نشيج… نشيج…
تردّد صدى البكاء في الغرفة، كما حدث ليلة الأمس، اقترب مني حتى كاد يلامس أذني، وشعرت بنظراته تنسكب على وجهي بثقل يكاد يكون ملموسًا؛ فارتعشت برودة خفيفة حيثما عبر.
أهو شبح؟ أم أن قصر راينلاند نفسه قد انقلب إلى كيان غامض؟
لا أعلم تحديدًا ما الذي أتعامل معه، ولكن تكرار هذا المشهد كل ليلة لا ينبئ بخير.
أنا بالكاد أنال قسطًا ضئيلًا من الراحة أصلًا، فهل سأخسر حتى هذا اليسير؟
إن استمر الحال هكذا، سيتدهور أدائي، وسأعجز عن صنع الشموع بالكميات المطلوبة، مما سيؤدي لانخفاض دخلي.
وسط هذا السواد القاتم، تساءلت:
ما الذي يجدر بي أن أخشاه أكثر، الأشباح أم الدائنين؟
بالتأكيد، الدائنون أكثر رعبًا.
نهضت من السرير، تناولت قدرًا بيدي، وتسللت عبر الرواق المظلم.
نشيج… نشيج…
أين أنت؟
استدرت ببطء، قابضًا على القدر كمن يستعد لهجوم مباغت.
كان الممر أكثر عتمة من المعتاد، وشعرت فجأة بوجود خلفي جعل شعري يقف من الفزع.
بدون تفكير، ألقيت القدر بكل قوتي، ارتطم بالحائط بعنف، وكدت أنهار من الارتباك.
“آه!”
لف ذراع قوي خصرى ليمنعني من السقوط.
“أكنت أنت؟”
“سيدي إيرن؟”
رفعت يدي في الظلمة أتحسس ملامحه.
“كفِ عن التلمس”
قالها وهو يبعد يدي عن كتفيه وصدره، ثم أطلق خصري فسقطت وارتطم رأسي بالجدار.
“آه!”
“أتلهين وسط هذا الظلام؟ تصرف وضيع”
“وماذا عساي أن أفعل إن أفلتني فجأة؟”
تمتمت بضيق وأنا أدلك جبيني المتألم.
كأن لمسة كتفك كانت ستفنيك!
سألني:
“أنت أيضًا خرجت تتبعين صوت البكاء؟”
“نعم.
كنت أسمعه منذ الليلة الماضية”
إيرن، الذي تجاهل الأمر مدعيًا النوم بالأمس، استيقظ أخيرًا هذه الليلة ليتحرى الأمر، ليصطدم بي، أنا الأخرى، أسعى خلف نفس الصوت.
“وهذا القدر؟ أكنت تعتزمين ضرب الباكي به؟”
“دعنا نقُل إنها محاولة للسيطرة”
“تصرف مبالغ فيه! بدلًا من مواساته، هاجمته!”
“وهل هذا يصدر عن فارسٍ يشهر سيفه مع كل طارئ؟”
“الفارس وسيفه كيان واحد”
“طبعًا، بلا شك”
تجاهلت تبريره وعدت أتحسس الجدران حتى بلغت غرفتي، حيث أوقدت نارًا صغيرة في المدفأة وأرتميت أمامها، أفرك عنقي المتصلب بتوتر.
إيرن تبعني دون دعوة، وضع سيفه جانبًا، وجلس قبالتي.
سألته بسخرية:
“أيها الفارس العظيم إيرن راينلاند، ما ظنك بهوية هذا الكائن؟”
أجاب وهو يتنهد:
“أراه شبح المال، جاء يندب طمع صاحبه”
التقت نظراتنا واشتعل بيننا جدل صامت.
“لو كان شبح مال، لأحدث ضوضاء أعظم.
أما هذا البكاء، فصاحبه روح حزينة”
“على الأقل لم يلحق بنا أذى حتى الآن”
كان فقط يتجول باكيًا، دون أن يؤذينا.
“لكن لا يصح أن نستمر على هذا المنوال.
نحتاج إلى مختص”
أومأت برأسي موافقة.
فمهما حاولنا، لن نصل للحقيقة وحدنا.
“تعرف أحدًا؟”
“هنري.
خبير بالوسطاء الروحيين”
آه، هنري… تذكرته جيدًا.
وبينما كنت ألقي بالحطب في المدفأة تحضيرًا لصنع شمعة جديدة، تسلل النعاس إلي فجأة.
رأسي ترنّح للأمام ثم ارتد للخلف حتى أوشكت على السقوط.
“آه…”
فتحت عينيّ نصف فتحة، مسحت فمي بكسل، ثم أغلقتهما ثانية.
“انهضي!”
“لا”
إيرن سارع بالتقاطي قبل أن أسقط، حملني بخفة لا تصدق، وكأنني لا أزن شيئًا.
همس لي وهو يربت على خدي:
“لماذا تعذبين نفسك هكذا؟”
كان يدرك جيدًا أنني أقاتل لأجل سداد الديون، قتالًا لا يخوضه إلا قلة.
أسند ظهري إلى السرير وجلس قربي، مائلًا رأسه بين يديه، يفكر بي بقلق.
ولكن، لم يلبث هو الآخر أن استسلم للنعاس…
نشيج… نشيج… نشيج…
“… اللعنة، إنه أمر مزعج للغاية”
“تبًا! اتصل بالوسيط حالًا!”
ظل البكاء يتردّد حتى مطلع الفجر دون انقطاع.
—
“مؤسف”
مضى يومان دون جدوى.
وحين حضر الوسيط أخيرًا، بدأ على الفور برش الملح في أرجاء القصر.
“الطاقة الخبيثة تملأ المكان”
رغم فظاظته، شعرت بالاطمئنان؛ فمن يتصرف بجرأة كهذه لا بد أن يكون متمرسًا.
“رائحة الموت هنا حديثة العهد”
قالها بثقة، مشيرًا إلى موت حديث حصل في القصر.
“في بيئة كهذه، ستسمع كل أنواع الأصوات. أنصحكما بالرحيل”
رحيل؟ مستحيل.
يجب أن أتمسك بهذا القصر مهما كلف الأمر، خاصة قبل أن يرتفع سعره.
توسلت إليه:
“لم تكن هناك أصوات من قبل.
ظهرت فجأة قبل أيام”
بدت عليه ملامح التفكير العميق.
“هل أحضرتما شيئًا مستعملًا مؤخرًا؟ أثاثًا؟ ملابسًا؟”
هززت رأسي بالنفي.
كل شيء هنا مملوك لعائلة راينلاند.
عندها تذكرت: الشمعة المصنوعة من خاتم.
“الخاتم! هل يمكن أن يكون هو السبب؟”
أسرعت إلى الغرفة، حطمت الشمعة واستخرجت الخاتم من داخلها.
ألقى عليه نظرة فاحصة وقال ببرود:
“آه… الخلل ليس في الخاتم، بل في الحجر”
كان حجرًا كهرمانيًا عاديًا.
أشار إليه قائلاً:
“هذا الحجر مخلوق من دموع أم ثكلى فقدت جنينها.
دموع امتزجت بدمها ثم تصلبت”
شعرت بالقشعريرة تسري في أوصالي.
“وغالبًا، يُقتل الجنين عمدًا، ثم تُقتل الأم، فيُخلق هذا الحجر، المحمّل بأقصى مشاعر الحزن واليأس”
كان صراخ الأرواح العالقة في الحجر لا ينقطع.
تابع الوسيط تحذيره:
“لا يؤذي عامة الناس… إلا الحوامل”
رمقنا بنظرة غريبة، ثم تساءل بوقاحة:
“أنتم معًا، أليس كذلك؟”
“لا!”
صرخت مبتعدة عنه.
قطب إيرن حاجبيه بضيق.
“نحن لسنا كذلك!”
“ولكن حين يبيت رجل وامرأة تحت سقف واحد…”
قاطعته غاضبة:
“قلت لك لا!”
ابتسم بازدراء وأكمل:
“على كل حال، الروح المرتبطة بالحجر تبحث عن جنين.
وعندما تعثر على حمل حيّ، تظنه طفلها… فتسرق روحه”
شهقت بذهول:
“تسرقه؟”
“نعم، هذا صحيح.
الجنين يُقتل قبل أن يرى النور”
التعليقات لهذا الفصل " 18"