حين أنجبت زوجته الثانية طفلاً، تقدّم البارون بريغز بطلب الزواج من ليلى.
قال لها إنه إن تخلّت عن زارك وتزوجت رجلاً من اختياره، فسيكتب وصية يمنحها فيها اللقب.
بمعنى آخر، إن اختارت زارك، فلن تنال شيئًا.
“لماذا عليّ أن أضحّي بمن أحبّ من أجل طفل ستُنجبُه امرأة أخرى؟”
تلك المرأة التي خانت والدتها، ودَفعتها إلى الموت، استحوذت على مكانها، وها هو طفلها يحاول الآن الاستيلاء على ما هو حقّ ليلى.
“أليس من حقي أن أناله أنا؟”
لذلك، قررت ليلى هذه المرة أن تبادر.
أن تُقصي وريث والدها الآخر، الطفل المدلّل والمولود من زوجته الثانية.
“هناك عرّافة مشهورة تُدعى سيريس.”
كانت هناك مواثيق أخلاقية يلتزم بها العرّافون، كأن يمتنعوا عن بيع السموم أو اللعنات المميتة.
المخالفات البسيطة، كجرعة تُسبب عُسرَ هضم أو لعنة تُفوّت على المرء فرصة، كانت تُعدّ مقبولة.
أما ما يتجاوز ذلك، فمحرّم.
وبشكل خاص، من يُضبط وهو يبيع سُمًّا أو لعنة تُفضي إلى الموت أو ما يعادله، يُحكم عليه بالإعدام فورًا.
لكن حيثما وُجد الطلب، وُجد العرض.
كان هؤلاء العرّافون يعملون في الظلّ، بلا مقارّ ثابتة، ويتنقلون في أنحاء الإمبراطورية، لا يعلم بقدومهم سوى قلّة.
“في البداية، كنت أفكّر في شراء دواء.
لكنهم أوصوني بهذا الخاتم.
قيل إنّه يُخفي الإجهاض بطريقة طبيعية تمامًا.”
لكن الخاتم لم يكن شيئًا يُقدَّم كهدية.
وإن حاولت ليلى إخفاءه في غرفة البارونة، فهناك احتمال أن تعثر عليه الخادمة.
حينها، خطرت في بال ليلى الشمعة التي كانت جوديث تبيعها.
ألن يبدو طبيعيًا أن تخبّئ الخاتم داخل الشمعة، وتقدّمها للبارونة كهدية تهنئة بالحمل؟
“طلبت من السيد زارك أن يفعلها بدلًا مني، لأن الآنسة هارينغتون قد تشكّ إن قلت إنني أضع خاتمًا في هدية حمل.
قد يبدو الأمر سخيفًا، لكن لو قلتُ إنه تذكار، فسيبدو مقنعًا.”
نعم، بدا مقنعًا.
لولا البكاء، لكانت جوديث قد انخدعت.
“لا أعرف كيف أقولها لكِ يا آنسة… أظن أنكِ تعرّضتِ للاحتيال.”
كانت جوديث تحاول كسب الوقت بيأس، فبمجرّد انتهاء الحديث، لم يتبقَّ سوى خطوة واحدة.
“ماذا قلتِ؟”
“ذاك الخاتم… لماذا رغبتِ في معرفة حقيقته أصلًا؟”
ترددت الآنسة بريغز للحظة، ربّما لأن كلمات جوديث باغتتها.
“لأنه مريب؟”
“أحقًا؟
لم أستطع النوم من البكاء الذي يُصدره الروح المرتبط بالخاتم كلّ ليلة.”
شرحت جوديث بإيجاز قصة ذلك الصوت الباكي.
ليلى كانت ترغب في إنهاء أمر الطفل بهدوء، لكن استخدام هذا الخاتم سيجعل الأمر مستحيلًا.
فالروح ستظلّ تتجوّل باكية، تبحث عن امرأة حامل.
وإن حدث الإجهاض بعد سماع البكاء، فسيُثار الشكّ على الفور.
“لقد استدعيتُ وسيط أرواح أيضًا… أتظنين أن حضرة البارون سيبقى صامتًا؟”
من المؤكد أنه سيبحث عن مصدر ذلك الصوت.
ربما سيأخذ الأمر وقتًا وسط مشاغله، لكنه إن أراد، فسيجده.
وحين يعثر على الخاتم داخل الشمعة، سيستدعي جوديث، صانعة الشمعة، وستنطق باسم زارك دون تردّد.
“لو لم أكن هنا، لوقعتِ في ورطة كبرى، أليس كذلك؟”
لذا، أرجوكِ، دعيني أرحل، قالت جوديث وهي تضمّ يديها متوسّلة في أضعف هيئة يمكن تخيّلها.
“هاه… لا أملك مالًا يكفي لهذا الثمن الباهظ.”
قطّبت ليلى حاجبيها.
يبدو أنها اشترت الخاتم بثمن مرتفع.
“شكرًا لكِ على المعلومات.
لكن بما أنكِ عرفتِ خطتي، الآنسة هارينغتون، آه!”
“ليلى!”
“آه!”
بينما كانت ليلى تهمّ بتهديد جوديث بالقتل، انحرفت العربة فجأة ومالت بعنف كأنها ستنقلب.
كادت ليلى أن تصطدم بجدار العربة لولا أن زارك جذبها إلى صدره لينقذها.
أما جوديث، فقد ارتطم رأسها وكتفها.
لم تكن الإصابة خطيرة، لكن شعورًا غريبًا بالحزن اجتاحها.
“هل أنتِ بخير، ليلى؟”
الشخص الذي احتضن ليلى وامتصّ الصدمة بجسده كان زارك نفسه، وقد أولى اهتمامه بسلامتها أولًا.
“أنا بخير، وأنت؟”
“ضربة كهذه لا تُذكر.”
تعانق زارك وليلى بقوّة، وكأن كليهما شعر بالطمأنينة بعد الخوف.
“…”
أوه، أنا هنا أيضًا.
حتى لو كنتما تنويان قتلي، أليس من اللائق أن تسألاني إن كنت بخير؟
وبينما كنت أغلي من الداخل بصمت، التقط زارك سيفه الملقى عند قدميه وفتح باب العربة.
“ما الذي حدث بحق الجحيم! ماذا لو أُصيبت الآنسة؟…”
لكنه توقف فجأة وهو يصرخ على السائق.
بين باب العربة المفتوح وزارك، وقف شخص مغطّى الوجه في هذا المكان المقفر.
“السير إيرن!”
فارس نبيل، كيف وصل إلى هنا؟
يا لفرحتي، ويا لسعادتي التي كدت أعيشها.
كنت على وشك النزول من العربة، لكن زارك أوقفني.
لكنني لم أكن خائفة.
ولا حتى متوترة.
زارك، الذي لم يُمنح لقب فارس بعد، لا يمكنه مجاراة إيرن.
لكن كيف لحق بنا؟ ركضًا؟ رأيت فرسًا يقترب من خلف ذراعي زارك اللتين تحجبان الباب.
من أين جاءت تلك الفرس؟
“من أنت؟”
“الفتاة خلفك، تلك التي كنت تُلقي عليها نظراتك من حين لآخر…”
زوج؟ رفيق سكن؟
تردد إيرن في كيفية تقديم نفسه.
في الواقع، بعد أن أرسل جوديث إلى قصر البارون، لم يشعر بالراحة أبدًا.
كان لديه شعور بأن شيئًا سيحدث.
في المهمات أو في ساحة المعركة، حين يشعر بذلك الإحساس، فلا بد أن أمرًا ما يقع.
والحق يُقال، لم يكن يهتم كثيرًا بمصير جوديث.
حين اتُّهمت ظلمًا بقتل كليف، ساعدها لأنه كان بحاجة إليها في ذلك الحين.
قرار جوديث كان نابعًا من إرادتها وحدها، لذا عليها تحمّل العواقب.
ومع ذلك، لم تستطع قدماه التراجع.
ظل يتجول، متردّدًا بين الذهاب والامتناع، إلى أن رأى زارك يجرّ جوديث إلى العربة.
حينها لم يتردّد.
بل لم يستطع.
جسده تحرّك من تلقاء نفسه.
“من أنت؟”
قطّب إيرن حاجبيه حين رأى زارك يشهر سيفه.
لماذا يطرح هذا الفتى دومًا أسئلة مستفزة؟
“هل يهم؟”
لا أظن أن هذا سؤالًا ذا أهمية.
“يكفي أن تنظر إليّ لتدرك أنني جئت لإنقاذها.
ألا يستطيع مقاتل يحمل سيفًا أن يفهم ذلك؟”
ورغم أن نصل سيف زارك اللامع كان موجّهًا إليه، إلا أنه لم يرفعه حقًا.
كانت تلك إشارة ازدراء واضحة: أنّه لا يحتاج حتى إلى استخدام سيفه لمواجهته.
“ارك، اهدأ.”
وقبل أن يتفاقم الموقف، استعادت ليلى هدوءها.
“السير إيرن، أهو أنت؟ سمعت أن عائلة الراينلاند بأكملها ماتت بسبب لعنة.”
ورغم أن وجهه كان مغطى بقطعة قماش سوداء، إلا أن ليلى عرفته.
“يبدو أن الشائعات كانت خاطئة.
ما زلتَ على قيد الحياة، وبصحة جيدة.”
“أتعرفينني؟”
“وهل يوجد من لا يعرف الأساطير المدونة؟”
أومأت جوديث برأسها.
لقد كان إيرن بطلًا خاض حربًا قيل إنها مستحيلة، ومع ذلك انتهى به الأمر متورّطًا في تمرد.
حتى إن لم يعرفوا وجهه، فالجميع يعرف اسمه.
“رأيتك مرّة في مأدبة إمبراطورية.”
“تعرفينني فقط من ذلك اللقاء؟”
أجابت ليلى بدهشة:
“من غير إيرن راينلاند يمكن أن يملك شعرًا ذهبيًا فاقعًا، وعينين خضراوين، وقامة طويلة، وسيفًا لا يفارقه، والأهم: يُلقّب بـ ‘السير’ إيرن؟”
أها.
أومأت جوديث وإيرن معًا، موافقَين على هذا الوصف الدقيق.
تردّد إيرن قليلًا، متسائلًا إن كان عليه تغطية شعره من الآن فصاعدًا.
تردّد زارك قليلًا، ثم أعاد سيفه إلى غمده ونظر إلى ليلى.
وعندما أومأت له، تنحّى جانبًا، مُفسحًا الطريق أمام جوديث.
“أنتِ لستِ خصمي.”
توقفت جوديث لحظة وهي تنزل من العربة.
رغم قلق ليلى من أن يتأذى زارك، إلا أنها تركت جوديث ترحل في صمت.
هل ستتركها حقًا وشأنها الآن وقد انكشف سرّها؟
في تلك اللحظة، خطرت في بال جوديث فكرة…
التعليقات لهذا الفصل " 21"