كانت ترتعش، ووجهها بدا وكأنه سيمزّق نفسه من شدة الحرج.
إذا فكّرت في الأمر… أليس في ذلك شيءٌ يُحترم؟ أن تفعل كل هذا رغم كراهيتها الشديدة له؟
…هل يُعد هذا تصرفًا نبيلًا؟ أيمكن وصفه بذلك؟ لقد منحها لقب “الكونتيسة” واسمه العائلي، بل أنقذ حياتها مرتين، فهل من المبالغة أن يتوقع منها حصانًا في المقابل؟
“لكن من هو ذلك الشخص؟ الذي يعرف عن تلك الحشرات؟ هل هو نبيل رفيع المستوى؟”
سأل هنري بقلق ظاهر.
“أظن أن هناك سببًا لعدم ذِكرِك إيانا له منذ البداية.”
“إنها ليست نبيلة رفيعة.
بل امرأة تعيش في أحياء الصفيح، على أطراف العاصمة.”
كان إيرن فقط لا يرغب في رؤيتها مجددًا.
—
صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير—
حككت أذني في نوبة من الغضب، إثر صوت الحشرة التي كانت تقضم بجوار طبلة أذني.
ذلك الشيء الذي ينهشني لا بد أنه نهاية حياتي.
لو تخلصت من هذه الحشرة… ألن أتمكن من النجاة؟ رميت كيس الحرير في المدفأة، فتطايرت شرارات.
مهما بلغت قوة هذه الحشرة المفترسة، هل بوسعها أن تهزم النار؟ حاولت تهدئة قلقي وأنا أضيف الحطب.
لكن بعد ساعات…
“مهما كان منظره قبيحًا، ألا يمكن على الأقل التخلص منه في مكان مناسب؟”
“…هاه؟”
إيرن، الذي غادر في الصباح الباكر، عاد وهو يحمل كيس الحرير الأصفر.
“أحرقتِه؟”
“كان في منتصف الرواق.”
كيف عاد إلى الرواق؟ خطفت الكيس من يد إيرن بسرعة، وألقيت به في جرّة الماء.
مهما كان قويًا، فهو كائن يتنفس.
ما لم يكن سمكة، فسيختنق ويموت.
لكنني كنت مخطئة.
فحين ذهبت إلى المطبخ لأعد الطعام، كدت أن أفقد وعيي عندما رأيت الكيس الحريري يتدلّى من رفّ المطبخ.
كيف عاد إلى هنا؟ لنفترض أن الحشرة زحفت مبتعدة.
وماذا عن الكيس؟
كيف بقي نظيفًا تمامًا دون أي أثر للاحتراق؟
“لو كان من السهل التخلّص منه، هل كانت أسرة الكونت كلها ستباد؟”
“هل سأموت هكذا، يا سير إيرن؟ تُلتهمني حشرة؟”
هناك آلاف الطرق للموت في هذا العالم، فلماذا أختار أن تلتهمني حشرة؟ ليست ذئبًا، ولا دبًا، بل حشرة تشبهني!
هل هذه هي النهاية؟ وضعت قطعة الخبز الملطّخة بالمربى جانبًا، وقد فقدت شهيتي تمامًا.
“لقد وجدت شخصًا يعرف كيف ننجو، وسأنهي هذه القصة.”
“حقًا؟”
“نعم.
سنذهب معًا لاحقًا.”
تنفّست الصعداء، لكن سرعان ما راودتني تساؤلات.
“من هو ذلك الشخص؟”
“شقيق والدتي.”
“يعني خالك؟”
هزّ إيرن رأسه نفيًا.
“إذن خالتك؟ لا، أعني… ما اسم شقيقة الأم؟”
بردت نظرات إيرن فجأة. لم تكن علاقته بها وثيقة بما يكفي ليسميها “خالة”.
لم تكن حتى غريبة… بل أسوأ من الغريبة.
—
هل كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري؟
كان ذلك العام الذي نال فيه إيرن لقب الفارس، وتم تعيينه في فرقة الفرسان.
أُرسل منفردًا للتحقيق في منزل يُقال إنه مسكون بالأشباح.
كانت طقوسًا تقليدية يُمارسها الفرسان القدماء على المجندين الجدد.
لم يكن إيرن يؤمن بالأشباح، فضحك وذهب بكل ثقة.
المنزل الذي يُشاع أنه مسكون، كان كوخًا صغيرًا عند أطراف الغابة.
بسيط ونظيف.
مهجور فقط، فانتشرت عنه الشائعات.
ولأنه كان يتحايل على المهمة، بدأ يفتح الأدراج والخزائن، إلى أن وجد كيسًا من العملات الذهبية تحت الأرضية.
كيس حرير أصفر بحجم جذعه.
كان داخله سبيكة من الذهب.
فملأه دون تفكير.
ظنّ أن ما وجده من ذهب يمكنه أخذه لنفسه.
ثم نسي الأمر تمامًا.
وبعد عدة أشهر، وفي يوم تسلّمه مكافأة مالية ضخمة، سعل إيرن دمًا لأول مرة.
ثم بدأ يضعف يومًا بعد يوم.
ينزف من أذنيه، أنفه، ويسعل الدم.
وأخيرًا طريح الفراش، لا يتوقف نزيفه.
ظن أنه يحتضر.
حينها فقط تذكّر والدته.
رغم أن ذكرياته عنها كانت مليئة بالسكر والشتائم، ورغم صراخها المستمر: “لقد دمرتَ حياتي”، إلا أنه كان يريد رؤيتها لمرة أخيرة قبل الموت.
أخذ كل ما ادّخره وذهب لرؤيتها.
فقد كان يعلم أنها لن ترحب به إن جاء صفر اليدين.
وما نفع المال إن كان الموت قريبًا؟
اعتبر ذلك بمثابة نفقة أخيرة.
نوع من ردّ الجميل للكونت الذي أنجبه ثم تركه يتربى في البؤس والبغضاء لثماني سنوات.
ذهب إلى المنزل الذي عاش فيه معها أثناء مرضه، لكنه لم يجدها.
بل وجد جدّته، وخالته وكاميلا.
ومنذ ذلك اليوم، عاش إيرن على حافة الموت.
لا يدري كم مضى من الوقت، حتى استفاق ليجد كاميلا تطرده بغضب:
“ارحل، ولا تعد مجددًا.”
طُرد من دون تفسير.
لكن الغريب… أنه شُفي تمامًا بعد أيام قليلة.
ولم يبحث عن والدته بعدها أبدًا.
ثم، قبل عامين، قبيل تمرد الإمبراطورة، أتت كاميلا لزيارته.
كان واضحًا أنها تطلب المال.
فأعطاها دون كلام، فقابلته بوقاحة وقدمت له ورقة كُتب فيها عنوان منزلها.
“إن أردت أن تسمع القصة، تعال وابحث عني.”
قصة؟ عن والدته؟ أو جدّته؟ لم يكن يهتم.
فوجه والدته قد أصبح باهتًا في ذاكرته، فما فائدة نبش الماضي؟ اعتبر ما فعله مجرد ردّ جميل لإنقاذ حياته يومًا ما.
لكن عندما رأى كيس الحرير الأصفر مجددًا في قصر راينلاند، أدرك أن “القصة” التي تحدّثت عنها كاميلا، لم تكن عن أمه… بل عن تلك الحشرة الغريبة.
عندما سمع عن مذبحة آل راينلاند، خطرت له لمحة من ذلك الكيس وتلك الحشرة الذهبية.
لم يكن يعلم ما الذي قد يحدث إذا قتلتك حشرة، لكنه لم يتخيل قط أن الحشرة ستكون في قصر الكونت راينلاند.
كيف وصل كيس الحرير الذي التقطه طفلًا إلى هذا المكان؟
شاء أم أبى، حان وقت سماع السبب.
—
منزل كاميلا.
أتيت هنا طلبًا للنجاة، لكنني شعرت وكأنني أجلس على فراشٍ من الشوك.
كنت قد خمّنت أن علاقتها بإيرن ليست وطيدة، ولكن أن تبلغ هذا الحد؟
حتى أثناء دخولنا، لم يتبادلا التحية.
بدلًا من السلام، أخرج إيرن كيس الحرير ورماه نحو كاميلا، التي عبست قليلًا ثم أومأت برأسها.
عينان خضراوان، تشبهان عيني إيرن، حدّقتا في الكيس.
“كنت أعلم أنك ستعود بسببه، لكني لم أتوقّع أن أراه مجددًا.”
كان في صوتها شيء ينذر بالسوء، تمتمت بكلماتٍ لم أُميّزها… دعاء أم تعويذة؟
“هل تعرف ما هذا؟”
لم يذكر إيرن شيئًا عني، ولم تسأل كاميلا من أكون أو لماذا أُحضرت.
سألتني فقط إن كنت أرغب بكوب شاي، ما جعلني أشعر بغرابة أكثر.
“إنه نوع من الحشرات تُدعى ‘عصفورة الذهب’، آنسة.”
“عصفورة الذهب؟”
“إنها حشرة تجلب لصاحبها كنوزًا وذهبًا وفضة، مقابل أن تختاره سيدًا لها.”
هاه؟ حدّقت في الكيس الحريري بنظرة جديدة.
مجرد دودة؟
“وبينما يُفتن السيد بالثروات، تكون الحشرة قد بدأت بأكله من الداخل.”
ماذا؟ آفة؟
“وفي النهاية… يموت الإنسان بعد أن تُثقب أعضاؤه.
ينزف من كل فتحة في جسده.”
فركت ساعدي وأنا أتذكّر مشهد الدم يسيل من أنفي.
جسدي اقشعر.
“وماذا أفعل إذًا؟”
“هناك طريقتان: الأولى… إطعام الحشرات.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ26
“إطعام؟”
“يقال إنه إذا قتلت شخصًا كل عام وقدّمته كقربان، فإن المالك يظل حيًا.
أو بإمكانك تقديم فريسة للحشرة الذهبية.”
تلتهم الحشرة الذهبية الجميع، وإذا لم يبقَ من تأكله، يكون آخر من تبتلعه هو المالك.
“سمعت أن العائلات التي لا تعيش معًا لا تُؤكَل.”
“ولماذا؟”
“لا أعرف التفاصيل.
التقطت الحديث على مراحل.
لو كان زعيم القرية حيًا، لسألته.”
لم تكن كاميلا ولا والدته على دراية تامة بالحشرة الذهبية.
غير أن زعيم القرية حينها، وهو شيخ من قبيلة شارتين، كان يملك قدرًا ضئيلًا من المعرفة بشأنها.
“قال زعيم القرية إنه لم يسمع عنها سوى كأسطورة، وكانت تلك المرة الأولى التي يراها بعينه.
على أي حال، هناك طريقة ثانية: تمرير الحشرة الذهبية لشخص آخر.”
يبدو الأمر بسيطًا، لكنه لم يكن كذلك أبدًا.
“ذلك لأن الحشرة الذهبية تختار مالكها.
من يرغب في امتلاكها عليه أن يسرقها، أو يعثر عليها مصادفة.”
وأضافت كاميلا أن الطمع أو الرغبة قد يكونان ما يجذب الحشرة الذهبية.
“وطبعًا، ضع في حسبانك أن أغلب من يعثرون عليها يلقون حتفهم.”
وبما أن القليلين فقط يعرفون بوجودها، يكون مالكها غالبًا هو الضحية.
“بمعنى آخر، يمكنك أن تجعل شخصًا تريده أن يموت، هو من يعثر عليها.”
لمعت عينا إيرن الخضراوان، اللتان كانتا تصغيان بصمت، ببريق حاد.
“تلك الحشرة كانت في قصر راينلاند.
ما الذي حدث؟ لا تعتبر الأمر مجرد مصادفة.”
“نعم، ليست مصادفة.”
اهتز صوت كاميلا، الذي ظل ثابتًا حتى بعد رؤيتها لكيس الحشرات، خفيفًا.
كان هذا هو مستهل “القصة” التي أرادت كاميلا أن تحكيها لإيرن، “القصة” التي كان بحاجة حقيقية لسماعها.
“هل تعرف كيف ماتت والدتك؟”
“ألم تخبريني أنها توفيت بسبب المرض في ذلك الوقت؟”
“لا، في الحقيقة، لقد قُتلت.
أخفيت الأمر عنك لأنك كنت صغيرًا جدًا، وخشيت أن تنهار.
لكن الآن، حان الوقت لتعرف الحقيقة.”
قبل خمسة وعشرين عامًا، كانت والدة إيرن، سيسيل، تعمل خادمة في قصر كونت راينلاند.
ثم حملت من الكونت.
في ذلك الحين، كان الكونت متزوجًا بالفعل، وله ابن من الكونتيسة.
تم طرد سيسيل من القصر، وقطعت علاقتها بوالدتها، التي أمرتها بإجهاض الطفل.
لا كاميلا ولا إيرن يعرفان لماذا أصرّت سيسيل على إنجاب إيرن.
ثماني سنوات لم تكن كافية لتكوين ذكريات وفيرة مع والدته، لكن حتى ما يذكره، لم تكن سيسيل فيه سعيدة.
كان الفقر يلاحقهما دائمًا.
ولم يكن نادرًا أن يقضيا أيامًا دون طعام.
في مرحلة ما، بدأت أمه تشرب الكحول.
وحين تسكر، تلعن الكونت وتفرغ غضبها في وجه إيرن.
كانت تفقد السيطرة، تلوّح بيدها، ثم تبكي ندمًا على ضربها لطفلها الصغير، وتختفي بعدها.
ثم تعود لاحقًا وقد جمعت بعض المال، فيعمّ الهدوء قليلًا، إلى أن ينفد المال مجددًا.
لكن ذلك الهدوء لم يكن دائمًا.
لا يزال إيرن يتذكّر وجه والدته المرتجف وهي تخنقه أثناء نومه، ثم تصفعه فجأة.
لماذا توقفت؟ لم يقاومها حينها.
ولا يزال إلى الآن يجهل السبب.
ولو علم أن الأمر سيستغرق كل هذا الوقت ليفهم، لكان سألها قبل أن تموت.
بعد ذلك الحادث بأيام قليلة، أرسل كونت راينلاند رسولًا ليبلغهم بأنه سيأخذ إيرن.
لم تعترض سيسيل.
ولم يعترض إيرن.
لم يلتفت إلى والدته، التي أمسكت بكيس ثقيل من المال عوضًا عن يده.
لم يكرهها، ولم يحمل حقدًا عليها.
ظنّ حينها أن هذا كان أفضل وداع ممكن.
“إيرن، بعد ذهابك إلى قصر الكونت، عادت أختي إلى المنزل.
كنت أسمع بكاءها أحيانًا في الليل، لكنها بدت بخير.”
تخلّت سيسيل عن الكحول، وعادت إلى العمل.
تتذكر كاميلا تلك الأوقات الهادئة القصيرة، حين ضحكن وتحدثن معًا كعائلة.
“ثم، فجأة، أراد كونت راينلاند قتلك.”
ظنّت كاميلا أن سيسيل فقدت صوابها.
لماذا يرغب الكونت في قتل ابنه؟ لو كان كذلك، لما أخذه من الأساس.
“مهما حاولت إقناعها، لم تكن تستمع.
وانتهى بها المطاف بالذهاب إلى القصر.
لا بد أنها أثارت فوضى، وطالبت الكونتيسة بأن تعيدك إليها.
ولا شك أن الكونتيسة كرهت رؤية أختي.”
أمرت الكونتيسة بضرب سيسيل، وسُكبت عليها مياه باردة، وأُلقي بها في زقاق مهجور.
“كان يومًا قارس البرودة.
وبلا أي مساعدة، ماتت أختي.
في ذلك الشارع المتجمد.”
عندما عثرت كاميلا عليها، كانت قد فارقت الحياة.
“لا تزال تلك الصورة محفورة في ذهني.”
سيسيل، تحتضر وحدها، منكمشة، وجسدها مليء بالجروح.
“بصراحة، لقد كرهت الكونتيسة.
لم يكن هناك أي داعٍ لقتلها.”
لكن، الحقيقة أن الكونتيسة كانت تملك مبرراتها.
حين أعادت الطفل غير الشرعي الذي كانت قد تخلّت عنه، لا بد أنها فعلت ذلك لغاية في نفسها.
في ذلك الحين، كانت الأوضاع على الحدود متوترة، وهناك شائعات بحرب قادمة خلال عشر سنوات.
وفي تلك الحالة، كان لا بد لأحد من عائلة الكونت أن يقود الجنود إلى الحرب.
اختارت الكونتيسة التضحية بالابن غير الشرعي بدلًا من إرسال ابنها سيدريك.
في الواقع، أولت إيرن عناية تامة.
ألبسته مثل إخوته، أطعمته نفس طعامهم، بل ووفرت له معلمًا خاصًا.
وبهذا، بدأت تغرس داخله شعورًا بالدَين.
لقد نلتَ نعمة القبول، لذا عليك أن تردّ الجميل. افعل شيئًا من أجل أولئك الذين رحّبوا بك كأخ، رغم أن أمك كانت مختلفة.
ثم، أخبرته أن سيسيل باعت ابنها وتعيش مع رجل آخر مستخدمةً المال الذي تتلقّاه كنفقة.
لكن لا بد أن الكونتيسة شعرت بالانزعاج الشديد عندما ظهرت سيسيل فجأة، محاولةً تدمير كل شيء.
“بعد أن ماتت أختي بهذه الطريقة، لم تذق والدتي طعم النوم الهانئ يومًا واحدًا.
ثم ظهرت أنت.
تبدو كأنك على حافة الموت.”
وأنت تحمل تلك الحشرة الغريبة.
“في اليوم الذي جئت فيه، غفوت وأنا أعتني بك، وعندما استيقظت، كانت أمي قد اختفت.
وأنت جئت لتعطي أختي تلك الحشرة وذلك الكيس من الذهب.”
خرجت كاميلا تبحث عن والدتها، لكنها لم تجدها. أول من رأته من أقاربها كان جثة، وأمها مفقودة.
وبينما كانت على وشك الانهيار، ظهر عامل من الكازينو يحمل والدتها المصابة.
“وعندما سألتها عمّا كانت تفعله، قالت إنها أعطت الحشرة لأخيك غير الشقيق.”
كانت تعمل كمنظفة في الكازينو دون أجر، تترقب سيدريك، الأخ غير الشقيق لإيرن وابن الكونت الأكبر، أن يظهر.
ثم، بعد أن خسر كل أمواله، لمح كيس النقود.
ولأنها لم تكن سوى عجوز فقيرة المظهر تحمل ثروة، ظنّ سيدريك أن السرقة من حقه.
“سرق المال، وأخذ الحشرات التي كانت بداخله.”
كان بإمكانه الاكتفاء بالمال، لكنه أصرّ على ركوب حصان، ومطاردتها، ثم دهسها عمدًا.
لم يكن مصيرها غامضًا.
صدمتها حوافر الحصان، ولم تحصل على أي علاج ملائم.
“…هل ماتت حينها؟”
“نعم.”
ضحك إيرن ضحكة من هول القصة التي بدت أشبه بكابوس.
كلا من والدته وجدّته قُتلتا على يد عائلة راينلاند.
لكن، بما أن الحشرة انتقلت إليهم، فقد ماتوا هم أيضًا.
فهل كان هذا نوعًا من الانتقام الناجح؟
“انتظر لحظة.”
نهضت كاميلا، وبدأت تفتش في الخزانة القديمة وأدراجها.
“أين كانت؟ آه، ها هي.”
أخرجت ورقة صفراء باهتة.
“كان زعيم القرية قد كتب فيها كل ما يعرفه عن الحشرات.
احتفظت بها تحسّبًا، وها نحن نحتاجها.”
ترددت كاميلا للحظة، ثم قالت:
“لقد استثمرت المال الذي أقرضتني إياه مؤخرًا بشكل جيد.
وسأرده لك يومًا ما، أعدك.”
“فلنعتبره ثمنًا لهذه القصة.”
طوى إيرن الورقة بيده، ونهض واقفًا.
لم تكن هناك تحية مثلما حدث حين جاء.
أومأت جوديث برأسها فحسب، وتبعته بصمت.
لقد كُشف سر القصر الملعون.
وتم العثور على طريقة للتخلص من الحشرة الذهبية.
رفع إيرن جوديث إلى ظهر الحصان، مفكرًا بأنه صار الآن قادرًا على التركيز على سبب تحوله إلى جثة لا تتحلل.
نظرت جوديث إلى كاميلا من الخلف، ثم أمسكت بخصر إيرن.
—
على ظهر الحصان، في طريق العودة إلى القصر.
“أشعر بعدم ارتياح.”
قطّب إيرن جبينه من همسة جوديث خلفه.
كان يتوقع أن تأتي هذه اللحظة منذ أن بدآ الاستماع إلى تلك القصص الغامضة، لكنها لم تكن لحظة مريحة.
“الشفقة تُثير اشمئزازي، فاحتفظي بها لنفسك.”
“لا أحب الشفقة التي تقتصر على الكلمات.
لكن هذا شيء قريب منها.
إن أردتِ أن تتعاطفي، فليكن بالمال.”
“إذًا، هل ستعطيني بعض المال؟”
لم تأتِ إجابة من جوديث.
نعم، لقد فهم.
هي لا تريد أن تصرف المال بدافع الشفقة، هذا كل ما في الأمر.
هو يكره الشفقة، لكن ما هذا الإحساس الغريب بالضياع؟
“إن كان هناك عزاء لا يكلف مالًا، فيمكنني منحه لك.”
“لا حاجة لي به.”
“لقد أصبحت فظًا جدًا.”
أين ذهب ذاك الذي كان يعاملني بالمثل؟
اشتعل الغضب في صدر إيرن.
“ليس لأني لست حزينًا… أنا فقط،
لست حزينًا.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ27
كان نبأ الوفاة المفاجئ صادمًا، لكنه لم يشعر بالحزن. كل ما في الأمر أنه كان يجد فهم جدته أسهل من فهم والدته.
متى كانت آخر مرة شعر فيها بالحزن؟
كيف شعر حين أرسلت الكونتيسة قاتلًا مأجورًا لاغتياله؟ هل شعر بالحزن؟ أم بالخيانة والغضب والانزعاج من أنه سيضطر لمواجهة نبلاء راينلاند من الآن فصاعدًا؟ نعم، هذا ما شعر به.
والدته، التي حملت به عشرة أشهر، أرادت موته.
لكن الكونتيسة ليست مختلفة عنها، ووالده لم يحمل أي توقعات حقيقية نحوه.
أطلق إيرن ضحكة ساخرة، وهو يلمح بأطراف عينيه أصابع جوديث وهي تعبث بخفة عند خصره.
حتى زوجته، التي ارتبط بها من دون قصد، كانت منزعجة من عودته إلى الحياة.
ومع ذلك، ها هو قد عاد من الموت بطريقة ما.
يا لسخرية القدر.
“هل يمكنني أن أحكي لك قصتي أيضًا؟”
“…فجأة؟”
ها هي المحادثة تنحرف مجددًا في اتجاه غريب.
لم يستطع إيرن حتى الاستغراق في حزنه طويلًا.
فلو تراخى للحظة، ستتلاعب به جوديث وتجعله يفقد توازنه.
“بما أنك شاركتني تاريخك العائلي، أليس من العدل أن أشاركك تاريخي أيضًا؟”
هل هذا هو مقياس العدالة بالنسبة لها؟
“أشعر بعدم الارتياح حين أسمع قصص الآخرين العائلية من دون أن أقول شيئًا بالمقابل.”
هل كانت تشعر بالضيق حقًا لأنها سمعت قصته؟ أم لأنها شعرت بالشفقة تجاه ماضيه؟
غضب إيرن.
لم يرد أن يشفق عليه أحد، لكنه شعر بغرابة لأن جوديث لم تُظهر أي تعاطف على الإطلاق.
هل كان يريد الشفقة؟ لقد بدأ إيرن يفقد بوصلته.
“إذا كنا ننظر إلى الأمر كقضية عائلية مؤسفة، فلست الوحيد الذي مرّ بمآسي.”
لا تَقِس الحظ السيئ.
هذه أول مرة يحاول فيها إنسان مواجهة ماضيه المؤلم العائلي، بل ويفعل ذلك بثقة تامة.
“اسمعي.”
“أرفض.”
“ولِمَ؟”
لم تفهم جوديث.
أليس البشر يجدون عزاءً في مصائب الآخرين؟ كيف يمكنه أن يرفض أن يكون هو ذلك “الشخص الأسوأ حظًا”؟ على أي حال، شخصيته غريبة بالفعل.
“هل تفكرين في التخلص من الحشرة؟”
“أنا أضع خطة بالفعل.”
عندما وصلا إلى القصر وترجلت عن الحصان، أخرجت جوديث الورقة التي أعطتها إياها كاميلا وبدأت تقرأ.
كل الجمل تنتهي بـ “يُقال”، “من المحتمل”، أو “ربما”، مما يجعل المصداقية ضعيفة، لكن لا خيار لديهم سوى الاعتماد على هذا المصدر الوحيد.
“يُقال إن سبب نظافة قصر الكونت يرجع إلى أن الحشرة تمنع دخول الأشياء القذرة إلى المنطقة المحيطة.”
شعرت جوديث بالدهشة وهي تقرأ الدليل.
حشرة تحب النظافة… بينما تتغذى على البشر.
“ويُقال إنها تُبقي مالكها على قيد الحياة لمدة عام كامل.”
“لكن أليس من الأدق وصفها بأنها مضيف وليس مالكًا؟”
قرأ إيرن الملاحظة من خلفها وسخر منها، لكن جوديث تجاهلت تعليقه كعادتها.
“ويُقال إنه خلال هذا العام، تزداد الثروة بطريقة ما.”
“بالفعل، بعد أن التقطت هذه الحشرة، حصلت على مكافأة وربحت مالًا من أول رهان.”
حسنًا، هذا يستحق الاستماع، فكرت جوديث وهي تهز رأسها بإعجاب.
“ما أقصده هو أن نجاح مشروعي حتى الآن كان بفضل هذه الحشرة.”
“وماذا بعد؟”
“يعني ذلك أنني يجب أن أحتفظ بها لعام كامل على الأقل!”
لم يجد إيرن ما يقوله.
هل نسيت تلك اللحظة التي انهارت فيها وهي تنزف من عينيها؟ وضع يده على جبينه وقرأ بنفسه آخر جملة في الورقة.
“يتم التهامهم من الحشرات كل دقيقة على مدار العام.
ألا ترين هذه العبارة؟ هل ترغبين أن تُؤكَلِي طَوال العام؟”
“ليس الأمر كذلك، لكن…”
“إذن توقفي عن الهراء وتخلصي منها الآن.”
كان إيرن حاسمًا، واضطرت جوديث في النهاية إلى الإذعان.
ومع ذلك، لم يكن قاسيًا.
تمدد على سريره وهو يفكر في وسيلة لنزع الحشرة عن جسد جوديث.
قبل أن يذهب إلى كاميلا، كان قلقًا من أن الحشرة لن تترك جوديث، أما الآن، فقلقه كان أنها لن تترك الحشرة.
ما كان ثابتًا، هو شغفها الجامح بالمال، حتى لو عنى ذلك اللهاث خلف حشرة قاتلة.
تُرى، هل عانت كثيرًا في الماضي بسبب الفقر؟
فهي لم ترمش حتى عندما سمعَت قصته، لا بد أنها مرت بجحيم مالي.
أُجبرت على الزواج برجل يحتضر بعدما جرّها شقيقها إلى الهاوية.
غلبه النعاس وهو يفكر في طريقة لإجبار الحشرة على مغادرة جسدها.
ولم يدرك حتى لحظة غفوته، أن الذكريات التي عادت إليه اليوم، والحقيقة التي كُشفت، لم تعُد تزعجه.
—
مرّت ثلاثة أيام.
وجوديث لم تتخلّ عن الحشرة بعد.
“يا لها من مخلوقة ماكرة ومقززة.”
لكن، على نحو غريب، بدا أن أعمالها تسير على نحو ممتاز.
رغم أن الشموع الملوّنة كانت منتجًا مبتكرًا، إلا أنها بيعت بسرعة مذهلة، حتى إن الزبائن كانوا يدفعون أموالًا إضافية، وانتشر صيتها بسرعة.
وكان الفضل في ذلك كله لتلك الحشرة.
وبينما كانت جوديث تداعب الحشرة من فوق كيس الحرير، تجهم وجهها فجأة.
“ألا يمكنك أن تصنعي لي 200 مليون ذهبية دفعة واحدة؟
ما هذا الهراء؟
تأكلين أرواح الناس ولا تستطيعين جمع هذا المبلغ؟
هل حياتي لا تساوي 200 مليون ذهبية؟”
أخرجت الحشرة من جيبها، وبدأت تلوّح بها مهددة.
“ألا تشعرين بالقرف؟”
منذ أن عرف هنري أن الحشرة والحقيبة الصفراء مرتبطتان ببعض، أصبح يرفض لمسها.
لكنها لم تُبْدِ أي اشمئزاز.
“إذا أعطيتني 200 مليون، سأقدّمك لضحايا أسمن وألذ.”
زفر هنري طويلاً وهو يراقب جوديث تحاول التهديد والإقناع، بل حتى عقد صفقة مع تلك الحشرة.
“إيرن، تخلص من الحشرة فورًا.
إن استمرت على هذا الحال، ستفقد زوجتك عقلها بالكامل.”
“لقد فقدته بالفعل.”
“كانت الحشرة عليها منذ لقائنا الأول.
إن تخلصت منها، ستعود لرشدها.”
هل هذا صحيح؟ تمتم إيرن وهو يراقب جوديث تهمس للحشرة: “هل أنت حشرة مفيدة أم آفة؟ فقط أخبرني”. وكأنها تتوقع ردًا.
“أظن أنها تعلّقت بها.”
“في هذه الحالة، هي مجرد حشرة أليفة”، قالها إيرن ببرود، فضربه هنري على ذراعه بشيء من الاشمئزاز.
“تخلّص منها فورًا! الحشرة تلتهم زوجتك.
أخشى أن يحدث أمر جلل.”
في تلك الأثناء، كانت جوديث تضع الحشرة بجوارها وتصلي من أجل فرصة تجارية جديدة، بينما أطلق إيرن تنهيدة قصيرة، يمرر يده بين خصلات شعره.
وتحققت مخاوفه.
رغم معرفتها بأنها تموت ببطء، لم تستطع جوديث التخلي عن الحشرة.
وتساءل في نفسه: هل كان سيدريك راينلاند هكذا أيضًا؟
“آه، أذني تحكّني.”
فركت جوديث أذنها وكأنها تسمع مجددًا صوت القضم المزعج.
بالطبع، كان بإمكان إيرن أن يتركها وشأنها.
لقد أخبرها كيف تتخلص من الحشرة، وبهذا أدى ما عليه من واجب أخلاقي.
ومع ذلك، لم يستطع أن يتحرك.
هل لأنه هو من ورّطها بتلك الحشرة؟ لو لم يأخذها إلى والدته، لكانت عائلة راينلاند بخير، ولم يكن كليف ليفعل ما فعله.
جوديث كانت ضحية صافية.
حياتها دُمّرت بلا ذنب.
وشعور الذنب الذي رافق اختياره الطفولي ظل يقيده مثل الأغلال.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ28
كانت جوديث في طريق عودتها من العمل، حين صادفها هنري.
“أوه، سيدتي! هل أنتِ متجهة إلى الداخل؟”
“هل السيد هنري ذاهب إلى مقر الكونت؟”
“نعم، لقد قررت زيارة إيرن.”
قال ذلك بلطف، وهو يحمل سلة جوديث عنها.
حتى تلك اللحظة، بدت الأمور عادية تمامًا.
“ستشعرين بفراغ كبير بعد رحيل إيرن.”
لكن جوديث أمالت رأسها بتساؤل عندما توقف هنري فجأة في منتصف الطريق، وبدأ يتحدث في أمور لا معنى لها.
“ألا يمكننا التحدث ونحن نتابع السير؟”
“نعم، نعم بالطبع.
لكن، سيدتي، اشتريت قبعة بالأمس.
هل ترغبين برؤيتها؟ إنها من الطراز الأكثر رواجًا هذه الأيام…”
رغم موافقته بالكلام، لم يتحرك هنري قيد أنملة، وكأن قدميه التصقتا بالأرض.
أمر غريب.
غريب للغاية.
ومع تزايد الشك في نظرات جوديث، ظهر إيرن قادمًا من جهة القصر.
“ماذا تفعل هنا؟”
“كنت في طريقي إلى المنزل.”
“رائع، فأنا أيضًا كنت عائدة.”
تبادل هنري وإيرن نظرات سريعة.
“ألم تكن قادمًا لتوّك من القصر، سيدي؟”
“لا… ليس تمامًا.”
شعرت جوديث أن هناك شيئًا غير طبيعي في سلوكهما.
تصرفاتهما بدت متكلفة وغريبة، لكنها لم تتمكن من تحديد السبب بدقة.
ومع انضمام إيرن، توقف هنري عن محاولة إلهائها، لكن توترًا غامضًا خيّم على الأجواء.
“لماذا الباب مفتوح؟”
تجهم وجه جوديث وهي تقترب من القصر لترى الباب الأمامي مشرعًا على مصراعيه.
منذ قدوم ليون وحدوث تلك الفوضى، أصبحت أكثر حذرًا.
“هل نسيتُ إغلاقه عند خروجي؟”
“حتى لو نسيتِ، لا يمكن أن يُترك بهذا الشكل.”
كان واضحًا أن أحدهم خرج مسرعًا دون أن يُغلق الباب خلفه…
“هل من المككن ان يكون… لصا؟”
اندفعت جوديث إلى الداخل، قلبها يعتصره القلق. كانت غرفة نومها مفتوحة ومبعثرة كما لو أن إعصارًا ضربها.
حدقت في الفوضى مذهولة، ثم استعادت وعيها وبدأت تفتش بجنون.
“مالي!”
اختفى الكيس الذي كانت تحتفظ فيه بعملة ذهبية وخمسين قطعة فضية، كانت تدخرها لسداد الفوائد.
“وحشتي! حشرتي الصغيرة العزيزة!”
حتى حشرتها الأليفة اختفت، وكأنها تبخرت مع المال!
—
في تلك الأثناء، كان ليون يخرج من قصر راينلاند بخفة، وابتسامة الانتصار ترتسم على وجهه.
“يا لها من غنيمة.”
يقولون إن لكل شخص لحظته، ويبدو أن لحظة ليون قد حانت أخيرًا.
عندما وصل إلى القصر، كان الشاب الوسيم قد غادر، وكانت غرفة جوديث خالية.
إلى جانب المال، وجد كيسًا يحتوي على سبائك ذهبية.
“رائع… انظر إلى هذا اللون!”
ذهب نقيّ بلا شك.
ضحك ليون بخفة، وخبّأ الكيس الحريري في سترته، ثم انطلق إلى بيت القمار.
وفي ذلك اليوم، فاز بالجائزة الكبرى في حياته.
—
في قصر راينلاند، كانت جوديث تغلي من الغضب بعد أن عرفت القصة، فأمسكت بزجاجة نبيذ إيرن.
“لم أتخيل أبدًا أن يكون هنري شريكًا في الأمر.”
كانت تشعر بأن هنري حاول تأخيرها عمدًا، ليتضح لاحقًا أنه كان يلهيها ريثما يتمكن ليون من السرقة والفرار.
وحتى إيرن كان يراقب ليون أثناء هروبه، وإن كان ليون يجهل ذلك.
شربت جوديث من النبيذ بشراهة.
“لم يكن الأمر لأجلك وحدك، بل لأجل الآنسة جوديث هارينغتون.”
انتزع إيرن الزجاجة من يدها.
“بدلًا من شكري على إنقاذ حياتكِ، تختارين أن تسكري؟”
زمّ شفتيه مستنكرًا.
كان يتوقع هذا من جوديث.
فهي من خططت أصلًا لإعطاء الحشرة لليون.
لكن التنفيذ تأخر كثيرًا، فقرر إيرن التدخل بنفسه.
“كنت سأُنجز الأمر في الوقت المناسب.”
“متى؟ قبل أن نموت بلحظة؟ المال لا فائدة منه بعد الموت.”
“سآخذه معي إلى القبر، إذًا.”
قطبت جوديث جبينها.
“كنت سأعطيه الحشرة بعد أن أجمع ما يكفي لسداد دَيني.”
لكن الآن، وقد فُقدت الحشرة، ما العمل؟
شعرت بالأسى أيضًا تجاه الحشرة التي هاجمت ليون دون ذنب.
“إن كان الأمر كذلك، فلا تقلقي.”
“هل هناك حل؟”
“سأطالب كليف بتعويضك، عن الأضرار التي لم تتلقي عنها شيئًا.”
حقًا؟ انفرج وجه جوديث.
“عزيزي، يبدو أنك كنت تخطط لكل شيء.”
“إن واصلتِ مناداتي بهذا الشكل، سأعطيك نصف المبلغ فقط.”
“وهل هناك احتمال لذلك، يا سيدي إيرن؟”
هدأت الأجواء في قصر راينلاند، وبدا أن الحياة تعود تدريجيًا إلى طبيعتها.
—
لكن…
“هذا غير معقول.”
توقفت الطلبات فجأة.
وتراجعت المبيعات بشكل مريع.
“إنه مطابق تمامًا لما صنعته!”
أحد المتاجر الكبرى بدأ يبيع شموعًا ملوّنة مشابهة تمامًا لمنتجات جوديث، بسعر أرخص وتغليف أكثر أناقة.
كيف يمكن لشموعها، التي كانت تبيعها في سلة، أن تنافس ذلك؟
كانت تتوقع التقليد، فصناعة الشموع الملوّنة ليست معقدة، لكنها لم تتوقع أن يكون التأثير بهذه السرعة والحدة.
ولهذا كانت تعمل على خطة بديلة: صناعة البخور.
لكن البخور أكثر تعقيدًا من الصبغة، ولا يزال في مرحلة الاختبار.
ولم يكن جاهزًا للطرح بعد.
وإذا استمر الوضع هكذا، فلن تتمكن من سداد الفوائد الشهر القادم.
“سميث لن يقف ساكنا ويشاهد.”
آخر أمل لها كان في التعويض الذي وعدها به إيرن.
“آمل أن يحصل عليه فعلًا.”
لكن شعورها لم يكن مطمئنًا.
فقبل مغادرة إيرن للقاء كليف، وصلتها رسالة منه يخبرها فيها أنه في طريقه للعاصمة ويرغب بلقائها هناك.
“سأقول لكِ كل شيء بصدق.
وإن لم تصدقيني، يمكنكِ شراء جرعة الحقيقة لي.”
عندما طلب منها شراء الجرعة، زادت شكوكها، وكذلك شكوك إيرن.
—
بعد أيام، في قصر كليف، وتحديدًا في غرفة المعيشة، تفاجأ إيرن كثيرًا من حال كليف الذي تغيّر جذريًا.
“لا تضحك.
على الأقل، الذي حاول قتلك، انتهى به الحال هكذا.”
كان وجه كليف شاحبًا، وعيناه غائرتان، ولم يعد يقوى على السير إلا بمساعدة خادمه وعكازه.
“كل هذا بسبب جرعة الحقيقة؟”
“يبدو أن مرضي المزمن تعارض مع تأثيرها.”
كانت زجاجة وكأس على الطاولة بينهما.
تناول كليف الزجاجة وسكب منها بيد مرتجفة نحيلة.
“اشرب.
ليست سامة، لا تقلق.”
الشرب في وضح النهار؟ كليف الذي يعرفه إيرن كان يعتني بنفسه جيدًا، ولم يكن يشرب عشوائيًا.
بدلًا من أن يشرب كأسه، أخرج إيرن جرعة الحقيقة من معطفه ووضعها على الطاولة.
“لقد وصلت إلى هذه الحالة، ومع ذلك لا تزال تصر على جرعة الحقيقة.”
“عندها ستصدقني.
لا أريد أن أُساق إلى السجن وأنا بهذه الحالة.”
وبعد أن ابتلع الجرعة، بدأ كليف يكرر جملته:
“سأنفذ الوعد الذي قطعته على نفسي لجوديث في الصالون.
فقط لا ترسلني إلى السجن.”
“هل ستكشف كل شيء؟”
“نعم.
ماذا تريد أن تعرف؟ لا، سأبدأ من البداية.”
بدأ كليف يحكي منذ لحظة وفاة سيدريك، آخر فرد في عائلة راينلاند.
“عندما أتيت لرؤيتك في الجنازة، كنت في السجن.”
كان رفاق إيرن يُعدمون واحدًا تلو الآخر.
وعندما خرج، لم يبق من يعرفه سوى القليل.
كان مدمنًا على الخمر، لا يرى أحدًا سوى صاحب النزل وصاحب الحانة.
“في ذلك الوقت، ظننت أنه يمكنني قتلك وأخذ اللقب منك.”
“فدسست السم في مشروبي؟”
“نعم.
أنا من سمم كأسك.
كنت آخر من رآك تلك الليلة.”
أخذ كليف يسكب الشراب كأنه ماء.
“خشيت أن تأتي لتقتلني بعد أن تستعيد قوتك.
لذا بادرت بإرسال قاتل مأجور.
كنت أريد أن أسبقك بالضربة الأولى.”
“صاحب الحانة مات في حادث عربة.
هل كنت السبب؟”
“رآني أضع السم في كأسك، فتخلصت منه.”
كان اعترافًا لا لبس فيه.
نعم، من يسعى للسلطة قد يلجأ للسم.
قد يرغب في القتل.
وإيرن فهم ذلك.
“لكن الآن، أريد أن أسأل: ماذا فعلت بجسدي؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ29
قال إيرن بنبرة حازمة:
“هذه المرة، أنا من سيسأل.
ماذا فعلت بجسدي؟”
فإن لم يكن كليف، الرجل الذي قتله بنفسه وتولّى جمع جثمانه، يعلم الحقيقة، فمن عساه يعلم؟
كليف، وقد بدا عليه الإرهاق بعد أن احتسى مشروبًا قويًا، أجاب:
“أنا أكثر اندهاشًا منك.
تأكدت من وفاتك في ذلك اليوم، بل وأمرت بوضعك في النعش.”
ثم أردف بنبرة واقعية:
“لو كنت مكاني، هل كنت لتتخلى عن جثة قتلتها بيدك؟ الجثة دليل، أليس كذلك؟”
كان كلامه منطقيًا.
فجسد إيرن كان شاهدًا على جريمته، ودائمًا ما يسعى المجرمون لإخفاء كل ما يربطهم بالجريمة، ولو كان أثرًا طفيفًا.
قال كليف موجّهًا كلامه إلى كبير الخدم:
“أحضره.”
وما هي إلا لحظات حتى عاد كبير الخدم بحقيبة مملوءة بالمال، وضعها على الطاولة أمامهما.
قال كليف:
“هذا هو التعويض الذي طلبته الكونتيسة آنذاك.”
كانت الحقيبة على بُعد ذراع من إيرن، إلا أن كليف اختار أن يسلمها إليه بنفسه.
“خذها، لا بد أن لديك جبالًا من الديون لتسددها.”
صمت إيرن برهة، فقد لمح ورقة بيضاء صغيرة تحت يد كليف التي أمسكت بالحقيبة.
قال كليف بنبرة مستعجلة:
“هيا.”
وفي اللحظة التي التقت فيها أعينهما فوق حقيبة المال، لاحظ إيرن ومضة في عيني كليف وهو ينظر نحو كبير الخدم.
كانت نظرة خاطفة، لكنها مشبعة بالخوف.
ولم يكن إيرن ليفوّت هذا التفصيل.
“… حسنًا.”
مدّ يده ليتناول الحقيبة، وشعر بملمس الورقة ينزلق إلى كفه.
“رحلة موفقة.”
“آمل ألا نلتقي مجددًا.”
خرج إيرن من غرفة الجلوس دون أن يلتفت إلى الوراء، بينما تولّى كبير الخدم إمساك لجام حصانه ورافقه حتى الباب الرئيسي.
وحين تأكد من أن كبير الخدم قد عاد إلى داخل القصر، فتح إيرن الورقة التي سلّمها له كليف خفية.
كان محتواها:
“لديك جاسوس موجود الآن في القصر،
أتعرض للتهديد، أنقذني.”
تمتم إيرن وهو يحدّق في الكلمات المرتعشة بخط مضطرب:
“وضع السم في كأسي…
ثم طلب مني ان إنقذه.”
تغيرت ملامحه وهو يطوي الورقة بإحكام بين أصابعه.
لا ضمير هنا أيضًا… لا ضمير.
كان كليف يراقب كبير الخدم عن كثب.
لا شك أن الأخير أحد أتباعهم.
“منذ أن تغيّر جسدي بفعل جرعة الحقيقة، شعرت أن هناك أمرًا غريبًا.”
هل كان يعاني من مرض مزمن؟ لو كان الأمر كذلك، لعرفه إيرن منذ زمن بعيد.
“بما أنه لجأ إلى كتابة رسالة بدل أن يتحدث،
فلا بد أن عددهم أكبر.”
تردد إيرن للحظة، ثم التفت نحو الماركيز موسلي. الأمور بدت أعقد مما تخيّل.
—
“توقف عن التحديق بي، ستثقب وجهي بنظراتك.”
“وكيف لي ألا أحدّق؟
كنتَ ميتًا، والآن تقف أمامي!
ما قصة الزواج؟ هل هو حقيقي؟”
تجاهل إيرن أسئلة الماركيز موسلي ببراعة.
قال له بصرامة:
“أبلغ رجالك.
يجب أن يبقى كليف أكرمان حيًا.
وإن تصرفت بغباء، فلن أرحمك.”
ضحك الماركيز وقال:
“ها هو إيرن الذي أعرفه.”
كان الماركيز شابًا في عمر إيرن تقريبًا، وقد بدا عليه الذهول عندما جاءه إيرن فجأة يطلب منه مطاردة أتباعه.
لقد قيل له إن إيرن مات، والآن يطلب منه ملاحقة أتباعه بعد موته؟ ظل يهمهم بذهول، حتى أمسكه إيرن من ياقة قميصه وهزّه قائلاً:
“استفق!”
لا أحد يعلم ما الذي أعاده للحياة…
لكن أن يُطلب منه مطاردة أتباعه بعد كل ما جرى؟ عبث.
ومع ذلك، أرسل الماركيز جنوده إلى الموقع الذي دلّه عليه إيرن، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال.
“ألم تمسك بـ ‘روام’؟”
“هل كنت أنت من بلّغ عنه؟”
“أجل، أعطيتك الموقع، كان عليك الإمساك به.”
“هذا ما أحاول قوله…”
لقد فرّ.
رغم تحركهم الفوري، انسحب الأعداء قبل وصولهم.
عندها انفجر إيرن غاضبًا واتهمه بالعجز حتى لو قُدّم له كل شيء على طبق من ذهب.
لم يجد الماركيز ما يقوله.
حتى لو امتلك عشر ألسنة، لعجز عن الرد.
قال إيرن:
“اذهب أنت إلى كليف أكرمان، وسأتولى البقية مع الجنود.”
تأمل الماركيز في وجهه وقال:
“ألا تبدو الأمور شديدة التعقيد؟”
رمقه إيرن بنظرة حادة، وكانت الكلمات: “إن كان الأمر كذلك، فلا تقترب مني”
على وشك الخروج من فمه، لكنه تراجع.
فقد كان مدينًا لإيرن بحياته مرارًا، ولا يملك رفاهية الاعتراض.
وبينما طوّق الماركيز القصر بجنوده، تسلل إيرن من الباب الخلفي.
وفور أن سُمع صوت صراخ من الداخل:
“من هناك؟!”
استلّ الماركيز سيفه وأمر رجاله:
“اقتحموا!”
—
تمكن إيرن من إنقاذ كليف بنجاح.
وقد أُلقي القبض على كبير الخدم وثلاثة من الأتباع في غرفة المعيشة أسفل موقع المحادثة.
كانت الأرض مرسومة عليها مثلثات مقلوبة، تفوح منها روائح أعشاب حارقة، والشموع غريبة الشكل تشتعل، وأحجار حمراء داكنة مبعثرة.
لم يكن هناك شك: كانوا يخططون لأمر مشؤوم.
قال كليف، الذي بدا مرتاحًا بعد إنقاذه، بوقاحة وهو يطلب كوب ماء:
“لا تُظهر هذا الوجه المرعب، سأخبرك بكل ما أعرفه.”
ناولَه إيرن كوب ماء بارد بصمت، رافضًا الحديث مع رجل مخمور.
وما إن شرب كليف الكوب حتى انفجر ضاحكًا بجنون.
“ذلك العجوز، لقد خفف حذره!”
قال إيرن بجمود:
“تحدث بوضوح.”
قال كليف:
“عندما شربت جرعة الحقيقة، أدركت أنني خاضع لتعويذة ربط.
لم يكن مرضًا مزمنًا، بل تعويذة تجعلني أتقيأ دمًا كلما حاولت البوح بأي شيء عنهم.”
كان كليف على صلة بجماعة الأتباع قبل الثورة، إذ كانوا عملاءه ومصدر دعمه القانوني.
لكن بعد فشل الثورة، قطع علاقته بهم.
فبدأوا بابتزازه بالأدلة.
واضطر لدفع المال مرارًا لتأمين هروبهم.
قال إيرن ببرود:
“لم أعلم أنك كنت تحت تأثير تعويذة تمنعك من الحديث.”
“أنا أيضًا لم أكن أعلم… حتى ذقت الموت مرارًا.”
ثم أوضح كليف أنه ذهب إلى المصح بناءً على أوامرهم، حيث أبقوه حيًا ليروا إن كان لا يزال نافعًا.
“حين استفقت، وجدت نفسي أمام بوابة العاصمة.
وكان جسدي قد أصبح… هكذا.”
قال له كبير الخدم إنهم سيعيدون له قدرته على المشي إن تعاون، وإن رفض، فسيتذوق العذاب.
“لكن اسمع يا إيرن…
لا قانون يُجبر إنسانًا على الموت.”
ابتسم كليف وهو يحدّثه عن أحد الأتباع البارزين الذين تعامل معهم، أعلى منزلة حتى من كبير الخدم، وقد وعده بفك التعويذة مقابل المال.
لم يكن كبير الخدم يعلم أنه سيُخدع.
وقد سلّم كليف سرًا وثيقة الإيداع المخفية في مكتبه لذلك التابع.
“وقد فكّ التعويذة فعلًا.
ولهذا استطعت أن أكتب لك تلك الورقة.”
وبينما كان تحت المراقبة، بدأ التابع يُظهر بعض التراخي، مما منح كليف لحظات نادرة من الخصوصية.
“طلبوا مني استدعاءك…
ورأيت أن اللحظة قد حانت.”
فمن سواه يقدر على إنقاذه؟
همّ إيرن بسؤاله عن مصير جسده، لكن كليف رفع إصبعه إلى فمه مشيرًا بالصمت، ثم قال:
“عندما قررت قتلك، اقترح كبير الخدم أن نحصل على السم من الأتباع.
قال إن تقديم المال وحده لا يكفي، وإن الأتباع هم الأفضل لمثل هذه الأمور.”
وافق كليف، دون أن يدرك أن كبير الخدم أحدهم.
“ثم طلبوا مني تسليم جسدك مقابل ذلك.”
قال إيرن بحدة:
“وماذا كانوا يريدون بجثتي؟”
“لا أعلم… لم أسأل حتى.
وضعتك في النعش، وأخذوه.”
كان يظن أنهم سيتكفّلون بالأمر.
لكن حين ظهر إيرن حيًا، أصيب بالذعر.
“الآن، أفكر أنهم أجروا تجارب على جسدك.”
“تجارب؟”
“في البداية، لم يعارض كبير الخدم إرسالي للقتلة.
لكن لاحقًا، حين أردت مضاعفة عددهم، أوقفني.”
“أليس هذا مريبًا؟” قال كليف وهو يعبث بكأسه.
“أعتقد أنهم كانوا يراقبون قدرتك على النجاة، ويريدون اختبار مدى صلابتك في القتال.”
فكبير الخدم هو من استدعى إيرن إلى القصر، ومنحه المال، وزوّده بالمعلومات.
“أثناء حديثنا، كان يراقبك عن كثب.”
ولولا ذلك، ما استطاع كليف تسليمه الملاحظة.
“أما أولئك الثلاثة الذين كانوا في الأسفل؟
أعتقد أنهم راقبوا ردود فعلك أثناء المحادثة.”
تنهد إيرن وهو يمرر أصابعه في شعره بانزعاج.
“اذهب واسأل كبير الخدم عن التفاصيل.
وبالمناسبة… شكرًا على إنقاذي.”
ابتسم كليف بسخرية، وكأن الأمر لا يستحق أكثر من ذلك.
لكن إيرن رد عليه بحزم:
“لا تفرح كثيرًا.
بما أنك عقدت صفقة مع أتباع، فقد تُحاسب بتهمة الخيانة.”
فردّ كليف، وهو يتلو من نص القانون:
“من يتعرض لتهديد بالموت أو أذى جسيم، يُؤخذ وضعه بعين الاعتبار عند تحديد العقوبة.”
ثم أضاف بابتسامة باردة:
“رُبما لا أستطيع استخدام سيقاني…
لكن رأسي لا يزال يعمل.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ30
“قلت للكونتسية إنني آسف.
لن أؤذيها مجددًا… ولا أنت أيضًا.”
سواء كانت هذه الكلمات اعتذارًا أم وداعًا، فقد تركها كليف خلفه وهو يُقتاد بعيدًا على يد الشرطة.
كان إيرن على وشك الرد، يتساءل إن كان يستطيع التلاعب بأي أحد، لكنه اكتفى بإيماءة يد عصبية.
“هل سارت المحادثة على ما يرام؟”
دخل ماركيز موسلي بعد أن تم اقتياد كليف.
وكان ذهن إيرن لا يزال في حالة من الاضطراب.
جسده قد نُقل إلى أولئك الأتباع الذين يعتقد كليف أنهم استخدموه في تجربة ما.
“أيها الماركيز،
قلت إن روام هرب من السجن قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه؟”
“نعم.”
“ربما ساعده كليف أو خادمه على الهرب.
فهم من نفس الجماعة.”
“سوف نُجري تحقيقًا دقيقًا.”
للأسف، فشلت خطة ماركيز موسلي منذ بدايتها.
فقد انتحر اثنان من الأتباع في الطريق، بينما هلك الثالث بسبب تعويذة الربط.
أما الخادم، فلم ينطق بكلمة واحدة، حتى أثناء الاستجواب القاسي.
قال فقط:
“سيدنا سيعود قريبًا.”
ويُقال إنه قطع لسانه بنفسه بعد ذلك مباشرة.
“جسدي استُخدم من قبل الأتباع.”
بعض المؤشرات توحي بأنهم أجروا عليه نوعًا من التجارب، لكن ماهية التجربة لا تزال مجهولة، وكذلك السبب الذي جعلهم يتركون الجسد في الغابة.
—
“لا يمكن أن يكونوا تخلوا عنه فقط لأن التجربة فشلت، صحيح؟ السيد هنري قال لي ذلك.
الغابة التي وُجد فيها الجسد نائية، ولا يدخلها إلا العشّابون.”
من خلال ما سمعه من إيرن، بدا منطقيًا أنهم تخلّوا عنه أثناء إجراء تجربة عليه.
ومع ذلك، لا أحد يعلم الحقيقة سوى أولئك الأتباع.
وعد ماركيز موسلي بمشاركة المعلومات مع إيرن.
رغم أن هذا الوعد لم يكن مغريًا، إلا أنني لم أستطع سوى الوثوق به.
فمهما كانت قدرات إيرن فائقة، لن يستطيع بمفرده تعقّب أولئك الأتباع في أرجاء هذه الإمبراطورية الشاسعة.
وقبل كل شيء…
“لم يعد لدي مال لتسديد الفوائد.”
“ماذا عن المال الذي أخذته من كليف؟”
“استخدمته في دفع فوائد الشهر الماضي وتغطية نفقاتنا اليومية.
الآن لا أملك شيئًا.”
لقد وصلت الأزمات المالية.
—
كان سميث يحصل على 20 قطعة ذهبية شهريًا كفوائد فقط.
وكان ذلك المبلغ يتطلب مني بيع أكثر من ألف شمعة لسداده.
لحسن الحظ — أو ربما للأسف — وبفضل القفل الذهبي، لم تكن الفوائد عبئًا في الماضي.
وخلال تلك الفترة، كان ضيوفي يمنحونني نقودًا إضافية، وكان تاجر المواد يخفّض الأسعار.
لكن الآن، بعد أن زال ذلك الحظ وظهرت المنافسة، أصبحت في مأزق حقيقي.
“…ربما أضطر فعلاً لتبني السيد سميث.”
عقد إيرن حاجبيه عند سماعه كلامي المتنهدة.
“أليس ذلك المقرض أكبر مني سنًّا؟”
قطّب إيرن جبينه، وكأنه يكره الفكرة.
“سأجمع كل الذهب الذي أملكه وأقدمه له، ثم أشرح له الوضع.”
“وهل ستعذرينه؟ سمعتُ أنه شخص سيئ.”
“لقد كنا مقرّبين في وقتٍ ما.
ألا يمكنه التغاضي عني مرة واحدة؟”
“وماذا لو لم أكن أراقب الموقف؟”
“حسنًا… ألن يتراجع إذا وضعتُ سكينًا على عنقه؟”
“ومن الذي سيجرؤ على ذلك؟”
نظرت إليه بحدة.
إن لم تكن أنت، فمن غيرك؟ كانت نظرتي مجنونة وأنا أقولها بعينيّ.
أراد إيرن أن يمازحني بأنه لا يطعن أحدًا، لكنه تراجع هذه المرة.
إذا استمر الحال على هذا النحو، سأجد نفسي جالسة بجانب جوديث أمصّ إبهامي.
“سأحاول اقتراض المال.
لكن إن قال سميث إنه سيبيعني، سأفقد وعيي.”
“كم عدد الأتباع لديه؟”
“حوالي عشرين شخصًا.”
حوالي عشرين؟ هذا يعني أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر.
وجميعهم رجال مسلّحون.
لكن إن لم يكونوا مدرّبين تدريبًا جيدًا، فقد يكون بإمكانهم الهروب مع جوديث إن بذلوا جهدًا كافيًا.
كان إيرن يظن ذلك…
حتى ذهب مع جوديث إلى مكتب سميث.
—
“…عشرون شخصًا؟ كيف يبدو هذا الرقم مثل عشرين، يا آنسة هارينغتون؟”
“لم يكن هناك هذا العدد في المرة الماضية.”
تجنبت عيني إيرن.
أربعة فقط كانوا يحرسون المدخل، لكن الممر المؤدي إلى مكتب سمث كان يعجّ بالرجال، غاضبين ومستلقيين.
وكان سميث… هو الأسوأ بينهم.
“أهلًا بك، كونتيسة راينلاند.”
رحّب بي بابتسامة متكلفة، كالمقرضين الذين لا تفارقهم الابتسامة حتى على ظهور خيولهم.
كان له وجه قبيح ومتطلب، بشارب مبتذل، وشخص مستعد لملاحقة الناس حتى الجحيم من أجل المال.
“هل هذا الذي معك خادم؟”
قطّب إيرن جبينه.
لم تكن رؤية سميث جيدة أصلاً.
كيف له أن يرى خادمًا بوجه مغطّى؟
“أم أنه حبيبك؟”
همس سميث، واتسعت عيناه على نحو مريب.
كم هو مقرف.
عبس إيرن حتى التصق حاجباه، أما جوديث فابتسمت وكأنها غير منزعجة على الإطلاق.
يا لها من معدة مذهلة.
بينما كان إيرن يفكر بذلك، تحدثت جوديث بنبرة أكثر ما تكون تواضعًا وشفقة:
“ها هي فوائد هذا الشهر، سيد سميث، ولدي طلب…”
“لا.”
قاطعها سميث مباشرة.
“لا…”
“لا، سيدتي.
حتى لو عصرنا خرقة جافة، هل سيخرج منها ماء؟”
هزّ رأسه وهو يقلّد حركة العصر.
“أنا لا أطلب تأجيل كل الفوائد.
فقط تأجيل نصف فائدة الشهر القادم إلى الشهر الذي بعده.”
“ما هذا الهراء؟”
كان سميث مصرًا على موقفه.
“يبدو أن العمل لا يسير جيدًا، أليس كذلك؟”
أومأت جوديث بحزن.
فضرب سميث الطاولة وقال:
“ماذا لو أريتك كيف يُعصر الماء من خرقة جافة؟”
“هل يمكنك مساعدتي في العثور على عمل؟”
أشار بذقنه السمينة نحو إيرن.
“الخادم يبدو قويًا.
يمكنه أداء العديد من المهام إن بذل بعض الجهد.”
كانت عيناه الدهنيتان تمسحان إيرن من الرأس حتى أخمص القدم.
“يا سيد سميث، انتبه لعينيك.
مع كل هذا المال، أليس من العار ألا ترى نفسك؟”
غضب إيرن من تعليق سميث، لكن الرد جاء من جهة غير متوقعة:
“آه، يا للأسف أنني لا أستطيع أن أراك، يا للأسف.”
“…”
جوديث؟ لماذا تردين عليه؟ وقف إيرن مذهولًا وهو يراها تبتسم وتنظر إلى خاتمه الذهبي.
“سواء أكان خادمًا أم حبيبًا، لديه شخصية رائعة.”
ابتسم سميث برضا.
“من يديه، يبدو أنه يقاتل كثيرًا.
ولديه شخصية نارية.”
كن حذرًا…
كن حذرًا.
كان إيرن مذهولًا حتى أنه لم يعد غاضبًا.
“لدي عمل له، يا سيدتي.
هل تعرفين شيئًا عن الحلبة؟”
“الحلبة؟ حيث يقاتل الناس من أجل المال؟”
“بالضبط.
لدي صديق يدير إحداها، ويشكو من نقص الوجوه الجديدة.
هل أكتب لكِ رسالة توصية؟”
اتسعت عينا جوديث عندما علمت أنها ستحصل على 50 قطعة فضية بمجرد دخول الحلبة كلاعبة.
“لماذا تسأل سؤالًا بديهيًا، سيد سميث؟ اكتبها الآن.”
… أليس من المفترض أن تسأليني رأيي؟
أنتِ لستِ من سيقاتل، أليس كذلك؟
يُقال إن الإنسان يصمت عندما يُفاجأ بما يفوق التوقعات، وكان إيرن مثالًا حيًّا على ذلك.
كان من المفترض أن تسأليني عن رأيي أولًا… أنتِ لن تقاتلي، صحيح؟
ابتسمت جوديث ببشاشة، أخذت رسالة التوصية، ثم شبكت ذراعها بذراع إيرن وسحبته خارج المكتب قبل أن يقول شيئًا.
“الساحات القتالية غير قانونية.”
قالها إيرن متبرمًا وهو يُسحب جرًّا.
“المرء لا يستطيع أن يعيش بالشرعية فقط.”
هل عليّ أن أعيش هكذا فعلًا؟
“ألم تقل إنك رجل يستطيع العيش خارج القانون؟”
“آه… لدي معتقدات مرنة.”
كل شيء عندها مرن… كل شيء! يا للجنون.
أدار إيرن وجهه بضيق، لكنها لم تتركه، بل أمسكت بذراعه وهزّته مبتسمة:
“سيدي إيرن بارع في القتال.”
طريقة الكسب في الحلبة بسيطة للغاية.
يراهن الجمهور على مقاتل، والفائز يأخذ المال.
ورغم أن النتيجة قد تبدو متساوية، إلا أن معرفة المقاتل الجيد تغيّر المعادلة.
وماذا لو كنت تعرف شخصًا قادرًا على سحق ثلاثة أو أربعة قتلة مأجورين دون أن يرمش؟
“هل يظن أولئك الحمقى في الحلبة أنهم نِدٌّ لسيدي إيرن؟ بالطبع لا.”
ثم رفعت جوديث إبهامها للأعلى تمدحه دون تحفظ، وكأنها تؤمن أنه لا أحد يضاهيه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 3"