قال إيرن بنبرة حازمة:
“هذه المرة، أنا من سيسأل.
ماذا فعلت بجسدي؟”
فإن لم يكن كليف، الرجل الذي قتله بنفسه وتولّى جمع جثمانه، يعلم الحقيقة، فمن عساه يعلم؟
كليف، وقد بدا عليه الإرهاق بعد أن احتسى مشروبًا قويًا، أجاب:
“أنا أكثر اندهاشًا منك.
تأكدت من وفاتك في ذلك اليوم، بل وأمرت بوضعك في النعش.”
ثم أردف بنبرة واقعية:
“لو كنت مكاني، هل كنت لتتخلى عن جثة قتلتها بيدك؟ الجثة دليل، أليس كذلك؟”
كان كلامه منطقيًا.
فجسد إيرن كان شاهدًا على جريمته، ودائمًا ما يسعى المجرمون لإخفاء كل ما يربطهم بالجريمة، ولو كان أثرًا طفيفًا.
قال كليف موجّهًا كلامه إلى كبير الخدم:
“أحضره.”
وما هي إلا لحظات حتى عاد كبير الخدم بحقيبة مملوءة بالمال، وضعها على الطاولة أمامهما.
قال كليف:
“هذا هو التعويض الذي طلبته الكونتيسة آنذاك.”
كانت الحقيبة على بُعد ذراع من إيرن، إلا أن كليف اختار أن يسلمها إليه بنفسه.
“خذها، لا بد أن لديك جبالًا من الديون لتسددها.”
صمت إيرن برهة، فقد لمح ورقة بيضاء صغيرة تحت يد كليف التي أمسكت بالحقيبة.
قال كليف بنبرة مستعجلة:
“هيا.”
وفي اللحظة التي التقت فيها أعينهما فوق حقيبة المال، لاحظ إيرن ومضة في عيني كليف وهو ينظر نحو كبير الخدم.
كانت نظرة خاطفة، لكنها مشبعة بالخوف.
ولم يكن إيرن ليفوّت هذا التفصيل.
“… حسنًا.”
مدّ يده ليتناول الحقيبة، وشعر بملمس الورقة ينزلق إلى كفه.
“رحلة موفقة.”
“آمل ألا نلتقي مجددًا.”
خرج إيرن من غرفة الجلوس دون أن يلتفت إلى الوراء، بينما تولّى كبير الخدم إمساك لجام حصانه ورافقه حتى الباب الرئيسي.
وحين تأكد من أن كبير الخدم قد عاد إلى داخل القصر، فتح إيرن الورقة التي سلّمها له كليف خفية.
كان محتواها:
“لديك جاسوس موجود الآن في القصر،
أتعرض للتهديد، أنقذني.”
تمتم إيرن وهو يحدّق في الكلمات المرتعشة بخط مضطرب:
“وضع السم في كأسي…
ثم طلب مني ان إنقذه.”
تغيرت ملامحه وهو يطوي الورقة بإحكام بين أصابعه.
لا ضمير هنا أيضًا… لا ضمير.
كان كليف يراقب كبير الخدم عن كثب.
لا شك أن الأخير أحد أتباعهم.
“منذ أن تغيّر جسدي بفعل جرعة الحقيقة، شعرت أن هناك أمرًا غريبًا.”
هل كان يعاني من مرض مزمن؟ لو كان الأمر كذلك، لعرفه إيرن منذ زمن بعيد.
“بما أنه لجأ إلى كتابة رسالة بدل أن يتحدث،
فلا بد أن عددهم أكبر.”
تردد إيرن للحظة، ثم التفت نحو الماركيز موسلي. الأمور بدت أعقد مما تخيّل.
—
“توقف عن التحديق بي، ستثقب وجهي بنظراتك.”
“وكيف لي ألا أحدّق؟
كنتَ ميتًا، والآن تقف أمامي!
ما قصة الزواج؟ هل هو حقيقي؟”
تجاهل إيرن أسئلة الماركيز موسلي ببراعة.
قال له بصرامة:
“أبلغ رجالك.
يجب أن يبقى كليف أكرمان حيًا.
وإن تصرفت بغباء، فلن أرحمك.”
ضحك الماركيز وقال:
“ها هو إيرن الذي أعرفه.”
كان الماركيز شابًا في عمر إيرن تقريبًا، وقد بدا عليه الذهول عندما جاءه إيرن فجأة يطلب منه مطاردة أتباعه.
لقد قيل له إن إيرن مات، والآن يطلب منه ملاحقة أتباعه بعد موته؟ ظل يهمهم بذهول، حتى أمسكه إيرن من ياقة قميصه وهزّه قائلاً:
“استفق!”
لا أحد يعلم ما الذي أعاده للحياة…
لكن أن يُطلب منه مطاردة أتباعه بعد كل ما جرى؟ عبث.
ومع ذلك، أرسل الماركيز جنوده إلى الموقع الذي دلّه عليه إيرن، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال.
“ألم تمسك بـ ‘روام’؟”
“هل كنت أنت من بلّغ عنه؟”
“أجل، أعطيتك الموقع، كان عليك الإمساك به.”
“هذا ما أحاول قوله…”
لقد فرّ.
رغم تحركهم الفوري، انسحب الأعداء قبل وصولهم.
عندها انفجر إيرن غاضبًا واتهمه بالعجز حتى لو قُدّم له كل شيء على طبق من ذهب.
لم يجد الماركيز ما يقوله.
حتى لو امتلك عشر ألسنة، لعجز عن الرد.
قال إيرن:
“اذهب أنت إلى كليف أكرمان، وسأتولى البقية مع الجنود.”
تأمل الماركيز في وجهه وقال:
“ألا تبدو الأمور شديدة التعقيد؟”
رمقه إيرن بنظرة حادة، وكانت الكلمات: “إن كان الأمر كذلك، فلا تقترب مني”
على وشك الخروج من فمه، لكنه تراجع.
فقد كان مدينًا لإيرن بحياته مرارًا، ولا يملك رفاهية الاعتراض.
وبينما طوّق الماركيز القصر بجنوده، تسلل إيرن من الباب الخلفي.
وفور أن سُمع صوت صراخ من الداخل:
“من هناك؟!”
استلّ الماركيز سيفه وأمر رجاله:
“اقتحموا!”
—
تمكن إيرن من إنقاذ كليف بنجاح.
وقد أُلقي القبض على كبير الخدم وثلاثة من الأتباع في غرفة المعيشة أسفل موقع المحادثة.
كانت الأرض مرسومة عليها مثلثات مقلوبة، تفوح منها روائح أعشاب حارقة، والشموع غريبة الشكل تشتعل، وأحجار حمراء داكنة مبعثرة.
لم يكن هناك شك: كانوا يخططون لأمر مشؤوم.
قال كليف، الذي بدا مرتاحًا بعد إنقاذه، بوقاحة وهو يطلب كوب ماء:
“لا تُظهر هذا الوجه المرعب، سأخبرك بكل ما أعرفه.”
ناولَه إيرن كوب ماء بارد بصمت، رافضًا الحديث مع رجل مخمور.
وما إن شرب كليف الكوب حتى انفجر ضاحكًا بجنون.
“ذلك العجوز، لقد خفف حذره!”
قال إيرن بجمود:
“تحدث بوضوح.”
قال كليف:
“عندما شربت جرعة الحقيقة، أدركت أنني خاضع لتعويذة ربط.
لم يكن مرضًا مزمنًا، بل تعويذة تجعلني أتقيأ دمًا كلما حاولت البوح بأي شيء عنهم.”
كان كليف على صلة بجماعة الأتباع قبل الثورة، إذ كانوا عملاءه ومصدر دعمه القانوني.
لكن بعد فشل الثورة، قطع علاقته بهم.
فبدأوا بابتزازه بالأدلة.
واضطر لدفع المال مرارًا لتأمين هروبهم.
قال إيرن ببرود:
“لم أعلم أنك كنت تحت تأثير تعويذة تمنعك من الحديث.”
“أنا أيضًا لم أكن أعلم… حتى ذقت الموت مرارًا.”
ثم أوضح كليف أنه ذهب إلى المصح بناءً على أوامرهم، حيث أبقوه حيًا ليروا إن كان لا يزال نافعًا.
“حين استفقت، وجدت نفسي أمام بوابة العاصمة. وكان جسدي قد أصبح… هكذا.”
قال له كبير الخدم إنهم سيعيدون له قدرته على المشي إن تعاون، وإن رفض، فسيتذوق العذاب.
“لكن اسمع يا إيرن…
لا قانون يُجبر إنسانًا على الموت.”
ابتسم كليف وهو يحدّثه عن أحد الأتباع البارزين الذين تعامل معهم، أعلى منزلة حتى من كبير الخدم، وقد وعده بفك التعويذة مقابل المال.
لم يكن كبير الخدم يعلم أنه سيُخدع.
وقد سلّم كليف سرًا وثيقة الإيداع المخفية في مكتبه لذلك التابع.
“وقد فكّ التعويذة فعلًا.
ولهذا استطعت أن أكتب لك تلك الورقة.”
وبينما كان تحت المراقبة، بدأ التابع يُظهر بعض التراخي، مما منح كليف لحظات نادرة من الخصوصية.
“طلبوا مني استدعاءك…
ورأيت أن اللحظة قد حانت.”
فمن سواه يقدر على إنقاذه؟
همّ إيرن بسؤاله عن مصير جسده، لكن كليف رفع إصبعه إلى فمه مشيرًا بالصمت، ثم قال:
“عندما قررت قتلك، اقترح كبير الخدم أن نحصل على السم من الأتباع.
قال إن تقديم المال وحده لا يكفي، وإن الأتباع هم الأفضل لمثل هذه الأمور.”
وافق كليف، دون أن يدرك أن كبير الخدم أحدهم.
“ثم طلبوا مني تسليم جسدك مقابل ذلك.”
قال إيرن بحدة:
“وماذا كانوا يريدون بجثتي؟”
“لا أعلم… لم أسأل حتى.
وضعتك في النعش، وأخذوه.”
كان يظن أنهم سيتكفّلون بالأمر.
لكن حين ظهر إيرن حيًا، أصيب بالذعر.
“الآن، أفكر أنهم أجروا تجارب على جسدك.”
“تجارب؟”
“في البداية، لم يعارض كبير الخدم إرسالي للقتلة. لكن لاحقًا، حين أردت مضاعفة عددهم، أوقفني.”
“أليس هذا مريبًا؟” قال كليف وهو يعبث بكأسه.
“أعتقد أنهم كانوا يراقبون قدرتك على النجاة، ويريدون اختبار مدى صلابتك في القتال.”
فكبير الخدم هو من استدعى إيرن إلى القصر، ومنحه المال، وزوّده بالمعلومات.
“أثناء حديثنا، كان يراقبك عن كثب.”
ولولا ذلك، ما استطاع كليف تسليمه الملاحظة.
“أما أولئك الثلاثة الذين كانوا في الأسفل؟
أعتقد أنهم راقبوا ردود فعلك أثناء المحادثة.”
تنهد إيرن وهو يمرر أصابعه في شعره بانزعاج.
“اذهب واسأل كبير الخدم عن التفاصيل.
وبالمناسبة… شكرًا على إنقاذي.”
ابتسم كليف بسخرية، وكأن الأمر لا يستحق أكثر من ذلك.
لكن إيرن رد عليه بحزم:
“لا تفرح كثيرًا.
بما أنك عقدت صفقة مع أتباع، فقد تُحاسب بتهمة الخيانة.”
فردّ كليف، وهو يتلو من نص القانون:
“من يتعرض لتهديد بالموت أو أذى جسيم، يُؤخذ وضعه بعين الاعتبار عند تحديد العقوبة.”
ثم أضاف بابتسامة باردة:
“رُبما لا أستطيع استخدام سيقاني…
لكن رأسي لا يزال يعمل.”
التعليقات لهذا الفصل " 29"