9
ⵌ81
“أشعر بشعور غريب… هل كان عليّ أن جلبها معي؟”
حاول إيرن تهدئة القلق الذي يعصف في ذهنه، واندفع خلف الرجال المتوجهين إلى نقطة الاتصال.
لم تكن جوديث فتاة صغيرة، بل امرأة ناضجة يُفترض بها أن تكون قادرة على البقاء ساكنة في هدوء.
“أين نقطة الاتصال؟”
“جميعهم وصلوا.”
بعد نحو عشر دقائق من المتابعة، توقف الرجلان عند مفترق طرق يصل الغابة بقرية صغيرة.
“تلك الشجرة.”
أشار سائق العربة إلى شجرة ميتة عند المفترق، كان جذعها مائلًا.
تقدموا نحوها وبدأوا الحفر فجأة.
“هذا يكفي، كفى.”
قال الرجل الضخم وهو يُسقِط مجرفته، ثم أخرج كيسًا من المال، فتحه وأخرج قطعتين نقديتين.
“أخي، إن استمررت في هذا الطريق، وابتسم لك الحظ السيئ وعلم الأخ الأكبر، فستكون نهايتك مأساوية.”
“ولم يحدث أن كُشِفنا من قبل.”
ابتسم الرجل الضخم ابتسامة باهتة ورمى بقطعة نقدية نحو السائق.
“لا يجب أن أفعل هذا…”
تمتم الأخير، لكنه التقط العملة ووضعها في جيبه.
ثم وضعوا كيس المال في الحفرة وردموها بالتراب.
بعدها، كسروا غصنًا ضخمًا إلى نصفين وغرسوه بشكل مائل بجوار الموضع الذي دُفن فيه المال.
بدا أنهم لا يحتاجون أكثر من مجرفة لإتمام صفقة تبادل المال…
لكنني سمعت بهذه الطريقة من قبل.
كان إيرن يسترجع ما في ذاكرته بينما بدأ الرجال يدندنون بنغمة خفيفة، وقد بدا أنهم أنهوا مهمتهم.
“هيا بنا نتناول شرابًا، بمقابل هذه الخدمة.”
“نعم، لنذهب.”
اتجه الرجلان نحو القرية، بينما بقي إيرن في مكانه برهة.
وبما أنهم ذكروا أن اليوم هو موعد تسلّم المال، فلا بد أن أحدًا سيأتي لجمعه لاحقًا.
—
في تلك اللحظة التي انطلق فيها إيرن خلف من دفنوا المال…
كانت جوديث جاثية في عمق الغابة، تحبس أنفاسها.
من بعيد، رأت وهج النار التي أشعلها الرجال.
إن اقتربت قليلًا من هنا، فلن ينتبه أحد لوجودي.
كانوا غير متيقظين تمامًا.
وبالنسبة لأشخاص فارّين بعد تنفيذ عملية احتيال، فقد بدا سلوكهم مريبًا في هدوئه.
في الحقيقة، كانوا قد نفذوا نفس الاحتيال في الجنوب، وأعادوه في العاصمة خلال فرارهم…
وبما أنهم لم يُقبض عليهم حينها، فقد بدت عليهم الثقة بأنهم لن يُكشفوا هذه المرة أيضًا.
“أيها الوغد الصغير!
قلت لك أن تشتري مستخلص بريسيلا، ولم تفعل!”
شقّ صوت غاضب سكون الغابة.
تحركت جوديث بحذر لتقترب أكثر، محاولة فهم ما يجري.
تحت ضوء النار، بدا الرجل كظل، وكان يرتدي مئزرًا وخرج من الخيمة غاضبًا.
“قلت لك مرارًا إن المنتج سيتعفن من دونه!
إنه أهم مكون في الخلطة.”
كان يصرخ بانزعاج شديد، يكاد يصل إلى حد الشتائم.
“اهدأ… يمكنك الذهاب لشرائه الآن.
لا داعي للصراخ، هيا نذهب سويًا.”
حاول الرجل الطويل تهدئته.
“لنشترِ مستخلص بريسيلا، ونأخذ قسطًا من الراحة مع مشروب لطيف.
لا يزال هناك وقت قبل تنفيذ المهمة التالية، فلا داعي للعجلة.”
وبعد أن اقتنع، عاد الرجل الذي كان يرتدي المئزر إلى الخيمة، ثم خرج من جديد وقد نزعه.
سار الاثنان معًا وغابا عن الأنظار.
وعندما تأكدت جوديث من ابتعادهما التام، اقتربت من الخيمة.
كانوا أربعة.
اثنان دفنوا المال وذهبوا للشرب، والآخران خرجا لشراء نوع من الإكسير.
أي أن الخيمة الآن خالية تمامًا، ولن يعود أحد لفترة.
كنت قد سمعت عن وجود وصفة الدواء في الداخل، أليس كذلك؟
إذا حصلت عليها، فستتمكن من صنع الترياق.
وبما أنهم غادروا بعجلة، فمن المرجح أن الورقة لا تزال هناك.
قال إيرن ألا أقدم على تصرف متهور…
تنهدت جوديث بعمق.
لكن الحصول على الوصفة كان ضرورة ملحّة، والخيمة خالية دون حراسة.
كانت فرصة لا تُفوّت.
خرجت جوديث من بين الأشجار، متأكدة من أن لا أحد يراها.
وعندما لم تسمع صوتًا، اندست داخل الخيمة بسرعة.
“آه…”
غطّت فمها فورًا، إذ هاجمها رائحة نتنة خانقة.
“رائحة جثة متحللة…”
لسوء الحظ – أو ربما لحسن الحظ – كانت الرائحة مألوفة لها.
فقد كانت السبب في عجزها سابقًا عن افتتاح متجرها.
رائحة لم تعتد عليها قط.
كادت تتقيأ، لكنها صفعت خدها لتستعيد تركيزها.
“ليس وقت التقيؤ… ابحثي عن الوصفة أولًا.”
غطّت أنفها وتجولت بنظرها داخل الخيمة.
في المنتصف، قدور ضخمة تغلي على موقد بدائي من الطوب.
“لن تكون هنا…”
نظرت إلى الجهة الأخرى، حيث طاولة خشبية طويلة، وأمامها رف ومكتب يعمّه الفوضى.
“أظن أن هذه هي الجثة التي جلبوها مؤخرًا.”
كان شيء ما مغطى بقطعة قماش سميكة على الطاولة الخشبية.
“…لكن لماذا تنزف الجثة؟”
قطر… قطر…
سائل أحمر داكن تساقط من حافة الطاولة.
وكانت الأرضية تحته رطبة، كما لو أنها امتصت ذلك السائل.
قطرى… قطرة… قطرة…
بلعت جوديث ريقها بصعوبة.
“ربما أخطأ أثناء نقلها…”
تتبعت عيناها مسار القطرات حتى توقفت عند شيء على الأرض… كومة من الحطام القديم الملطخ، لكنها منتفخة من الداخل.
مصدر الرائحة كان هناك.
“لن تكون هناك.”
أدارت وجهها على الفور.
لا شك أن الوصفة ستكون على الرف أو المكتب المزدحم بجانبه.
اقتربت منه.
صوت القطرات خلفها بدأ يرسل قشعريرة في عنقها.
مسحت رقبتها بتوتر.
“ركّزي… فكّري في السير هنري، المسكين هنري…”
بدأت تبحث بدقة بين أكوام الورق والقمامة على المكتب، لكن لا أثر للوصفة.
عندها رأت مئزرًا معلقًا بإهمال على ظهر الكرسي. بدا أنه المئزر الذي كان يرتديه الرجل قبل قليل.
اقتربت منه وبدأت تبحث في الجيوب.
من المنطقي أن يحتفظ بوصفة التجميل معه، ليراجعها أثناء التصنيع.
وكان حدسها صحيحًا.
وجدت الورقة داخل الجيب.
“رائع.”
فتحتها على المكتب بحذر، وأخرجت الورق والفحم اللذين كانت قد أعدّتهما مسبقًا، وبدأت تنسخ المكونات.
سرقة الوصفة قد تثير الشبهات، لذا اكتفت بنقل أسماء المكونات المهمة فقط.
“ليتران من مستخلص بريسيلا، عشر حزم من البقلة الجافة، زجاجتان من زيت غوليس…”
كانت هذه مكونات تُستخدم فعلاً في مستحضرات التجميل.
فالبقلة تُهدئ البشرة، وزيت غوليس يرطّبها.
كانت جوديث قد درست هذه المواد أثناء بحثها عن بدائل لصناعة البخور.
“هل أُخفّف ليترًا من نيكار وأضيفه؟
أليس هذا مزيلًا للدم؟
يا للرعب!
كيف يُوضع منظف قوي كهذا على الوجه؟”
وكان هناك مكون أغرب… منظف دموي ضمن وصفة تجميل! نقرت جوديث لسانها استنكارًا.
“وأخيرًا… رطلان من الدهن؟”
هل يقصدون شحم الخنازير؟ أمالت رأسها وهي تكتب باقي المكونات، ثم قرأت التعليمات:
“بعد إزالة الدهن، يُوضع على قماش قطني، يُصفّى منه الدم، ويُترك ليجمد.
ثم يُغسل الشحم المجمد بمحلول مخفف من نيكار.
كلما كان الشحم طازجًا، كانت الجودة أفضل.
لا تستخدم شحمًا من جثة تجاوز موتها ثلاثة أيام، لأن الرائحة تصبح فظيعة…”
قطرة… قطرة…
تساقط الدم من الجثة، والعرق البارد بدأ يبلل جبين جوديث.
“أيها المجانين…”
هل كانوا يصنعون مستحضرات تجميل من دهون الجثث؟
شعرت بمعدتها تنقلب وكأن الخبز الذي تناولته قبل قليل على وشك العودة.
غطّت فمها بيدها بسرعة.
أعادت الورقة إلى جيب المئزر بأيدٍ مرتجفة، وصوت الدم المتساقط ينهش أعصابها.
لماذا لا يزال الدم يقطر من الجثة…؟
لا، لا يجب أن أتصوّر شيئًا الآن.
لا يجب أن أفكر في الأمر.
عضّت على شفتيها محاولة الخروج من الخيمة. حينها سمعت صوت الرجلين العائدين من الشرب.
وكانا قريبين جدًا.
“…لأن…”
“…لا حاجة لذلك…”
كانا يقتربان.
تراجعت جوديث خطوة إلى الخلف.
لقد وقعت في ورطة كبيرة…
لم يكن في الخيمة أي مكان للاختباء، ولا مخرج خلفي.
حاولت رفع طرف الخيمة، لكنها كانت مُثبتة بإحكام بالأرض.
وفي تلك اللحظة…
رأت قطعة قماش ممزقة تتراقص في الهواء أمام عينيها.
“…لماذا من بين كل الأماكن… يكون الحل هناك؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ82
“لا، من يخرج للشرب دون أن يحمل نقودًا؟”
“آسف، آسف، ظننت أنك وضعتها في جيبك.
وعلى هذا، لماذا لا تأخذ تصميم السكين الجديد وتطلب منهم صنعه؟”
“هذا ما عنيته تمامًا.”
تحركت جوديث ببطء، سحبت إحدى ذراعيها بينما كانت تنصت لصوت التوتر في الأجواء، تزحف تحت الطاولة التي تمددت تحتها الجثة، متفاديةً الرجلين الواقفين.
لم يكن في الخيمة أي مكان حقيقي للاختباء، لكنها أيقنت أن الرجلين يعرفان ما يبحثان عنه، لذا توجها مباشرة نحو الرف دون أن يلتفتا إلى ما حولهما داخل الخيمة.
بفضل ذلك، استطاعت جوديث الاختباء في بقعة ظل لم تصلها إنارة المصباح.
لماذا أتيت وحدي؟ كان عليّ أن أستمع لما قاله إيرن.
رغم شعورها العميق بالندم، إلا أن الوقت قد فات للتراجع.
حبست جوديث أنفاسها.
وكلما لامست الأرض الرطبة بكفها، اجتاحتها قشعريرة باردة، لكنها لم تستطع فعل شيء حيال ذلك.
طرطشة… طرطشة…
مع تساقط قطرات الدم، زحفت جوديث نحو الشق عند طرف الخيمة.
كان ثقبًا ضيقًا لا يمكن النفاذ منه إلا زحفًا، لكنه كان الأمل الوحيد للهرب.
ثم فجأة…
“انتظر، ألا تسمع شيئًا؟”
“عما تتحدث؟”
هل تم اكتشاف أمري؟
عضّت جوديث شفتها بتوتر.
“أظن أن الصوت قادم من جهة الجثة.”
اتجه الرجلان نحو القدر المتفجر في منتصف الخيمة، واقتربا من موقعها.
كان الشق الممزق أمام أنفها مباشرة، لكنها لم تتمكن من الخروج.
وفيما بدأ العرق البارد يتصبب من مؤخرة عنقها، ظهر أمام عينيها جسد ضخم.
كوخ قديم ملوث.
بدا كبيرًا بما يكفي ليخفي شخصين بسهولة.
أنا أكره هذا المكان…
عضّت جوديث على أسنانها ودخلت في كيس قريب.
وما إن غطاها الكيس حتى توقفت الخطى بجانبها.
“لا شيء هنا.”
“ربما فأرة.”
تراجعت الخطوات شيئًا فشيئًا.
فتحت جوديث عينيها، اللتين أغمضتهما دون وعي.
“….!”
ارتجف قلبها بعنف حتى شعرت بأنه يكاد يثب من بين ضلوعها.
بالكاد كانت قادرة على التنفس، لكنها واصلت الزحف ببطء خارج الخيمة.
أسرعي، اخرجي بسرعة.
شعرت وكأن دماءها قد غادرت جسدها بالكامل. زحفت على بطنها باتجاه الشق، وعندما تمكنت من إخراج الجزء العلوي من جسدها بصعوبة…
ما هذا؟
توقّف حذاء جلدي أمام وجهها مباشرة.
تجمدت في مكانها.
كانت ترجو ألا يلاحظها صاحب الحذاء، لكن الرجاء كان خادعًا.
تشبثت بحجر قريب منها بخفة.
إن لم يكن أمامي خيار، سأضربه وأفرّ.
لكن قبل أن تتمكن من التصرف، انحنى الرجل ومد يده نحو خصرها، ثم سحبها بلطف.
يد مألوفة.
ما إن لمستها حتى أدركت جوديث من يكون صاحبها.
تلاشى التوتر من جسدها، وانهارت قواها دفعة واحدة، بما في ذلك اليد التي قبضت بها على الحجر.
“…”
حدق الرجل في جوديث بصمت.
حتى في ظل ضوء القمر الخافت، بدت عيناه الخضراوان المتوهجتان أبرد من أي وقت مضى.
“ما الذي سمعته للتو؟”
“عن ماذا تتحدث؟”
“ذاك الصوت الزاحف… ما هو؟”
تناهت أصوات الرجال من داخل الخيمة.
نظر إيرن إلى جوديث للحظة، ثم رفعها على كتفه وانطلق راكضًا.
شعرت جوديث بعدم الارتياح، لكنها كتمت ذلك في داخلها.
فهي تعرف تمامًا أن إيرن لن يغفر لها إن تقيأت عليه الآن.
سقط الحجر من يدها، واختفى شعرها الأسود المبعثر وسط الظلام.
“ما هذا؟”
“ظننت أنني سمعت صوتًا غريبًا.”
وعندما خرج الرجال من الخيمة، لم يجدوا أحدًا هناك.
—
…
الآن، أصبحت جوديث في موضع الاتهام.
هل عليها أن تركع؟ أمام صمت إيرن الجليدي، تنحنحت بلا جدوى، محاولة جذب انتباهه.
“هاي، عزيزي.”
“لا فائدة.”
ذلك الإيرن الذي كان يخجل حتى من سماع كلمة “عزيزي” لم يعد موجودًا.
لقد كان غاضبًا بحق.
“قلتِ إنك ستنتظريني بهدوء.”
“…”
“وقلتِ إنك لستِ طفلة، وإنك لن تفعلي أي شيء طائش.”
لم يكن لديها ما تقوله، حتى لو امتلكت عشرة أفواه.
لو أنها حصلت على الوصفة، لكان بإمكانها تبرير فعلتها، لكنها فشلت، فاختارت الصمت برأسٍ منكس.
“ما الذي كان سيحدث لو لم أعد في الوقت المناسب، آنسة جوديث هارينغتون؟”
آه…
لقد ناداها باسمها الكامل.
صوته الخفيض بدا أكثر قسوة من أي وقت مضى.
“كنتُ مخطئة.”
في مواقف كهذه، لا بد من التذلل.
شبكت جوديث يديها وكأنها تصلي، وخفضت طرفي عينيها، لكن ملامح إيرن القاسية لم تلِن.
كان قد انتظر الرجل في موقع اللقاء ليتسلم المال، لكنه لم يتحمل الانتظار أكثر من عشر دقائق قبل أن يعود إليها في الغابة، قلقًا عليها.
لم يكن يخشى العصابة، بل الغابة نفسها؛ فقد كانت موحشة ومظلمة.
ورغم أن جوديث عاشت بمفردها في قصر ملعون، إلا أن هذا مختلف.
ماذا لو ظهر ثعلب؟ أو حلقت بومة فجأة؟ خاف أن تنهار جوديث من شدة التوتر.
لكنها دخلت دون تردد…
كيف تجرأت على الدخول وحدك؟
هل أنتِ خائفة؟ لا… جوديث هارينغتون لا تخاف.
وعندما رآها تزحف خارجة من تحت أرضية الخيمة، كاد قلبه يتوقف من الهلع.
“إيرن.”
رفعت جوديث رأسها إليه بعينين ضبابيتين، تحاول تبرير تصرفها وكأنها تدرك خطأها.
ذلك التعبير البائس؟ لم يعد ينطلي عليه.
لقد أدرك أن جوديث كلما تورطت، تظاهرت بأنها ضحية ضعيفة.
ربما كان ليصفح عنها لو أن الخطأ بسيط، لكن ليس هذه المرة.
يجب أن تدرك حجم ما فعلته.
“أنا فعلًا آسفة.”
لوّحت جوديث بيديها المتسختين بالتراب من الزحف، وكان وجهها وثيابها يغمرهما الوسخ والبؤس.
تنهد إيرن وهو يحدّق في ملامحها الشاحبة، وكأنه اكتشف كم بدت صادمة لنفسها.
كانت تنهيدة خليط بين راحةٍ لخروجها سالمة، وارتباك من تهورها غير المبرر.
“لقد ندمت وأنا أزحف لأخرج من هناك.
أعترف بأن ما فعلته كان متهورًا.
آسفة لأنني سببت لك القلق، وسأكافئك بشراء مشروب فاخر.”
وحين لم تُفلح نظرات الرجاء، لجأت إلى أسلوب تأنيب الذات والاعتذار الرسمي.
انفجر إيرن ضاحكًا رغمًا عنه.
“إيرن، ضحكت! رأيتك تضحك!
ألا يعني ذلك أنك هدأت؟”
“لا.”
“…لكنّك ضحكت.”
انكمشت كتفاها وهي تتنهد.
أخرج إيرن من جيبه منديلًا.
لم يكن معتادًا على حمل المناديل، لكن هنري أعطاه واحدًا، قائلاً إن على الفارس أن يحتفظ دومًا بمنديل ليجفف دموع السيدة.
طالما أن لديه واحدًا، فليستخدمه.
حتى إن لم يكن لمسح الدموع، فهو جيد لتنظيف وجهٍ متسخ.
مع أنه لم يفهم كيف يُستخدم هذا الشيء الجميل في مسح الأوساخ، إلا أنه قام بذلك.
ورغم غضبه، بادر إلى مسح التراب عن خدها بلطف.
“تقولين إنك لستِ طفلة، ثم تتصرفين وكأنك تخوضين معركة بطولية.”
“ومع ذلك، حصلنا على نتيجة.”
لاحظت جوديث أن مزاجه تحسن قليلًا.
الهواء البارد الذي كان يلفه بدأ يخفت تدريجيًا.
“إذا كنتِ مستعدة للمخاطرة بهذا الشكل، فيجب أن تتحملي العواقب.”
مسح آخر أثر للتراب عن وجهها، ثم مد يده إلى راحتيها المتسختين.
“ولم أمسكتِ بحجر من قبل؟”
“لو هاجموني، كنت سأضربهم وأهرب.”
“…”
ربما كانت نية مقبولة، هل يُفترض به أن يمتدح شجاعتها؟ لم يجد ردًا مناسبًا.
“على كل حال، دونتُ المكونات في ورقة.”
“أحسنتِ.
أخبريني، ما الذي يجعل وجه الإنسان يتغير إلى ذلك الشكل الغريب؟”
“أمم…”
حين استحضرت ما رأته، شعرت بالغثيان مجددًا، لكنها قاومت وقالت:
“دهن الإنسان.
دهن الجثث.”
—
…
“هاه؟! تقصدين أن مستحضرات التجميل تلك… صُنعت من جثث؟!”
وصلت جوديث وإيرن إلى العاصمة دون توقف، وسلّما فورًا الورقة التي دوّنت فيها الوصفة إلى بييتشي.
“دواء التهاب المفاصل مصنوع من غضاريف الجثث؟”
أومأت جوديث برأسها.
فقد وجدت في خلفية تلك الوصفة التي قرأتها تركيبة أخرى لعلاج التهاب المفاصل.
المكونات كانت متشابهة جدًا، باستثناء استبدال الدهون بالغضاريف.
“كانوا يشترون الجثث الحديثة من المقابر.”
“يا للفظاعة…”
ظل بييتشي يحدّق في الورقة مذهولًا.
“هل يمكنكِ تحضير ترياق مضاد؟”
“سأحاول.
وجه هنري يبدو وكأنه تأثر بتسمم ناتج عن تحلل الدهون.
أو ربما ماء نيكار المخفف؟ يا ترى، من أين أبدأ إزالة السم؟”
وبينما كان يتحدث إلى إيرن، بدأ بييتشي يتمتم بكلمات غير مفهومة، يربت على رأسه مرارًا.
لقد أربكته المكونات الصادمة.
وجوديث كانت تتفهم ارتباكه تمامًا؛ فهي شعرت بالقشعريرة والاشمئزاز عندما نقلت الوصفة.
“بييتشي، ما بالك تتمتم؟”
اقترب إيلور، الذي جاء لاستقبال جوديث وإيرن بعد أن علم بالأمر، من بييتشي المرتبك.
“أخي، انظر إلى هذا.
إنها تركيبة مستحضر التجميل الذي استعمله السير هنري وأصيب بسببه.
هل تعلم ما الذي يحتوي عليه؟ حسنًا…”
ولم يتمكن إيلور من إغلاق فمه، بعد أن سمع الكلمات التالية من بييتشي:
“هذا مثير للاشمئزاز فعلًا…
لحظة، ما الذي يحتويه أيضًا؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ83
“هذا مقزز حقًا…
لحظة، ما الذي يحتويه؟”
“لماذا؟ هل تعرف شيئًا ما؟”
“أظنني رأيت شيئًا مشابهًا من قبل.”
كان لدى إيلور ذاكرة قوية.
فما إن سمع أن مستحضرات التجميل تُصنع من جثث بشرية، حتى استعاد قصة قديمة كانت ترويها له والدته الروحية وهو طفل.
قصة مروعة كما كان يصفها.
“كانت تقول إن أهل الصحراء، قديمًا، لم يكونوا يتخلصون من الجثث، بل كانوا يستخدمونها كدواء.”
“آه، أذكر تلك الحكاية أيضًا.
جدتي كانت تقول إنها سمعتها من جدّها.”
أومأ بييتشي بحماسة، وكأن الذكرى قد ارتسمت في ذهنه بوضوح، بينما واصل إيلور التنقيب في ذاكرة الطفولة:
“كان هناك مجنون يعيش في الصحراء، في عصر بعيد، قبل قيام الإمبراطوريات.”
ذاك الرجل المجنون كان يعتقد أنه لا ينبغي هدر أي شيء في بيئة شحيحة كالصحراء، حتى الموتى.
لذا، بدأ في أخذ الجثث خلسة وتجربة طرق شتى للاستفادة منها.
وعندما انكشف أمره، نبذه الناس ونفوه إلى أعماق الصحراء.
لكن سجلات أبحاثه ظلت باقية، وتناقلها الناس شفهيًا، إذ شاع أن من يحضّر دواءً حسب وصفه سيحصل على نتائج مذهلة.
“يُقال إن دهنه على الجروح يُنبت اللحم مجددًا، وإن وضعه على العظام المكسورة يشفيها تمامًا.”
ادعاء عجيب بحق.
ومع ذلك، استمرت تلك الوصفات بالتوارث سرًا، حتى انتقل الشارتينيون إلى الإمبراطورية، ثم اختفت بعدها تمامًا.
“لكن، أليست هذه مجرد أسطورة؟”
“نعم، لكنها تتقاطع مع ما يحدث الآن، أليس كذلك؟ علينا أن نضع كل احتمال بعين الاعتبار.”
في مثل هذه الظروف، لا بد من التمسك حتى بأوهى الخيوط.
“بييتشي، هل يمكنك إيجاد رابط بين تلك القصة والترياق؟ حاول أن تتذكر كيف تنتهي الرواية.”
“نهايتها؟”
هز بييتشي رأسه نافيًا، فتابع إيلور:
“يُقال إن المجنون كتب في الصفحة الأخيرة من سجلاته قبل نفيه: حين تتعفن الأجساد بروح الموتى، غطها بروح الحياة.”
“روح الحياة؟”
بدت العبارة محيرة، مما زاد من حيرة بييتشي.
“نعم، روح الحياة.”
كانت جوديث تستمع بصمت في ركن الغرفة، وبدأت تفكر بدورها.
“إذا كانت روح الحياة…
فهل يُقصد بها دم شخص حي؟”
“…ربما.”
ساد الصمت في غرفة بييتشي، ولم يُسمع سوى أنفاس متقطعة تحمل حيرة وقلقًا.
“ذلك المجنون عاش في الصحراء…
فما الذي يمكن أن يُعد روح الحياة في مكان كهذا؟”
تمتم إيلور وكأنه يُحدّث نفسه.
“أليس الماء هو روح الحياة في الصحراء، أخي؟”
“لكن ليس أي ماء… لا بد أن يكون ماء واحة، لأنها نادرة للغاية هناك.”
تدخل إيرن، الذي كان يستمع بهدوء طوال الوقت، ليشارك رأيه:
“وربما المقصود ليس الماء فحسب… بل ما يرمز للحياة في الصحراء؟”
بدأت جوديث تقبض على يديها وتبسطهما، وكأن فكرة ما تلوح في ذهنها.
ما الذي كان يُعد رمزًا للحياة في أعين سكان الصحراء؟ شيء ينمو رغم المناخ القاسي، ولا يفقد خضرته رغم الهواء الجاف والعواصف الرملية… شيء يصمد في أرض عطشى بلا ماء…
“…الصبّار!”
همست جوديث بذلك، ثم التفتت إلى بييتشي:
“أليس هو الصبّار، يا سيد بييتشي؟”
—
رغم ندرة الصبّار في الإمبراطورية، تمكن بييتشي وجوديث من جمع كل نوع متاح منه.
انكبّ بييتشي على دراسته مباشرة، بينما توجهت جوديث وإيرن إلى غرفة هنري.
“سيدي هنري.”
ذاك الرجل، الذي اعتادوا رؤيته مبتسمًا دائمًا، كان ممدّدًا على السرير، وجهه غائر في الوسادة، لا يتحرك.
“هنري.”
وقف إيرن إلى جانب السرير، يحدق بالشخص الوحيد الذي اعتبره صديقًا حقيقيًا، غارقًا في يأسه.
“وجدنا أولئك الذين خدعوك.”
ارتجفت كتفا هنري عند سماعه ذلك.
“كما وجدنا وصفة مستحضرات التجميل… والصيدلي يعمل على إعداد الترياق الآن.”
التفت هنري قليلًا، وظهر على وجهه تعبير أكثر جدية مما رأوه في آخر لقاء.
“الترياق… سيصل قريبًا.”
قالها إيرن كنوع من المواساة، رغم أنه لم يكن بارعًا في ذلك، فظلت الكلمات عالقة في حلقه.
ومع ذلك، جمع شتات صوته ليتحدث، حتى وإن لم يستطع قول عبارة تشجيعية صريحة.
“سيدي هنري… لا يمكنك الاستسلام.
السيد بييتشي قال إنك لا تأكل جيدًا.”
كان هنري قد كفّ عن الطعام من شدة الإحباط، مكتفيًا بما يقدّمه له بييتشي من أدوية ممزوجة بمكملات غذائية.
“لا تفعل ذلك، حالتك الجسدية ضرورية للعلاج. أرجوك، حاول أن تأكل.”
لمست جوديث ساعد هنري برقة، فردّ عليها بلمسة ضعيفة بأصابعه المتشققة المغطاة بالصديد والدم.
فهمت قصده، فنهضت.
لم ينتهِ يومهم بعد.
أرسلت رسولًا إلى سميث لإبلاغه بنتائج التحقيق، ثم غادرت مع إيرن لمقابلة الماركيز موسلي.
—
كان الماركيز موسلي منشغلًا بمهمة طارئة مع القوات الأمنية، بعيدًا عن قصره.
“أرجوك يا ماركيز، أرجوك، حفيدتي…
ستموت إن بقي الوضع على حاله!”
“سأبذل أقصى جهدي، سيدتي.”
قالها بلطف لسيدة مسنة كانت تبكي بحرقة، مستندة إلى كاين، تكاد تنهار من شدة الألم.
كان كاين يحدق في السماء بعينين خاليتين من الحياة، يراقبها وهي تغادر في عربة واقفة أمام مركز الشرطة.
“أنا مرهق حتى الموت…”
“…إيرن؟”
كان صوته واهنًا، مرهقًا إلى أقصى حد.
“هذا يتكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة يوميًا.
لا وقت لدي للتحقيق، فأنا غارق في شكاوى الأهالي.”
مسح وجهه بكفّيه، ثم صافح جوديث دون مجاملة.
“لقد وجدناهم.”
“ماذا؟!”
اتّسعت عينا كاين المُحمّرتان من التعب.
“لكن هناك شريكًا لهم.
اشتروا طريقة صنع المستحضرات مقابل المال.”
“أين هم؟
سأقبض عليهم بنفسي، وألقي بهم في السجن ليذوقوا العفن فيه!”
كان كاين غاضبًا أكثر من المعتاد عند مطاردة منتهكي القوانين المحرّمة.
لكن جوديث هدأته قبل أن يندفع.
“تمهّل، ماركيز.
لم نحدد بعد هوية من باع الوصفة.
نعرف فقط طريقة الاتصال… لا تتم مبادلة الأموال مباشرة.”
“بل يُدفنون المال تحت الأرض، ويُتركون غصن شجرة كإشارة.”
قطّب كاين حاجبيه بقلق.
“هذه طريقة يستخدمها أتباع العقيدة الحمراء.
إنها طريقة سيريس في التواصل.”
“أوه، رأيت شيئًا كهذا من قبل…”
قالتها جوديث وإيرن، وقد أخرجتهما الوصفة من صدمة اللحظة.
“لكن هؤلاء المحتالين لا يشبهون أتباع سيريس… على الأقل ليس الذين التقيناهم.”
“ربما من علّمهم الوصفة كان منهم؟”
نظر كاين إلى جوديث وقال:
“سيريس لم يكن من الأتباع، لكنه نفذ ما طُلب منه.
لذا، من الطبيعي أن يُكرر الآخرون ما فعلته.
ووفقًا لشهادة روام، تلك الجماعة تمرّ بضائقة مالية، وقد فعلوا ذلك لأجل المال.”
بدت فرضيته منطقية تمامًا.
“أرسلوا الجنود سرًا.”
ورغم أن تحركهم جاء متأخرًا قليلًا عن إيرن، إلا أن الوقت لم يُفُت بعد.
المحتالون خططوا للاختباء في الغابة لصنع المستحضرات، ومن ثم الانتقال إلى الشمال لخداع الناس هناك.
لذا، لن يغادروا قبل الانتهاء من التصنيع.
“سأنتظر لحظة الاتصال، وأقبض على من باع الوصفة دفعة واحدة.”
كان كاين مصممًا على الإطاحة بالجميع.
“هل تظنان أنني عاجز عن القبض عليهم؟ لا تقلقا، ارتاحا الآن أنتما.”
—
عدتُ أنا وإيرن أولًا إلى قصر راينلاند.
وما إن وصلنا، حتى أسرعت إلى الحمام.
أخذت حمامًا مطولًا، غسلت كل شبر من جسدي. رغم أنني مسحت وجهي ويدَيّ بمنديل إيرن فور خروجي من الخيمة، وغسلت جسدي في النزل أثناء عودتنا من الشمال، إلا أن فكرة زحفي على أرض ملطخة بالدم والتراب لم تفارقني.
غسلت وجهي ثلاث مرات، وشعري مرتين.
أي عذاب هذا الذي جرّه علينا هؤلاء المجانين؟ حتى الآن، حين أغمض عيني، أرى الجثث المطمورة تحت الحجارة.
“رحمة الله على الموتى…”
أرسلت دعائي شمالًا، محاولةً طرد الصورة من رأسي.
خرجت من الحمام، منتفخة من طول الغسل، لأجد إيرني في الردهة مرتديًا رداء الحمام.
“ظننتكِ قد غرقتِ، آنسة هارينغتون.
ما الذي أخّركِ كل هذا في الحمام؟”
كان قد انتظر طويلًا، وحين ضاق صبره، ذهب إلى حمام آخر واستحم.
“أشعر بالقشعريرة.
أنت لا تعلم ما كان في تلك الخيمة.”
“وهل تفخرين بذلك الآن؟”
“ومن قال إنني أفتخر؟ أنا فقط أروي ما جرى.”
“لا يبدو عليك الندم.”
بدأنا نتجادل مجددًا، أنا وإيرن.
“عذرًا…”
كان تان قد جاء ليحدثني، لكن إيرني قاطعه.
“إن لم يكن الأمر طارئًا، فلاحقًا.
أظن أن الآنسة جوديث هارينغتون بحاجة لتوبيخ صغير.”
“هل تعتقد أن روحي ما زالت تحتمل شيئًا؟”
ثم دخلنا معًا إلى غرفة إيرني.
وتمتم تان بصوت منخفض وهو يراقبنا نغلق الباب خلفنا:
“أعتقد أنكما تستطيعان النوم منفصلين الآن… لكن من الواضح أنكما لا تنويان ذلك.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ84
“ظننت أنك كنت تتأمل.”
في غرفة إيرن، أصدر إيرن زمجرة خفيفة وهو يخلع رداء الحمام ويرتدي بيجامته.
“تأملت في أمر ما مرتين أو ثلاث مرات على الأقل.”
قالت جوديث وهي جالسة، تحدق في الحائط، وشفتيها مضغوطتان كأنها تهمس، لكن بصوت مسموع كي يسمعها إيرن في نفس الغرفة.
“ما الذي كان يدور في ذهنك وأنت ذاهب إلى هناك بهذه الطريقة؟”
اقترب إيرن وجلس مقابل جوديث، التي التفتت إليه ونظرت مباشرة في عينيه.
لم تكن تلك نظرة المتأمل الذي يشعر بالذنب، بل كانت نظرة تحدٍ واضحة.
“ماذا كنت تفكر؟ لم تتوقع عودتهم، فدخلت المكان.
لكن بفضلي اكتشفنا مكونات مستحضرات التجميل. لو كنت نجحت بمفردي، لكان إيرن قد أثنى علي.”
تساءل إيرن، مع رفع حاجبيه:
“ماذا تقول وأنت على وشك الفشل؟”
“مدح؟ حتى لو نجحت، تستحق أن تُوبخ.
هل تقوم بأفعال متهورة كهذه بمفردك؟”
تنهد إيرن وهمس، “كنت أعلم أنك ستفعلين هذا، كنت أعلم.”
فُتح فم جوديث في صمت مكتوم.
“أعلم أنني أخطأت.
وأعترف كذلك بأنها كانت مخاطرة.”
لكن، أليس من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالتمرد عندما يُوبخ باستمرار؟ لو كانت قد فشلت، لما كان هناك نقاش.
لكنها نجحت.
فهل من العدل ألا تُمنح بعض التقدير على جهدها؟ شعر إيرن بالدهشة عندما نظرت إليه جوديث بتعبير يوحي بعدم الرضا.
“أنتِ لست طفلة، وتدركين أن الأمر متهور وخطير، فلماذا دخلتِ هناك؟ لماذا دفعت بنفسك نحو الخطر؟”
“كنت أعلم أن هذا سيحدث.
إذاً، لماذا تركتني وحيدًا؟”
شهقت جوديث.
“هل أصبحت غلطتي الآن؟”
“لا، أنت توقعتِ ذلك، فلماذا تركتني وحيدًا؟”
“ها، نعم، هذا خطئي.
لن أتركك وحيدًا مرة أخرى، أعدك.”
ارتفعت أصواتهما تدريجيًا، ثم توقفت فجأة.
أليس في الأمر شيئًا غريبًا؟
“لماذا تركتني وحيدًا؟ لن أتركك وحيدًا مرة أخرى.” كأنهما يتبادلان صرخة طفل صغير غاضب.
تجهمت جوديث وهي تتخيل الشكوى التي ستوجهها لحبيبها، ما الذي جعله يتصرف هكذا؟ شعرت بالخجل والندم.
“أعتقد أنني وعدتك ألا أتركك وحدك أبدًا.”
هل لم يسمع ذلك كأنه وعد أو قسم؟ تمنّى إيرن أن يكون ذلك مجرد وهم سمعه فقط، لكن الصمت المحرج أكد العكس.
احمرّت رقبة إيرن وهو يسعل بلا سبب.
“آه، دم، أشعر بالإرهاق.”
لم يتحملا هذا الصمت الغريب، فهمست جوديث:
“هل ننام الآن؟”
“…ذلك سيكون جيدًا.”
نعم، كان ذلك أفضل.
لأول مرة منذ زمن، شعر الاثنان بتوافق، فاستلقيا على السرير سريعًا.
كانت الحيرة تمنعهما من النظر إلى بعضهما، فقط حدقت أعينهما في السقف، لكن يداهما وجدت بعضهما كأنها مغناطيس.
“يدك.”
وضعت جوديث يدها فوق كف إيرن، التي تمددت بشكل طبيعي كالماء الجاري، فشبك إيرن أصابعه في أصابعها الرقيقة.
خوفًا من أن تفترق أثناء النوم.
“…”
شعرت جوديث بدغدغة خفيفة من أصابع إيرن على ظهر يدها، وتوقعت أن نومها سيكون صعبًا بسبب تلك الأصابع.
—
قوات الأمن المتنكرة كتجار راقبوا المحتالين ونصبوا لهم كمينًا قرب نقطة الاتصال التي ذكرها إيرن.
لكن لم يحضر أحد للنقطة.
عند حفر الأرض، اكتشفوا أن المحفظة قد اختفت بالفعل.
لا بد أن إيرن وقوات الأمن استحوذوا عليها أثناء تبديل الورديات.
كان كاين غير متفاجئ، إذ توقع ذلك، وقرر أن يركز أولًا على القبض على المحتالين، ثم البحث عن العقل المدبر.
فكر أيضًا في تعقبهم سرًا حتى موعد الاتصال التالي، خوفًا من وجود ضحايا آخرين في هذه الأثناء.
سارت عملية القبض على المحتالين بسلاسة، حيث داهمت الشرطة مخبأهم وألقت القبض على اثنين منهم، بينما تم القبض على اثنين آخرين من قبل بلطجية الحي الذين أطلقهم سميث.
كان الرجل ذو المئزر والرجل الذي يسحب العربة محظوظين أكثر من الاثنين الآخرين.
أخرج الأخ لوهمان غضبه على هؤلاء الذين باعوه مستحضرات تجميل غريبة.
“كنت غاضبًا، فلماذا بشرتي تتوهج الآن؟”
“واصلت استخدام مستحضرات التجميل التي صنعوها.
لو عرفوا مكان العلاج، لما ترددوا في إخباري.
لو أرادوا العيش، هاهاها.”
“فهمت.
فكرة جيدة.”
ضحك سميث بسخرية بعد مدح إيرن، وربط الرجل الطويل والضخم وسلمهم لإيرن.
أخذ إيرن وجوديث الرجلين وتوجها إلى مركز الشرطة.
حُجزت عصابة المحتالين في غرف منفصلة للتحقيق.
“إذا أخبرتموني بكل ما تعرفونه، سأخفف الحكم عليكم.
لكن فقط لمن يتحدث أولاً.”
قال كاين نفس العبارة، ففتحوا أفواههم جميعًا تقريبًا في آنٍ واحد.
“الشخص الذي علّمنا الوصفة كان طفلًا من قبيلة شارتين.”
“طفل؟”
“لم يكن صغيرًا جدًا.
حسب شهاداتهم، كان شابًا يتراوح عمره بين ستة عشر وثمانية عشر عامًا، وقالوا إنهم التقوا به مرة واحدة فقط.”
كان المحتالون يصنعون ويبيعون النقانق، لكنها ليست نقانق نظيفة أو قانونية.
كانت عبارة عن نقانق مصنوعة من دقيق الذرة وثمار المكاديميا السامة مع كل المنتجات الثانوية الملقاة بعد ذبح المواشي.
كانت أرباحًا كبيرة، لكنها لم تكن كثيرة مقارنة بجهودهم.
ثم جاء ذلك اليوم.
ظهر شاب من قبيلة شارتين، لم يروا مثله من قبل، وعرض عليهم فرصة لكسب الكثير من المال.
مستحضرات تجميل وعلاج للروماتيزم فعال في يومين.
كانت هناك آثار جانبية، لكن الشاب قال إن بإمكانهم الهرب قبل ظهورها.
“قالوا إن سعر منتجات المواشي وجثث البشر متقارب.”
لم يكن من الصعب الحصول عليها.
إذا اشتريت مقبرة، يمكنك الحصول على جثة طازجة في أي وقت.
يموت عدة أشخاص يوميًا.
“أسهل في التصنيع من النقانق.”
لكن عند البيع، يمكن بيعها بسعر مرتفع جدًا.
“قالوا إنهم سيبيعون مستحضرات التجميل وعلاج الروماتيزم من الجنوب إلى الشمال، ثم يتوقفون عند تغطية كامل الإمبراطورية.”
كانت تلك أموالًا تكفيهم لبقية حياتهم.
لم يستطع المحتالون رفض العرض.
“قالوا إنه إذا دفنت المال الناتج من بيع مستحضرات التجميل في ورقة، وعُدت بعد بضعة أيام، ستجد ورقة أخرى مكتوبًا عليها التالي.
هكذا يتم تبادل المال.”
“هل اكتشفتم مكان نقطة الاتصال التالية؟”
“نعم، عرفتها.”
“لكن، ماركيز.”
رفعت جوديث يدها وكأنها ستسأل.
“مع أنه في الثامنة عشرة، هو لا يزال طفلًا مقارنةً بهم.
لماذا هم متمسكون بوعدهم لطفل؟”
“لا بد أنهم تلقوا الوصفة، فلماذا لم يصمتوا؟”
“قال إنه سيلقي عليهم لعنة.”
“حقًا؟”
“الفتى هددهم بلعنة إذا لم يعطوه المال.”
ضحك إيرن ساخرًا.
“هل أعطيتم المال لأنكم خضعتم لتهديدات طفل؟”
“وأثناء كلامه، زحف ثعبان سام تحت قدميه.”
لو جرت المحادثة بين الشاب والرجل في مكان مهجور، لكان ذلك أقل غرابة، لكن قيل إنها وقعت في مطعم كبير قرب منطقة مزدحمة.
على الرغم من أن المطعم كان يستهدف العامة، لكنه لم يكن متسخًا لدرجة ظهور الثعابين.
“يبدو أن الثعبان فهم كلام الفتى أو شيء من هذا القبيل.
لابد أنه خاف كثيرًا.
الناس في الأزقة يؤمنون بهذه الأمور.”
العاملون في عالم الجريمة، سواء كانوا كبار المقرضين أو اللصوص الصغار، يعيشون دائمًا على حافة الموت.
الوفاة الغريبة والحوادث غير المفسرة ملازمة لهم.
فطبيعي أن يؤمنوا بالسحر والوساطات والأعمال الشعوذة.
“كم كان رائعًا أن يعرف فتى من قبيلة شارتين كيف يصنع مستحضرات التجميل من شحم الجثث وكيف يتعامل مع الأفاعي.”
حين يتأخر المال، يقولون إن العناكب السامة أو الحيوانات السامة تزحف إلى مخابئهم.
المحتالون كانوا يعتقدون أن هذا كله من عمل الفتى.
“أرسلت قوة شرطة سرية إلى نقطة الاتصال التالية. وطلبت منهم إخطارنا إن رأوا أي فتى من قبيلة شارتين في المنطقة.”
“هل تستطيع أن تخبرني شيئًا عن العلاج؟”
“لا، قال إنه لا يعرف.
الفتى قال إنه لا يحتاج إلى العلاج لأنهم لن يستخدموه، وأنه ليس مهددًا للحياة.”
لا يعرفون من هو الفتى، لكنهم يدركون أنه فاسد الخلق منذ صغره.
“على أي حال، هذا ما يجعلني قلقًا جدًا.”
هم لا يبالون بالحكة أو الحرق كآثار جانبية، لكن هنري…
تنهد إيرن بإيجاز.
مع مرور الوقت، بدأت بشرة هنري تتصلب.
“شاركت مكونات مستحضرات التجميل التي جلبتها زوجتي مع أطباء آخرين.”
“أتمنى أن يأتي أحدهم بعلاج قريبًا.”
—
الصبار التنيني، أكثر أنواع الصبار شيوعًا وقدامة في الصحراء.
اكتشف بييتشي أن العصارة اللزجة التي تخرج عند قطع صبار التنين نصفين لها خصائص قوية في إزالة السموم وتهدئة الالتهابات.
هناك دواء مطور مسبقًا يُؤخذ مع نيكار.
فلماذا لا يمزجون دواء عصارة الصبار مع مضاد نيكار ويتناولونه معًا؟
لكن المشكلة أن خلط هذين الدواءين يجعل كليهما عديم الفائدة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ85
“لا أستطيع الخروج من هذه الدوامة… كل الطرق تؤدي بي إلى نفس النقطة.”
كان بييتشي يعرض العلاج الذي صنعه على جوديث وإيرن، بعد أن عاد الاثنان إلى القصر.
ملامحه المرهقة ووجهه الشاحب لم ينبئا بخير.
قالت جوديث باقتراح حذر: “ماذا لو بدأنا بفك رموز كل مادة على حدة؟”
هزّ بييتشي رأسه بتعب: “لو أزلنا السموم الناتجة عن دهون الجثة أولاً، ستستمر الطفح في التفاقم بسبب النيكار.
أما إذا بدأنا بتطهير آثار النيكار، فستزداد الحكة سوءًا بسبب سموم الجثة، ولن تلتئم الجروح، بل ستبدأ بإفراز القيح.”
العلاج يجب أن يكون متزامنًا…
لكن كل محاولات الجمع بين العقارين باءت بالفشل.
كان على وشك فقدان صوابه.
تدخلت جوديث بلطف: “لماذا لا تستشير أطباء آخرين؟”
ثم أومأت برأسها مضيفة: “قد يكون من المفيد الاطّلاع على وجهات نظر جديدة.”
رغم أن معرفتها الطبية كانت محدودة، فقد أرادت المساعدة بأي طريقة، وقد طمأنها بييتشي قائلاً إن الكتب الطبية التي أحضرتها له كانت ذات فائدة عظيمة.
أثناء حديثهم، كان إيرن يحدّق في القارورتين الموضوعتين على المكتب.
قال متسائلًا: “لكن هذه جرعة سائلة، وتلك مرهم؟”
لم يكن إيرن طبيبًا، لكنه استطاع التمييز بين ما يُشرب وما يُدهَن.
“إذاً، ببساطة يمكن تناول واحدة ودهن الأخرى.”
تجمّد بييتشي في مكانه، مذهولًا من بساطة الفكرة.
فتح فمه، لكنه لم ينطق.
“…هاه؟”
كان على وشك رفض الفكرة باعتبارها ساذجة، لكن…
ربما؟ هل يمكن فعلًا أن تنجح؟
قفز فجأة، التقط القارورتين وقال باندهاش: “واحدة للشرب وأخرى للدهن؟ لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟! الدواء إما يُتناول أو يُستخدم خارجيًا!”
—
“أجل… الأمر أفضل بكثير.”
في البداية، لم يكونوا واثقين من نجاح العلاج، فقد تظهر آثار جانبية خفية.
لكن السير هنري قرر تجربته بنفسه.
حتى لو كان سُمًّا، فهو أهون من هذه المعاناة.
تناول ترياق النيكار الذي حسّنه بييتشي، ودهن المرهم المصنوع من مستخلصات التنين والصبار.
كان يستخدمه ثلاث مرات في اليوم، وبحلول اليوم التالي بدأت بوادر التحسّن تظهر على وجهه.
سألته جوديث: “كيف هي الحكة الآن، يا سير هنري؟”
“تحسّنت كثيرًا.
لا أقول إنها اختفت، لكنها لا تُقارن بما كنت أعانيه قبل يومين.”
نبرته باتت أكثر حيوية.
حتى الأخ لوهمان، الذي تلقى العلاج نفسه، أظهر تحسّنًا ملحوظًا خلال يومٍ واحد فقط.
وبعد يومين من الاستخدام، بدأت قشور تظهر على وجه هنري، ما يعني أن النزيف والصديد قد توقفا، وبدأ الجلد الجديد بالتكوّن.
جاءت أنباء مشجّعة من الإخوة لوهمان أيضًا، فقد بدأوا بالتعافي.
بييتشي وجوديث قرّرا التريّث أسبوعًا واحدًا قبل طرح الدواء في السوق.
قال بييتشي: “حضّرت أيضًا علاجًا لالتهاب المفاصل. أحتاج لمتطوّع لتجربته.”
وبما أن علاجات التجميل أثبتت فعاليتها، فمن المرجّح أن ينجح علاج المفاصل أيضًا.
أخذت جوديث وإيرن الدواء الجديد وتوجها إلى كاين ليسألاه إن كان من بين ضحايا التهاب المفاصل من يرغب في تجربته.
لكن عند مدخل مركز الشرطة، صادفا شخصية مألوفة من الرواية الأصلية…
رجل ذو شعر أبيض، لحية بيضاء، ووجه مجعّد يحمل وسامة رجولية وهيبة لا تليق إلا بالقادة.
إنه القائد العام لفرسان الفرقة الأولى، شرف الإمبراطورية: جيلارد.
“إيرن راينلاند.”
“مضى وقت، يا عجوز.”
نظر إليه جيلارد متفحّصًا، ثم قال بسخرية: “وجهك يلمع أكثر من ذي قبل.”
هو ذاته الذي طرد إيرن من الفرقة الأولى منذ اليوم الأول، فقط لأنه رآه يحمل براعم صفراء – رمزًا للضعف أو الفساد.
عبس إيرن ما إن رآه، لكن جيلارد تظاهر وكأن اللقاء ودي.
“قالوا إن ركبتيك تؤلمانك، ومع ذلك تتجوّل كأنك في ريعان الشباب.”
رمق إيرن ركبتيه وأضاف بسخرية:
“لو كنت مريضًا حقًا، لجلست ترتاح في بيتك.
ما الذي جاء بك إلى مركز الشرطة؟ لتضايق ماركيز موسلي مثلاً؟”
أجاب جيلارد بابتسامة باردة: “سمعت أن الماركيز يتسكع معك مؤخرًا.
وأنك قبضت على ذلك الرجل، روام.
جلالة الإمبراطور مدحك كثيرًا.”
ثم أردف بنبرة حيادية، وكأن ما قاله سابقًا لم يكن تهكمًا: “وقيل أيضًا إنك تزوجت زواجًا ناجحًا.”
ارتبك إيرن.
لم يعرف كيف يرد على هذا الكلام الغريب.
لم يستطع إنكاره مباشرة، فخسر الجولة.
في تلك اللحظة، انحنت جوديث بأدب وقالت: “أشكرك على الإطراء.”
نظر إليها إيرن بدهشة.
هل أدركت ما قالته؟!
الآن يبدو وكأنه فعلًا زوج ناجح! وهو من هزم روام؟!
في حين كان إيرن غارقًا في تساؤلاته، تابع جيلارد حديثه مع جوديث متجاهلًا إيرن تمامًا.
“الكونتيسة هنا لها ظروفها الخاصة، تختلف تمامًا عن زوجها.”
ثم وجّه نظرة باردة إلى إيرن وأضاف:
“كيف انتهى بك المطاف إلى الزواج من شخص كهذا؟”
كان يرى في إيرن مجرد وغد لا يستحق الاحترام. لكن، بعد سماعه من كاين عن جوديث، المرأة التي تسدد ديون زوجها بنفسها وتدعمه، بدأ يرى أنها أسمى من أن تكون بجانبه.
قال إيرن بسخرية:
“من هذا النوع؟! تشعر بالأسى لمجرد سماعك عني؟”
“أجل، أين ستجد شخصًا مثلي بسهولة، أيها العجوز؟”
رد جيلارد بازدراء:
“ربما لا يوجد مثلك كثيرون، لكن المؤكد أن هناك من هم أفضل منك.
لقد وقعت في الحفرة فوجدتك فيها.”
نقر جيلارد لسانه بأسى، ثم أردف:
“أقول هذا لأنني أعتبرها كأنها حفيدتي.
ماركيز موسلي سيكون خيارًا أفضل بكثير.”
لم يكن غريبًا أن تصدر مثل هذه التصريحات في رواية مصنفة للكبار.
كل شخصية فيها تتحدث بحرية لافتة.
قالت جوديث بابتسامة هادئة: “أشكرك على النصيحة.
سأفكر بالأمر.”
رغم تصنيف الرواية، ظلّت جوديث حكيمة.
احترمت الشيخ ورفضت اقتراحه بلطف غير مباشر.
لكن، لسوء الحظ، لم يلتقط إيرن الرسالة بذات الفهم.
نظر إليها مستفهمًا، وكأنه يطلب منها توضيحًا، لكنها لم تلتقط نظرته هذه المرة.
أمالت رأسها باستغراب، بينما قال جيلارد: “ما الذي جاء بكِ إلى مركز الشرطة، سيدتي؟”
أما إيرن، فلم يعد يُحسب له حساب.
ردّت جوديث: “حضّرت علاجًا لالتهاب المفاصل يثير اهتمام الكثيرين.
جئت لأرى إن كان أحد الضحايا يرغب في تجربته.”
فقال جيلارد على الفور: “إذن، لا حاجة للدخول.
أنا سأجربه.”
“نعم؟!”
قيل إن القائد العام للفرقة الأولى كان أحد ضحايا أدوية التهاب المفاصل.
قال بيأس: “إذا لم تعد الركبتان تعملان، فالأفضل لي أن أتقاعد.”
“هل أبدو كشخص يعتمد على الدواء؟ كانت هدية من ابنة أختي.”
ثم مدّ يده إلى جوديث قائلاً: “إن كنتِ ستجرّبينه، فليكن على جسد يحتضر.”
أعطته جوديث زجاجة الدواء مع شرح مفصل لطريقة الاستخدام، وأوصته بإبلاغها بأي أعراض جانبية أو مؤشرات تحسّن.
قال لها: “سنفعل.”
ثم أثنى على جهودها، قبل أن يوجّه إلى إيرن نظرة ازدراء.
“تسك تسك…”
لم يقل أكثر من ذلك، لكنه خلّف وراءه أثرًا يفوق أي إهانة.
غلى دم إيرن.
قال بغيظ:
“لماذا لا نخلع الرتب ونتبارز، أيها العجوز؟!”
أمسك مقبض سيفه، لكن جيلارد رفض التحدي، ثم صعد إلى عربته.
“وما الفائدة من أن يهزم شابٌ عجوزًا؟”
أغلق باب العربة، وتحركت ببطء، كأنها تتعمّد استفزاز إيرن.
تابعها بعينين تقدحان شررًا، ثم التفت فجأة إلى جوديث.
“ماذا؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
لكنه لم يشرح لها أبدًا مغزى تلك النظرة.
وبعد يومين، وصلت أخبار من جيلارد تفيد بأن العلاج كان فعالًا للغاية في تخفيف الألم.
—
“انظر، يا بييتشي.”
“…اهدئي، آنسة هارينغتون.”
تراجع بييتشي بخوف من نظرة جوديث.
ابتسامتها كانت دافئة كنسيم الربيع، لكن عينيها اشتعلتا برغبة تفوق حرارة شمس الصيف.
“قل لي، ماذا تشمّ؟”
كانا في غرفة فارغة بالقصر، لا رائحة فيها سوى الغبار، ومع ذلك تظاهر بييتشي بأنه يشمّ شيئًا.
“ماذا تشم؟”
“لا شيء.”
“اشتم جيدًا… إنها رائحة المال.”
“…آه؟”
“ألا تشمّ عبق النجاح؟
رائحة دوائك الذي سينفد من الأسواق؟
هذه الغرفة ستمتلئ قريبًا بعملات الذهب!”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ86
“اللعنة… لقد كنا هالكين منذ البداية.”
“هل نحن على قائمة الإعدام، أخي؟”
“آمل ألا تصل الأمور إلى ذلك…
لقد دمّرت كل شيء، وأنا أعلم ذلك.”
في السجن التابع للشرطة، اجتمع النصابون الأربعة مجددًا خلف القضبان.
قال الرجل الطويل وهو يدفن وجهه بين ركبتيه، فيما تمتم سائق العربة بجانبه:
“كان ينبغي أن أكتفي بصنع النقانق وبيعها.”
لطالما كان المال نقمةً عليهم.
لقد أعماهم الطمع.
“ما كان عليّ أن أتورط مع ذلك الفتى منذ البداية.”
لم يكن الأمر مرتبطًا بانتمائه لقبيلة الشارتين.
فالنبلاء المتغطرسون يرونهم أدنى منزلة ويصفونهم بالقذارة، لكن هؤلاء الرجال ترعرعوا في الأزقة الخلفية، جنبًا إلى جنب مع الشارتين، ولم يحملوا يومًا أحكامًا مسبقة ضدهم.
لكن ذلك الفتى… لم يكن بشرًا.
حتى أعتى الأشرار في هذا العالم، تحتفظ نفوسهم ببقايا من إنسانيتهم.
أما ذلك الصبي، فقد بدا وكأن الرحمة قد انتُزعت من كيانه تمامًا.
“لكن… أن تُصنع النقانق من جثث بشرية؟! هذا جنون…”
“وما الفرق بين معالجة بقايا الحيوانات الميتة، ومعالجة أجساد بشرية مات أصحابها بالفعل؟”
لم يكن يقصد التهكّم.
لو كانت نبرته ساخرة، لما اجتاح القشعريرة أجسادهم.
لا، لقد نطقها بنية خالصة، وكأنما يطرح سؤالًا طفوليًا.
ما الفرق الحقيقي؟ كلاهما جثث هامدة.
فلماذا التردّد؟
لم تكن نظراته ساخرة، بل ملأها الفضول البارد.
ومع ذلك، لم يُلح بالسؤال.
بل عرض عليهم مبلغًا من المال يكفي ليحيوا حياة رخاء لا تنتهي.
الجنود الذين استجوبوا العصابة لم يكفوا عن السخرية منهم: “كنتم تدفعون المال لصبي يتحكم بالأفاعي؟”
لكنهم لم يستطيعوا مقاومة تلك النظرة…
تلك العينان الذهبيتان الصافيتان، والمفعمتان بالطمع، كأنهما عينا أفعى.
كانت عينا ذلك الصبي أكثر صفاءً من أعين أي شارتين، لكنها في الوقت نفسه كانت أكثرهم جشعًا.
والآن، في الزنزانة، تلاحقه تلك النظرة كلما أغمض عينيه.
“اللعنة… إنها تلك الأفعى!”
“السجّان! هناك أفعى هنا، آه—!”
—
أي شخص يستطيع شراء مستحضرات تجميل بسعر قطعة ذهبية للزجاجة، يستطيع كذلك شراء الدواء.
كان هذا منطق جوديث.
شعرت أنه من الظلم بيع مستحضرات تجميل بذلك السعر، ثم تقديم العلاج مجانًا.
لذا، قررت بيع العلاج الذي صنعه بييتشي مقابل المال، لكن ضمن ضوابط أخلاقية تراعي معاناة الضحايا.
والنتيجة… كان الدواء يُباع كأنّه ذهبٌ سائل.
ولم يكن ذلك مستغربًا.
منحت جوديث إحدى الغرف الفارغة في القصر لبييتشي ليحولها إلى ورشة، وبسبب الطلب الهائل، جُنّد الجميع، حتى ميا، للمساعدة في إعداد العلاج.
“سيد بييتشي، انتهى زمن العذاب، وبدأ زمن السعادة.”
“بل أظن أن زمن الشقاء الحقيقي بدأ الآن.”
ضحك بييتشي وهو يتأمل الزجاجات التي تنتظره، ضحكة يغلفها السأم والإنهاك واليأس.
مضت أيام لم ير فيها الشمس.
لكن السعادة… تأتي حين يتدفق المال.
يعمل بييتشي الآن 12 ساعة يوميًا، يبدو كصيدلي ناجح، ومع ذلك لم يدخر شيئًا.
لا يزال يعيل نفسه والآخرين من دخل يومي بالكاد يكفي.
تان يعمل كوسيط روحاني، ميا ورايان يعملان بالأجرة، ومع كل هذا، لم يكن الدخل يغطي شيئًا.
لكن بفضل العلاج… بدأ المال يتدفق.
اشتروا اللحم، الفاكهة، وحتى ملابس جديدة.
كل هذا ما كان ليحدث لولا الدواء… ولولا جوديث.
“هل أنت سعيد الآن، سيد بييتشي؟”
“أعتقد… نعم.”
أومأ برأسه كما لو أصابته نشوة المال، ثم عاد لعمله.
راقبه إيرن وهو مستند إلى الحائط، وتمتم ساخرًا:
“ها قد سقط رجل آخر في عبادة المال.”
دخلت كايا حاملة كومة من الأعشاب الجافة:
“أين أضع هذه؟”
“هناك، في الزاوية.”
ثم دخل فاديم وميلو بأعشاب إضافية.
كان الكبار مشغولين للغاية، فأسندوا للأطفال مهام بسيطة كحمل الأعشاب.
رأت جوديث ذلك، وقررت مكافأتهم ببعض العملات الصغيرة.
فوجئ الأطفال، فكانت تلك المرة الأولى التي يمسكون فيها بالمال.
ومنذ تلك اللحظة، بدأوا يبحثون بأنفسهم عن أي عمل يمكنهم إنجازه دون أن يُطلب منهم.
“تششه، حتى الأطفال أصابهم جنون المال.”
تساءل إيرن في نفسه:
هل سينتهي المطاف بالجميع وهم يطاردون المال بجنون؟
—
في الأيام التالية، أمام متجر البخور…
“سيدتي، لا تقلقي كثيرًا.
كنتُ في حالة أسوأ، لم أكن أتعرف على نفسي في المرآة.
لكن هذا الدواء يصنع المعجزات.”
كان هنري واقفًا أمام طاولة بيع مؤقتة، يبيع العلاج. لم يُشف تمامًا، لكن بشرته استعادت جزءًا كبيرًا من نضارتها.
في السابق، كان يخجل من الظهور أمام الناس بندوبه وبقعه، أما الآن، فكان يعرضها بفخر.
الإيمان بأن الشفاء ممكن، والرغبة في مساعدة الآخرين، منحتاه شجاعة لم يعرفها من قبل.
“هل ستتحسن حالة ابنتي أيضًا؟”
“نعم، لا تقلقي.
ستتحسن قريبًا.”
كان حديثه صادقًا، ومواساته نابعة من القلب، ما جعل كلامه عزاءً حقيقيًا للضحايا وأسرهم.
وبالطبع… ازداد الإقبال على الدواء.
أشارت إليه جوديث بإعجاب، وردّ بابتسامة واثقة.
“ذلك الفتى خُلق ليكون بائعًا.”
قال إيرن وهو يراقبه، ثم تمتم في داخله، محظوظ أن هنري لا يعلم مكونات تلك المستحضرات.
“هنري، هل تهمك معرفة مما صُنع ذاك المكياج؟ أنصحك ألّا تسأل.”
“حتى أنت تقول هذا؟ وأنت من رأى أهوالًا؟”
“بلى…
لأن بعض الحقائق لا دواء لها، حتى من صنع بييتشي.”
اقتنع هنري فورًا حفاظًا على سلامته النفسية.
“أين أضع هذا؟”
“ضعه في المتجر، إيرن.”
وما إن دخل، حتى دوى صوت حوافر خيل تقترب بسرعة، قبل أن تتوقف أمام المتجر.
“إيرن!”
“ماركيز؟”
كان كاين.
قفز من حصانه وحيّا هنري بسرعة، ثم أسرع نحو إيرن.
“أنا قلق.”
قالها إيرن، لكنه لم يطرح سؤالًا.
“جلالة الإمبراطور يطلبك في القصر.”
“مجدّدًا؟ لماذا؟”
“يريد تكريمك على مساهمتك في كشف فضيحة مستحضرات التجميل المحظورة.”
تنهد إيرن.
لم يكن يحب زيارة القصر لمجرد المجاملات، لكن…
إن كانت تهنئة من الإمبراطور، فلا بأس.
ومع ذلك، كان في سلوك كاين ما يثير الريبة.
“لستَ من النوع الذي يركض لأجل التهاني.”
“العصابة… ماتوا جميعًا.”
“ماذا؟!”
“ذهبت صباحًا… ووجدتهم موتى.”
مسح كاين جبينه بمنديل وهو يضيف:
“لم يُجرَ التشريح بعد، لكن آثار اللدغات على الجثث تشير إلى سم أفاعٍ.
الطبيب يظن أنها سُموم قاتلة.”
تذكّر إيرن على الفور ذلك الفتى الذي يتحكم بالأفاعي…
“طبعًا… لم تتمكنوا من الإمساك بأية أفعى.”
“بالطبع.”
…هل قالها بثقة؟ أليس من المفترض أن يشعر بشيء من الخجل؟
رغم عبوس وجه إيرن، أكمل كاين:
“لكن جلالة الإمبراطور لا يعلم بالأمر بعد.”
“ولماذا لم تُخبره؟”
“لهذا السبب… سأدخل القصر برفقتك.”
…ولماذا عليّ أن أذهب معك عند إبلاغه؟
بأي منطق؟!
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ87
في قاعة العرش، خيّم التوتر كستار ثقيل.
كان إيرن واقفًا وقد استدعاه الإمبراطور شخصيًا، يرمق جيلارد بنظرة مشوبة بالامتعاض، إذ كان الأخير يحتلّ موقع المساعد المعتاد الذي طالما أزعجه وجوده.
منذ البداية، لم يُعلّق إيرن آمالًا كبيرة على أن يحصل على معلومات ثمينة من أولئك المحتالين الأربعة، لذا لم يندم كثيرًا على موتهم.
لكن ما أثار حنقه حقًا هو عجزه عن كشف المزيد بشأن “فتى مروّض الأفاعي” الذي زوّدهم بوصفة العلاج.
قال الإمبراطور بنبرة صارمة:
“هل خدعكم جميعًا مجرد فتى يروّض الأفاعي؟”
ردّ جيلارد بتحفظ:
“يبدو أنه أرسل الأفعى بعد أن علم باعتقال العصابة، لكن لا يمكنني الجزم بذلك.”
رفع الإمبراطور حاجبيه ببرود:
“وماذا نعلم إذن، يا ماركيز؟ فقط أن هناك أربعة محتالين ماتوا؟ أم أن ذلك الفتى لا يزال حرًّا طليقًا؟”
انحنى كاين برأسه كمن يشعر بذنبٍ ثقيل، بينما شعر إيرن، الواقف إلى جانبه، بامتعاض غريب، وكأنّ اللوم قد وُجّه إليه بلا داعٍ.
ساوره شعور مزعج منذ اللحظة التي طلب فيها الإمبراطور حضوره وحده، دون جوديث، رغم أنها كانت شريكته في ذلك الإنجاز.
سأله بتوجس:
“ما سبب استدعائي؟”
لكن الجواب لم يأتِ من الإمبراطور، بل من جيلارد:
“حتى وإن لم يكن هناك أمرٌ طارئ، فعندما يستدعي جلالة الإمبراطور أحد رعاياه، فعليه المثول فورًا.”
تصلّب وجه إيرن أكثر.
“إذًا، استدعيتني دون سبب جوهري؟”
قال الإمبراطور بابتسامة باهتة تشوبها ريبة لا تُحتمل:
“استدعيتك لتهنئتك على ما حققت.
رغم أنك لست من فرسان الإمبراطورية، إلا أنك ساهمت في حلّ واحدة من أعقد المشاكل التي واجهناها.”
لكن إيرن لم ينخدع.
أهذا كل ما في الأمر؟ أليست التهاني عادةً تتبعها مكافأة أو على الأقل وسام يُمنح؟
انتظر بصبر مشوب بالحذر، معتقدًا أن هناك جملة أخرى ستقال، لكن الإمبراطور بدا وكأنه أنهى الحديث.
قال أحد الحضور:
“أداء الكونتيسة كان مدهشًا هذه المرة أيضًا.”
ضحك آخر ساخرًا:
“ذلك الأحمق نال زوجة تفوقه بسنوات ضوئية!”
ثم قال الإمبراطور وكأنه يختم النقاش:
“بلّغ زوجتك أننا نُقدّر مجهودها.”
شهق إيرن داخليًا، وقد بلغ الغضب حلقه.
أهذا كل شيء؟ لا مكافأة تُذكر؟
كان على وشك الانفجار.
إن لم تُمنح مكافأة لمن أنقذ البلاد، فأي نوع من الولاء تتوقعه، أيها الإمبراطور؟
تخيّل خيبة أمل جوديث التي كانت تنتظر المكافأة بفارغ الصبر، وتخيّل نفسه وهو يعود إليها خالي الوفاض.
قال الإمبراطور بتوتر، وهو يرى الغضب يشتدّ في ملامحه:
“لا… بالطبع هناك مكافأة.
فقط، رجاءً، خفف من تعابير وجهك.”
غمغم إيرن بمرارة:
“هذه المرة لا يجب أن تكون فستانًا.”
تدخّل جيلارد بوجه عابس:
“لطالما كنت رجلًا زاهدًا، لكنك تغدو أكثر جشعًا يومًا بعد آخر.”
ردّ إيرن ببرود:
“الآنسة هارينغتون تترقّب بشغف الذهب الذي وعدها به جلالتك.”
وافق الإمبراطور قائلًا:
“نعم، الكونتيسة تستحق مكافأتها.”
رفع إيرن حاجبه ساخرًا.
إذًا، حين أطالب بها أنا أُتهم بالجشع، لكن حين تطلبها هي، توصف بأنها تستحقها؟
قال الإمبراطور:
“لقد دخلت وحدها خيمة أولئك المحتالين، رغم علمها بوجود جثة هناك، وجلبت لنا الوصفة.”
وأضاف كاين مؤيدًا:
“تتمتع بشجاعة حقيقية.”
كاد إيرن أن يصرخ:
إذن، لماذا استدعيتموني أنا؟
لماذا لم تُحضِروا جوديث بدلًا من ذلك؟
قال جيلارد بنبرة مازحة:
“لقد حظيت بزواج موفق.
بات الناس يقولون إن رمز الزواج المثالي هو إيرن راينلاند، لا ألبرت فيرني.”
ضحك الإمبراطور ضحكة مصطنعة:
“رجل نقيّ، لا يمسك سوى بيد زوجته، وعريس القرن…
بلا أي فضائح للخيانة!”
اشتدّت ملامح إيرن صرامة:
“أعطوني المكافأة الآن.
لدي الكثير من العمل.”
ضحك الإمبراطور بخفة:
“ألم تقل إن العطور تصنعها زوجتك؟ والوصفات يعدّها العطار؟ والمبيعات يتولاها السير هنري؟”
قال إيرن بجفاء:
“أنا أساهم أيضًا.”
ثم سأله الإمبراطور فجأة، بنبرة جادة:
“هل حقًا لا تنوي العودة إلى فرسان الإمبراطورية؟”
ردّ بثقة:
“سأُسقط جماعة المتّبعين دون الحاجة للانضمام إليهم مجددًا.”
“وماذا بعد؟ ستظل تعمل في متجر العطور؟”
فتح فمه ثم أغلقه.
بعد نهاية كل شيء، حين لا تعود جوديث بحاجة إليه…
كان ذلك سؤالًا لا يرغب حتى في التفكير فيه.
“سأتدبّر أمري.”
ردّ غامض، لكنه كل ما استطاع قوله.
قال الإمبراطور أخيرًا:
“المكافأة ستُرسل مباشرة إلى متجر الآنسة هارينغتون.
وستصل قبل عودتك.”
ثم أضاف، موجّهًا كلامه إلى جيلارد:
“أما أنت، فقد أعددت شيئًا خاصًا لك.
اتبع السير جيلارد.”
—
في متجر العطور…
“يا رجل! السيدة جوديث راين—
أقصد، الآنسة هارينغتون، لمَ تفعلين هذا؟!”
صرخ المساعد الذي أوصل المكافأة من الإمبراطور، وقد سحبته جوديث فجأة من معصمه.
“هارينغتون فقط.
لا تنسَ أين نحن.”
لم ترغب في أن تُعرف هويتها، خصوصًا مع تزايد عدد الزبائن بفعل شهرة العلاج.
فهم المساعد مقصدها سريعًا، وتدارك الموقف:
“جلالة الإمبراطور يُثمّن عطاءات الآنسة جوديث هارينغتون.”
تسلّمت جوديث الصندوق بثقل، ثم سألت مبتسمة:
“أهذا… ذهب؟”
“نعم.
مئة قطعة ذهبية.”
فتحت الصندوق الفاخر، أمعنت النظر في بريقه، ثم أغلقته بسرعة.
قال المساعد:
“وإذا تمّ القبض على المجموعة الرئيسية من المتّبعين، فالمكافأة ستكون مئتي مليون.”
“سنهتمّ بذلك.”
ثم همس المساعد:
“ويُقال إن فتى مروّض الأفاعي… هو زعيمهم.”
“زعيم؟ أي منصب؟ جنرال؟ قائد؟”
—
في سرداب القصر…
قاد جيلارد إيرن إلى أعماق الزنازين المظلمة، حيث لا تطالهم شمس، وكان الصمت هناك ثقيلًا، كأنّ أرواح الخونة تهمس في الأرجاء.
أشعل جيلارد شعلة أمام زنزانة قديمة، فظهرت يد نحيلة تمسك بشمعة.
اقترب وجه هزيل من الضوء، وظهرت ملامح شيخ ضئيل، بدا كأنه يحيا بين رمقين من الموت.
قال جيلارد:
“هذا أحد أعضاء المتّبعين.
انشقّ عنهم بعد تحرير كليف وسيريس.”
ثم أردف:
“لقّب نفسه بـ‘الوسيط ذو الريشة البنفسجية’.
وذكر أن من يقود الجماعة… هو فتى مروّض الأفاعي.”
صاح إيرن بريبة:
“أتصدّقه؟ قد يكون طُعمًا لا أكثر.”
نظر إلى الرجل الهزيل بريبة.
جسده المتآكل بالكاد يحافظ على توازنه، وساقه مضمّدة بخرق قديمة، ورائحته كالموت ذاته.
قال جيلارد بصوت خافت:
“هو من سيقودنا إلى الهلاك…”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ88
“سيقودنا إلى الهلاك.”
تفوه الوسيط ذو الريش الأرجواني، الذي ظل صامتًا يستمع إلى حديث إيرن وجيلارد، بصوت أجش كأن البلغم يغلي في حنجرته، فبدت نبرته منفّرة.
قال، متوجّهًا بالكلام إلى جيلارد:
“أشكرك.
سيدي جيلارد، أنت فارس شريف، تفي بوعودك.
تختلف كثيرًا عن بقية رجال الإمبراطورية الذين لا يعرفون معنى الإيمان.”
قهقه الوسيط ثم سعل بعنف.
سأل إيرن بنبرة حادة، وقد تجاهل كلام الوسيط:
“وعد؟ هل صرت تعقد وعودًا مع الخونة؟”
أجاب جيلارد دون أن ينظر إلى إيرن، وقد بقيت عيناه مثبتتين أمامه:
“قال إنه سيتعاون فورًا إن سمحت له بمقابلتك.”
“وهكذا أحضرتني؟”
“نعم.
أليس من المفترض أن تعرف أنت أيضًا السبب؟ لا بد أنك تتساءل، أليس كذلك؟”
رمى جيلارد زجاجة ماء نحو الوسيط الذي لم يتوقف عن السعال، فشرب منها قليلاً حتى استطاع الحديث.
سأل الوسيط بنبرة ساخرة:
“هل أردت رؤيتي لتطمئن أنني ما زلت أمشي على قدميّ؟”
ردّ إيرن باقتضاب:
“كنتُ فضوليًا.”
مسح الوسيط طرف فمه ونظر إلى إيرن، وعيناه الصفراء الساطعة توهجت بوميض مريب وسط الظلمة.
“هل كنتَ حقًا أهلًا لتدميرنا بهذا الشكل؟”
تمتم بكلمات مبهمة لا يفهم معناها، ثم قال:
“سأشرح لك كي تدرك.
قد يكون قائد الفرقة الأولى عجوزًا ضعيف العقل، لكنني لست كذلك.”
اقترب إيرن من القضبان الحديدية وهمس بصوت بارد كالجليد:
“أنا لم أعد فارسًا.”
قال الوسيط:
“سأخبرك بكل شيء، لكن بشرط.”
ردّ إيرن بضجر:
“كثيرة هي شروطكم.”
“في خيمتنا أطفال لا يعلمون شيئًا.
أرجوك، أعفِ عنهم.
وكذلك الشارتين الذين ساعدونا ظنًّا منهم أننا أبناء وطنهم.
لا ذنب لهم.
فقط أرادوا مساعدة أبناء جلدتهم.
أطلب من جلالة الإمبراطورة أن تكفل ذلك.”
قاطعه جيلارد بقسوة:
“هذا لن يحدث.”
هزّ الوسيط رأسه ببطء وقال:
“لن أنطق بكلمة ما لم تضمن لنا جلالتها طريق النجاة.”
كان “طريقهم” الذي تحدّث عنه قائمًا على قسم دموي بين الشارتين، ولم يكن ليصدّق وعود رجال الإمبراطورية، لا بكلماتهم ولا بشرفهم.
“ما سأقدمه لكم سيكون ذا فائدة عظمى، فهل سترفضونه حقًا؟”
التفت نحو جيلارد وقال:
“كنتُ على وشك أن أعلّمكم كيف تكسّرون الحظر.”
—
بعد سماع القصة، لم تتردد الإمبراطورة في تقديم ضمانها.
وبما أن الأمر لم يتطلّب سوى قطرة دم، وافق الإمبراطور أيضًا.
اضطر إيرن إلى البقاء في القصر حتى وقت متأخر من الليل، ثم عاد لاستجواب الوسيط الأرجواني.
قال الوسيط وهو يسعل بعنف:
“واحد، كح، بداية، هوه، كرك…”
“…”
“اسمح لي بالكلام، كح، كح.”
“تبدأ بكلمة واحدة؟ ما هذه الكلمة؟”
“نحن، كح… نحن… عنا، كح.”
“…”
كلما نطق بكلمة، سعل.
وكلما حاول أن يشرح، غصّ بحنجرته.
“نحن، كيييك، كرك…”
راقبه إيرن بانزعاج، وعروقه بارزة على صدغيه من شدة التوتر.
قال ساخطًا:
“لا، لا يمكننا فهم أي شيء مما تقوله.”
كاد الجنون يصيبه من شدة الإحباط.
مرّر يده بين شعره وتنهد.
بفضل ضمان الإمبراطورة، نُقذت حياة الأطفال وأعوان الوسيط من الشارتين، ما جعله يشعر ببعض الراحة.
بدأ جسده المنهك بالانهيار، بعد أن أدى غرضه الذي نذر نفسه له.
ورغم تدهور حالته، لم يُعر الأمر اهتمامًا كبيرًا، في حين كان إيرن وجيلارد يغليان من الغضب.
قال أحدهم متوسلاً:
“أحضِروا له بعض الدواء، أرجوكم.
إن استمر على هذا الحال، سيموت قبل أن ينطق بأي كلمة.”
فقال إيرن:
“…اتفقنا أخيرًا على شيء، على ما يبدو.”
أُعطي الوسيط وجبة خفيفة ودواء للسعال قبل أن يبدأ التحقيق الجاد.
لم يكن دواء السعال قادرًا على علاج داء الرئة الذي يعانيه، لكنه أمهله وقتًا كافيًا للإدلاء بشهادته.
قال:
“لا أدري إن كنتم تعرفوننا جيدًا.
نحن تحت قيادة الكهنة وثمانية شيوخ.”
رغم أن الكاهن هو القائد، إلا أنه في الحقيقة مجرد زعيم شرفي.
الكاهن شخص يدرس السحر ويتجرد من ذاته، ثم يضحّي بنفسه من أجل أتباعه عندما يحين الوقت.
لذا، يُكنّ له الاحترام، لكن الإدارة الفعلية بيد الشيوخ الثمانية.
“في التمرد الأخير، قُتل خمسة من الكهنة والشيوخ.”
جرى تعيين بدلاء عن الشيوخ القتلى، وتم اختيار الكاهن الجديد من بين مرشحي الكهنوت.
وكان الوسيط ذو الريش الأرجواني أحد الشيوخ الذين نجوا من التمرد.
بعكس الشيوخ، يشترط في الكهنة أن يكونوا من سلالة شارتين نقية، مما يصعّب عملية اختيار خليفة لهم.
“كان هناك مرشحان اثنان لمنصب الكاهن الأعلى هذه المرة.
ولأننا توقعنا فشل التمرد، اختطفناهما أولًا.”
“هل كان راقص الأفاعي أحدهما؟”
“نعم.
رغم ضعفه الجسدي، إلا أنه كان طفلًا موهوبًا.
لم أشك لحظة في أنه سيكون حجر الأساس لإعادة بناء إمبراطورية الشارتين.”
لكن الأمور تغيّرت.
بعد أن أصبح كاهنًا، طغى عليه الطمع.
“صار رجلاً لا يعرف إلا المال.
لا يتردد في بيع اللعنات إن حقق منها ربحًا.
حتى أسرار أجداده لم يتورع عن الاتّجار بها.”
من بين تلك الأسرار كانت الوصفات المجنونة لمستحضرات التجميل وأدوية التهاب المفاصل.
“أليست هذه اللعنات كانت مخصصة للبيع أصلًا؟”
“كانت كذلك، لكن لتمويل حياتنا وقضيتنا.”
“إذاً، هل لم يعد كاهنًا الآن؟”
أومأ الوسيط برأسه وهو يحتسي الماء كأنما يشرب خمرًا.
“يدّخر المال لإشباع شهواته.
لنفسه فقط، من أجل رفاهيته.
يهمل مهامه، ولا يصغي لنصائح الشيوخ.”
ولأجل المال، لم يتردد الكهنة في بيع الأدعية المحرّمة التي ظل أتباعهم يحتفظون بها طيّ الكتمان.
“قد لا تثمّن الإمبراطورية حياة شعوبها، لكنها على الأقل تعرف قيمة الإنسان.
أما الكهنة، فلا.”
لدى الكهنة تصنيف ثنائي بسيط:
“إما أن تكون نافعًا أو عديم الفائدة.”
فإن كنت مفيدًا، فأنت منهم.
وإن لم تكن، فأنت عدوهم.
“جماعة يقودها رجل كهذا مصيرها إلى الزوال.”
قالها الوسيط بنبرة تملؤها السخرية من الذات.
“لذا قررتُ أن أبحث عن موطن جديد.”
خان الوسيط الكهنة، لكنه لم يخن الأتباع.
خرج ليبحث عن أرض جديدة، مستعدًا لأن يُوصم بالخيانة.
حاول تأسيس بداية جديدة باستخدام كل ما لديه من معلومات واتصالات، لكن دون جدوى.
فقد كان مطاردًا من الأسرة الملكية كخائن، ومن الأتباع كخائن، ما جعل المَهمّة مستحيلة.
ولم يكن الحظ في صفّه أيضًا، إذ سقط في يد قطاع الطرق، وأُصيب بالسل.
“أنت تتحدث وكأنك استسلمت.”
“ولِمَ لا؟ أنفاسي توشك على الانقطاع حتى دون حكم إعدام.”
قال إيرن وهو يضرب القضبان بخفة:
“لم نُعطِك دواء السعال لتكذب علينا.”
“أنت تريدنا أن نقتل الكاهن بدلًا منك.”
إن قُتل الكاهن، فقد الأتباع مركزهم ونقطة تماسكهم، بينما أولئك الذين فروا بالفعل، أو كانوا يخططون للهرب، مثل الوسيط، يستطيعون تأسيس بداية جديدة في مكان آخر.
قال الوسيط مبتسمًا بخبث:
“يقولون إن عدوّ عدوك هو صديقك.
فكّروا في الأمر بهذه الطريقة.”
لم يُنكر كلامه، فضحك إيرن بسخرية.
“إذًا، أعطِنا معلومات صحيحة لنقبض على الكاهن.
أين يقع المقرّ الرئيسي؟”
“ذلك محميّ بحظر ذهبي.”
“لكن هذا مخالف لما وُعِدنا به.”
تمتم إيرن مهدّدًا، مشيرًا إلى أن الأطفال لن يُعفَوا إن استمر بالكذب.
“بدلاً من ذلك، سأعلّمكم كيف ترفعون الحظر الذهبي.”
“إن كنت تعرف طريقة فكّ الحظر، فافكك حظرك أنت!”
“طريقة وضع الحظر تختلف من وسيط لآخر، ولا يمكن إلا للوسيط الذي وضعه أن يزيله.
بالإضافة، لا يمكن للمرء أن يفرض الحظر على نفسه.”
شعر إيرن بأنه خُدع.
“إذاً حتى لو علّمتنا، فستكون الفائدة محدودة؟”
“لا داعي لهذا الوجه، فأنا وضعت أغلب الحظر بنفسي.”
دوّن الوسيط طريقة فكّ الحظر على ورقة.
“من وضع الحظر عليّ هو الكاهن الأعلى.
لذا، لا أحد سواه يستطيع رفعه.”
قضى وقتًا طويلًا وهو يخطّ تعاويذ معقدة على الورق.
—
عاد إيرن إلى قصر راينلاند في وقت متأخر من الليل.
كانت جوديث قد أنهت تنظيف المتجر مع هنري، وعادت باكرًا إلى القصر بانتظاره.
قالت:
“قالوا إن الأتباع الذين فرّوا بعد أن فُكّ حظر كليف وسيريس قد أُلقي القبض عليهم؟”
“ومن قال لك هذا؟”
“الماركيز.
جاء في وقت سابق ليسلّم مكافأة مالية.”
“هل كانت ذهبًا هذه المرة؟”
أومأت جوديث، لكن إيماءتها بدت باهتة ومرهقة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ89
“لقد حصلتِ أخيرًا على صندوق العملات الذهبية الذي كنتِ تنتظرينه بشغف، فلماذا ذلك التعبير على وجهك؟ هل كان المبلغ أقل مما توقعتِ؟”
“لا، كان السعر مناسبًا.”
“إذاً، ما المشكلة؟”
لنعد إلى بضع ساعات سابقة.
عندما كان المساعد يشرح الأمور بإيجاز قبل صعوده إلى العربة، دخل زبائن آخرون إلى متجر جوديث.
كانوا سميث والأخوان لوهمان، الذين كانوا يمرون عبر الساحة لجمع الفوائد من الدائنين الآخرين. وبينما توقفوا في متجر جوديث لشراء بعض الأدوية، رأوا المساعد يسلّمها صندوقًا من العملات الذهبية.
“آه، أهذا هو أصل الدين وفائدته لهذا الشهر؟”
“هذا ما أرسله جلالته…”
“أجل، أصل الدين والفائدة.”
قال سميث إنه سيأخذه بما أنه موجود، ثم استولى على الصندوق.
بعد مرور نصف ساعة، أُخذ الصندوق من حضن جوديث.
كان من الطبيعي أن تسير الأمور على هذا النحو.
لكنها شعرت بفراغ هائل؛ فقد انتُزع منها ما حصلت عليه فورًا.
وعلى الرغم من أنها تلقّت المال، إلا أن الأمر لم يشعرها بشيء وكأنها لم تستلمه أصلاً.
“الفائدة مرتفعة إلى درجة أنكِ كمن يسكب الماء في حفرة بلا قاع.”
“تسكب الماء في حفرة بلا قاع؟”
كانت هذه أول مرة تسمع فيها هذا التعبير، لكنه كان مناسبًا جدًا.
“إذا أردتِ جمع المال حقًا، فلا مفر من الإمساك بالمجموعة الأساسية من الأتباع.”
وهكذا، حثّت جوديث إيرن ليُخبرها سريعًا بما علمه من الوسيط ذي الريش الأرجواني.
“الفتى الذي استدعى الثعابين هو قائدهم.”
“لقد سمعت هذا من مساعدي.”
“جاء وأخذ يهذي بكلام فارغ. على أية حال، انظري إلى كمّ المال الذي يصرفه هذا الصغير.”
“هل يعيش ببذخ؟”
طفل صغير يعيش في رفاهية؟ وهو هارب من المطاردة؟
بالنسبة لجوديث، التي تمثل الترشيد والاقتصاد، كان هذا أمرًا غير مفهوم تمامًا.
“يُقال إنه يمتلك طبعًا قاسيًا… لا، لقد أصبح كذلك مؤخرًا.”
كان من المعروف أن المرشحين للكهنوت يتلقون تعليمهم على يد الشيوخ الثمانية. والوسيط ذو الريش الأرجواني كان من بينهم، ويُقال إن الفتى كان في السابق عطوفًا ومهذبًا، يحب قومه بإخلاص.
لكن بعد أن أصبح كاهنًا، تغيّر كليًا.
“لقد تذوّق طعم السلطة.”
“على ما يبدو، بدأ يعتقد أنه شخص مهم حين بدأ الكبار يتطلعون إليه باعتباره كاهنًا صغير السن.”
فالسلطة، في النهاية، هي أكثر ما يمكن أن يُغيّر الإنسان.
“ويُقال إنه هو من أجرى التجربة عليّ.”
ولهذا، أراد الوسيط رؤية إيرن.
بدقة أكثر، أراد رؤية إيرن الذي تحطّم في مكانٍ ما…
لأنه كان يأمل في أن لا تكون قدرات ذلك الكاهن كبيرة بما يكفي لإنجاح التجربة.
لم يكن بمقدوره كشف الهدف النهائي من التجربة بسبب الحظر المفروض عليه، لكنه أكد أنها كانت تجربة بإشراف مباشر من الكاهن نفسه.
“لكن ذلك الوغد الصغير لم يعد يهتم بي الآن.”
“ولمَ ذلك؟”
“ليوفّر المال من أجل حياة الترف.”
ربما بدا كلامه مزاحًا، لكنه قاله بنبرة مملوءة بالمرارة.
“تسك تسد، الطفل بدأ يدمن الرفاهية.
ألم أقل إن التعليم المالي أمر بالغ الأهمية؟”
“إن كان تعليمك المالي يشوبه خلل، فتعليمك العام ليس أفضل حالًا.
الأطفال هذه الأيام يتنافسون حتى في توفير مصروفهم.”
كايا، التي كانت ذات طابع رومانسي، أصبحت مهووسة بتوفير مصروفها. رغم أنه من الأفضل الاعتدال، إلا أنها شديدة الحماس.
“على الأقل، أولادنا لن يعيشوا في فقر.”
قالت جوديث برضا.
أما إيرن، فهز رأسه ساخرًا.
“لكن، هل صحيح أن الكاهن يستدعي الثعابين؟”
تذكّرت جوديث فجأة شهادة المحتالين وسألت.
“لا يستطيع السيطرة عليها تمامًا، لكنه قادر على تدريبها.”
قال الوسيط: “تلك المرة، حين ماتت عصابة المحتالين بسبب لدغات الثعابين؟ على الأرجح، جعل الكاهن الثعابين تتعرف على رائحتهم كمصدر غذاء.
حينها، كانت الثعابين ستتبعهم حتى من بعيد.”
وبعدما أنهى إيرن شرحه، سألت جوديث بوجه متحير:
“هل يعني هذا أن الكاهن موجود الآن في العاصمة؟”
“قال إنه لا يعرف مكانه مؤخرًا.
غريب أن يعرف عنه شيئًا رغم أنه ظل يهرب ويُلقى القبض عليه مرارًا.”
ثم أخرج إيرن ورقة من جيب سترته.
“ما هذه؟”
“طريقة لكسر الحظر الذهبي.”
الأصل المكتوب بخط يد الوسيط كان في حوزة جيلارد.
طلب إيرن منه نسخ صفحة منه.
“كنت سأعطي هذه الصفحة للشيخ، ولكن…”
تنهد إيرن.
يبدو أن الشيخ أصبح مزاجيًا مع التقدم في السن، وأصرّ على عدم إعطائها له رغم أنه وعد بنسخها فقط.
“دعني أراها.”
“اطلب بلطف، أيها الوقح.”
“ولماذا أفعل ذلك، وأنتم أصلاً تأخذون الأشياء بالقوة؟”
“سأذهب وأُخبر زوجتك.”
“هل تعتقد أنني من ذلك النوع الذي يرتجف عندما تُذكر زوجتي؟ مضحك جدًا.”
هدّد جيلارد بالكشف عن تصرفات إيرن أمام جوديث، وكأن اسمها تعويذة سحرية.
ويا لسخرية القدر، كان تهديده مجديًا بالفعل.
“دعني أراها ولو مرة، أيها القائد.”
“يا لك من تابع مخلص لزوجتك… هذا أفضل لك.”
تمتم إيرن بأسنانه، وجيلارد لم يُخفِ ملامح الرضا على وجهه، فقد حصل على معلومة ثمينة.
“لكن، لماذا يكرهك القائد إلى هذا الحد؟”
“أعتقد لأنه يشعر بالغيرة من تميّزي.”
“…ماذا؟”
“في أول يوم لي في الفرقة الأولى، طلب مني أن أبارز نائب القائد.”
قاتل إيرن بكل ما لديه… وانتصر بسهولة.
“وماذا بعد؟”
“قال لي بعدها: ’التالي‘.”
ومن سيكون التالي بعد نائب القائد؟ بالطبع القائد نفسه.
رغم أن المبارزات كانت تحدث أحيانًا بين الفرسان دون ترتيب، كان من المتعارف عليه أن يطلب الأصغر رتبة تعليمًا باحترام.
أما إيرن، فلم يقل سوى كلمة واحدة: “التالي”.
كم من الشرر لابد أنه اشتعل في عيني القائد المخضرم حينها؟ فهمت جوديث مشاعر جيلارد، لكنها تظاهرت بعدم الفهم أمام إيرن.
“حدث هذا قبل سنوات… ومع ذلك لا زال يضمر لي الضغينة.”
مرّر إيرن يده بشراسة في شعره من شدة التوتر.
“على أية حال، الوسيط الأرجواني يفكر.”
“كيف ذلك؟”
“أبرمت صفقة معه بشرط أن يُعلّمني طريقة كسر الحظر، وها هو قد أوفى بوعده.”
بدت الطريقة معقدة للغاية.
“لا يمكن تنفيذها إلا بواسطة وسيط متمرس له باع طويل في التدريب الروحي.”
فمن دون قوة روحية هائلة ومعرفة عميقة، من المستحيل كسر الحظر الذي وضعه الوسيط.
كان الوسيط يريد قتل الكاهن، لكنه لم يكن مستعدًا للتعاون التام مع الإمبراطورية، التي يعتبرها عدوًا له.
ولهذا، وضع هذا الشرط، لأنه يعلم أن حتى لو أفشى الطريقة، فلن يستطيع أحد منهم الاستفادة منها فعليًا.
“لكن بالنسبة لنا…”
“لدينا العرّابة.”
صحيح، الإمبراطورة الحالية تنتمي لعشيرة شارتين، لكنها ليست وسيطة.
تملك قوى نفسية، لكنها تفتقر للعلم والدراسة.
أما إيرن، فلديه العرّابة، وهي أعلم من أي أحد بسحر شارتين.
فبعض الأشخاص لا يملكون العلم الكافي لكنهم يتمتعون بقوة روحية وفيرة، كما أن إلور درست السحر لسنوات طويلة.
والأهم، أن هؤلاء لا علاقة لهم بجماعة الأتباع.
قد تسعى العائلة الملكية الآن لاستقطاب وسطاء أقوياء، لكن من المستبعد أن تجد من هو أكثر ثقة من العرّابة.
“لكن، ألن نضطر إلى التعاون مع العائلة الملكية في النهاية؟”
“كلما عرفنا أكثر، كان أفضل. حتى إن عملنا معهم في التحقيق.”
كان إيرن واثقًا أنه إن تم القبض على أحد الأتباع الذين وُضع عليهم الحظر، فإنهم سيكونون أول من ينتزع منه المعلومات المهمة.
—
كان المنزل مكوّنًا من طابقين، لا يمكن اعتباره قصرًا، لكنه ليس صغيرًا أيضًا.
واجهته المغطاة باللبلاب بدت باهتة وقديمة بعض الشيء.
أما من الداخل، فالوضع كان أفضل. الردهة لم تكن فاخرة، لكنها نظيفة بشكل مثالي.
لكن غرفة الطعام الرحبة التي يليها الردهة، كانت تذكّر ببيت تاجر ثري.
“الكأس فارغ، تيا.”
في منتصف الطاولة الرخامية، هزّ فتى لم يبلغ سن الرشد كأس النبيذ في يده.
بنيته صغيرة، بشرته بلون النحاس، وعيناه الصفراء الزاهية تتوهج بشكل غير طبيعي.
عينا أفعى، فك حاد، ملامح شابة، وتصرفات شخص راشد…
كان أشبه برجل بالغ في هيئة فتى.
“…”
وحين تلألأت عيناه الضيقة ببريق حاد يشبه سمّ الأفعى، تقدّمت الفتاة المسماة تيا وملأت كأسه.
كانت الفتاة في مثل سنه تقريبًا، أو تكبره بعامين على الأكثر، وقد عضّت شفتها من قسوة الإهانة.
وبالحكم على هيئتها ونظرات الآخرين، لم تكن تيا من النوع الذي يُطلب منه تقديم المشروبات.
“لم أفهم.
إذا كنتِ موجودة، فلم لا تأكلين أو تنتظرين في غرفة الضيوف؟ لماذا تُشعرين الآخرين بالانزعاج؟”
رغم نبرته الساخطة، قطع شريحة الستيك أمامه بهدوء.
“إن لم تكوني تنوين الأكل، فتناولي شرابًا إذًا. تيا، ما بالكِ؟ لماذا لا تصبّين لي الشراب؟”
رمق الفتى الشيوخ الخمسة الجالسين على جانبيه. ارتجفت يد تيا وهي تحمل زجاجة النبيذ، وكرامتها مجروحة.
أحد الشيوخ لم يحتمل المشهد، فأعلن رفضه:
“لا نريد مزيدًا من الشراب.”
“لا أريد أن آكل، ولا أن أشرب، أنا أشعر بالملل. حسنًا، قولوا ما تريدون قوله.”
رمى الفتى السكين والشوكة أمامه بانزعاج.
“علينا أن نمسك بإيرن راينلاند.”
“هل نعيد الكلام من جديد؟ لا، فقط لدي فضول…
هل هناك أحد منكم يستطيع هزيمة إيرن؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ90
“يا جماعة، هل من بينكم من يستطيع القتال مع إيرن والفوز عليه؟”
ارتشف الفتى رشفة من النبيذ.
“لقد مات قبل أن يخوض قتالًا واحدًا، فهل سيُقتل الناس هنا بضربة واحدة فقط؟”
لوح في صوته أثر من القلق.
“لكن إيرن راينلاند هو الأهم في خططنا…”
طرق الطاولة بعنف.
“لقد شرحت لكم مرارًا وتكرارًا أن خططنا تغيرت. سأضمن لكم حياة كريمة وطعامًا جيدًا، فقط استمعوا لي.”
—
“أيها الكاهن، لقد فهمت ما قلت.”
انتهى العشاء المُثقَل بالحديث المزعج للكبار قبل أوانه.
فسد شهية الفتى بسبب ثرثرة كبار السن.
دخل الفتى إلى المكتب، وعبر عن غضبه برمي فنجان الشاي الهش.
“الكبار لم يستمعوا لي، فاستبدلتهم بشباب، لكنهم مثل بعضهم البعض.
هل أستبدلهم بأصغر سنًا؟”
تعمقت هموم الفتى وزادت حيرته.
“أخبرني.”
الرجل، الذي كان يراقب الفتى وهو يكسر فنجانين ثمينين واحدًا تلو الآخر بجدية، خفض رأسه بسرعة.
“صانعة ومستثمرة مستحضرات التجميل ودواء المفاصل هي جوديث هارينغتون.”
“جوديث هارينغتون؟ من أين سمعت هذا الاسم؟”
“هي زوجة إيرن راينلاند.”
“آه.”
غمض الفتى عينيه ضاغطًا عليهما، ثم فتحهما واستلقى على الكرسي الناعم.
“لا يمكن أن يكونوا قد سربوا الوصفة لغيرهم أو للفارس، ومن المستبعد أن يطوروا العلاج بأنفسهم.”
طرق الطاولة بعصبية.
“إذا نظرنا إلى توقيت إطلاق العلاج الذي تزامن مع توقيت القبض على الرجال، فيبدو أنهم كانوا يصنعون العلاج مسبقًا.
هذا رخيص نوعًا ما.”
“أعتقد أنني طُعنت في الظهر.”
“كان ذيلها طويلًا، لذا كنت أعلم أنه سيُداس يومًا ما،” تمتم الفتى.
“لكن كيف وصل الأمر إلى أن إيرن راينلاند داس على ذيلك؟”
كان هذا نقطة مثيرة للاهتمام.
ارتسم على شفتي الفتى، الذي كان غاضبًا قبل لحظات، ابتسامة من الفضول.
“يبدو أنه قدرنا، فنحن نُتشابك دائمًا.”
“كما قال الشيوخ إذًا.”
“لا، لا.”
لوّح الفتى بيده.
“أهم شيء بالنسبة لنا هو أن نأكل جيدًا ونعيش بكرامة.
ليس متأخرًا أن نبدأ العمل بعد ذلك.”
مع أن التلميح كان أنه سينقض على إيرن يومًا ما، إلا أن الجميع حوله كانوا يعلمون أنه لا يهتم به.
“حسنًا، لا يمكنني أن أبقى مكتوف الأيدي بينما نحن عالقون في هذه العلاقة السيئة.
يا للعار، ما زال لديهم بعض العصير الطازج.”
كان هناك أيضًا مدينة كبيرة في الشمال.
لو لم يُقبض عليهم، كان بإمكانهم جني أرباح ضخمة هناك.
ظل الفتى يفتح ويغلق قبضته كأن النقود الذهبية التي يحملها تفلت من بين أصابعه.
“آه، كم بذلت من جهد في صنع تلك الكريمات الغذائية ودواء التهاب المفاصل.
ألا تعلم أنه حينما تذرف دموعًا في عيون الآخرين، تذرف عيناي دماءً؟”
“نعم؟”
“إذا قطعت مال غيرك، فسيُقطع مالك أيضًا.
سأخبر إيرن راينلاند بذلك الآن.
اشترِ واحدًا من تلك الأشياء وأحضره لي.”
“عن ماذا تتحدث؟”
“عن شمعة العطر التي تصنعها وتبيعها السيدة راينلاند.”
—
توقف البحث عن المجموعة الرئيسية من الأتباع مؤقتًا، إذ تعرقلت خطط كاين بسبب وفاة المنتحل.
لكن الأمر لم يكن بلا دخل.
“هناك شيء مشترك في أقوال الوسطاء في روام والريش الأرجواني، وهو المال.
يبدو أن الفتى الكاهن مغرور بالمال.”
سيظل الفتى يتحرك من أجل المال، لكن ليس بطريقة شرعية تحت الشمس.
تخمين كاين كان أنه لو تمكن من تتبع المعاملات المالية السرية في الخفاء، فسيمسك بذيل الفتى.
“علينا خلق بيئة تسمح للناس بالتصرف بحرية وأمان.”
لذا، توقف إيرن، الفرسان الأوائل، وقوات الأمن عن ملاحقة الأتباع.
بدلاً من ذلك، بدأ كاين في تجنيد بعض التجار الموثوقين في الأحياء الخلفية كمخبرين.
ظل جيلارد يحقق في الوسيط ذو الريش الأرجواني، وإيرن،
“لا تزعجني واذهب للعب.
هذا كله لتخفيف عبئك.”
كانت الإسطبلات تخضع للصيانة.
لم يكن الأمر هينًا لوقف ملاحقة الأتباع مؤقتًا.
كان هناك الكثير لإصلاحه في القصر.
اختار إيرن ما هو أكثر إلحاحًا، الإسطبلات.
كان من الصعب على حصان واحد حمل الإمدادات اللامتناهية من البخور والعلاجات.
بدأ الحصان يتجنب العربة بعد مرة واحدة فقط.
كان الحصان الذكي يسحب العربة مرة واحدة يوميًا، ومن المرة الثانية يتجنب الحصان العربة.
مهما كانت سرعة إيرن،
كيف يمكن لإنسان أن يغلب حصانًا؟
في النهاية، قرر إيرن، الذي كان يسحب العربة مع هنري، شراء حيوان جر سواء كان حصانًا أو ثورًا لسحبها.
“عن ماذا تتحدث؟ ألا تسمعني؟”
لوّح إيرن بيده نحو غولد، الذي لم يأت عندما نُودي عليه أثناء سحب العربة، لكنه جاء الآن واحتك بجانبه بعد إصلاح الإسطبل.
“اشترِ حصانًا أبيض.”
“لا، حصان أسود، حصان أسود.”
“ذلك يبدو جميلًا، لكني أفضّل حمارًا لأن عليّ سحب عربة.”
لوّح إيرن نحو ثلاثة أطفال جالسين يشاهدونه.
“اذهبوا أنتم أيضًا إلى هناك.”
لماذا لا يساعد أحد في إصلاح الإسطبل، والجميع جالسون يراقبون ويثرثرون؟
“كم كان عمرك عندما بدأت الركوب، سيدي إيرن؟”
“…حسنًا، عشر سنوات؟”
لم يخاف الأطفال من عبوس إيرن، بل بدأوا يطرحون عليه الأسئلة.
“أنا أيضًا عمري عشر سنوات.
هل يمكنني ركوب الحصان أيضًا؟”
“آسف، لكني كنت أطول منك رأسًا حينها.”
“تششه.”
عبّس ميلو.
“إذا أصبح طولي رأسًا أطول منك، هل تعلمني ركوب الحصان؟”
فاديم كان فتى لا يضيع فرصة.
تنهد إيرن عميقًا وهو يطرق، بالطبع كان سيرفض. لديه الكثير ليفعله، وليس الوقت لتعليم الأطفال ركوب الخيل.
لكن عندما التفت ورأى عيونهم المتلألئة المليئة بالتوقعات، لم يستطع الرفض.
“…حسنًا، انظروا.”
كانت وعدًا غامضًا، لكن الأطفال أحبوه جميعًا.
تذكر إيرن فجأة أول مرة ركب فيها حصانًا.
عاد إليه الشعور بالفرح عندما وقف على ظهر الحصان.
كانت طفولة مظلمة، لكنه كان لديه مثل تلك اللحظات.
لحظات تمنى فيها لو رأت أمه إنجازاته.
أوقات فخر فيها بنفسه دون أن يقول شيئًا.
لم تكن كثيرة، لكنها كانت موجودة.
لابد أن تكون هناك المزيد لهؤلاء الأطفال.
رأى إيرن جوديث تنظر أحيانًا إلى الأطفال بنظرة وحيدة.
هل شعرت بشيء مشابه؟
نظر إيرن بلا وعي نحو القصر.
بالطبع لم تكن جوديث ظاهرة داخله، لكنه كان يعرف ما تفعل حتى دون النظر.
مستعدة للمضي قدمًا.
هذا ما تفعله جوديث دائمًا.
—
“سيد بييتشي، العلاج قد نفد.”
“لا تقل ذلك، الأرجل الضعيفة جيدة.
فقط لم نعد بحاجة إليها.”
“إذاً الدواء قد فقد فعاليته.”
جوديث وبييتشي جربا المال كعلاج.
لكن مع اقتراب مستحضرات التجميل ودواء التهاب المفاصل من العلاج الكامل، تراجعت مبيعاته بشدة.
من المحتمل ألا يُباع كثيرًا مستقبلًا.
“عندما نظرت إلى وجه السير هنري، لاحظت أن الندبة ما زالت ظاهرة قليلًا.”
كان من المفترض أن يكون علاجًا، لكنه دواء قوي يجب أخذه أو وضعه.
الاستمرار في تناول دواء قوي لإزالة الندبة المتبقية قد يصبح سامًا.
“وغالبًا ما يشعر بالسخونة في وجهه.
ألا يعاني الآخرون من أعراض مماثلة؟”
“ذلك سيحدث.”
“ماذا لو جعلنا المرهم أخف؟ حتى يمكن وضعه يوميًا بدون مشاكل.”
كانت قد اشترت الكثير من فاكهة التنين والصبار لصنع العلاج.
لم تكن جوديث تنوي تركه في المخزون.
“اسمه كريم الترطيب والتهدئة.”
“…بما أنك سمّيته، أعتقد أنني سأصنعه.”
لم يكن أمامها خيار.
“سيد بييتشي، كان يجب أن تكسب أكثر وأنت شاب.”
“الشيخوخة مريحة!”
تحت هتاف جوديث، بدأ بييتشي يرد كأنه مبرمج عقليًا.
“في الواقع، لدي نسخة أخف من دواء التهاب المفاصل.
قال زبائني إنها فعالة في الماضي.”
خلال تطوير علاج يحتوي على التنين والصبار هذه المرة، طور بييتشي دواء جديدًا للمفاصل.
“كما هو متوقع، سيد بييتشي يعرف كيف يصنع المال.”
مع أن ذلك لم يكن هدفه، عرض بييتيشي الدواء الذي صنعه على جوديث.
كان مرهمًا كثيفًا لكنه يمتص بسرعة وليس لزجًا عند وضعه.
شمّت جوديث.
كان هناك رائحة عشبية خفيفة.
“لنخلط بعض النعناع هنا.”
“نعناع؟”
“نعم، أعتقد أنه سيكون أفضل لو كانت رائحته أكثر دوائية.”
لا تعرف إن كان بإمكانهم تسميته “باس”، هزّت جوديث كتفيها.
“هل نبيع البخور معًا في مجموعة؟”
“ماذا؟”
“يعلنون أنه إذا أشعلت شمعة ذات رائحة صحية أثناء استخدام كريم الترطيب، فإن التأثير يتضاعف.”
“هذا كذب…”
أغلق بييتيشي فمه عند نظرة جوديث التي أرسلت ضغطًا صامتًا كأنها تقول:
“لماذا يفعل من يعرف هذا شيئًا كهذا؟”
سعلت جوديث بصوت عالٍ.
في حياة سابقة، كانت ستُعاقب إداريًا على الدعاية المبالغ فيها، لكن هنا…
على أي حال، في اللحظة التي كانت جوديث تدفع فيها منتجها الجديد إلىⵌ81 “أشعر بشعور غريب… هل كان عليّ أن جلبها معي؟” حاول إيرن تهدئة القلق الذي يعصف في ذهنه، واندفع خلف الرجال المتوجهين إلى نقطة الاتصال. لم تكن جوديث فتاة صغيرة، بل امرأة ناضجة يُفترض بها أن تكون قادرة على البقاء ساكنة في هدوء. “أين نقطة الاتصال؟” “جميعهم وصلوا.” بعد نحو عشر دقائق من المتابعة، توقف الرجلان عند مفترق طرق يصل الغابة بقرية صغيرة. “تلك الشجرة.” أشار سائق العربة إلى شجرة ميتة عند المفترق، كان جذعها مائلًا. تقدموا نحوها وبدأوا الحفر فجأة. “هذا يكفي، كفى.” قال الرجل الضخم وهو يُسقِط مجرفته، ثم أخرج كيسًا من المال، فتحه وأخرج قطعتين نقديتين. “أخي، إن استمررت في هذا الطريق، وابتسم لك الحظ السيئ وعلم الأخ الأكبر، فستكون نهايتك مأساوية.” “ولم يحدث أن كُشِفنا من قبل.” ابتسم الرجل الضخم ابتسامة باهتة ورمى بقطعة نقدية نحو السائق. “لا يجب أن أفعل هذا…” تمتم الأخير، لكنه التقط العملة ووضعها في جيبه. ثم وضعوا كيس المال في الحفرة وردموها بالتراب. بعدها، كسروا غصنًا ضخمًا إلى نصفين وغرسوه بشكل مائل بجوار الموضع الذي دُفن فيه المال. بدا أنهم لا يحتاجون أكثر من مجرفة لإتمام صفقة تبادل المال… لكنني سمعت بهذه الطريقة من قبل. كان إيرن يسترجع ما في ذاكرته بينما بدأ الرجال يدندنون بنغمة خفيفة، وقد بدا أنهم أنهوا مهمتهم. “هيا بنا نتناول شرابًا، بمقابل هذه الخدمة.” “نعم، لنذهب.” اتجه الرجلان نحو القرية، بينما بقي إيرن في مكانه برهة. وبما أنهم ذكروا أن اليوم هو موعد تسلّم المال، فلا بد أن أحدًا سيأتي لجمعه لاحقًا. — في تلك اللحظة التي انطلق فيها إيرن خلف من دفنوا المال… كانت جوديث جاثية في عمق الغابة، تحبس أنفاسها. من بعيد، رأت وهج النار التي أشعلها الرجال. إن اقتربت قليلًا من هنا، فلن ينتبه أحد لوجودي. كانوا غير متيقظين تمامًا. وبالنسبة لأشخاص فارّين بعد تنفيذ عملية احتيال، فقد بدا سلوكهم مريبًا في هدوئه. في الحقيقة، كانوا قد نفذوا نفس الاحتيال في الجنوب، وأعادوه في العاصمة خلال فرارهم… وبما أنهم لم يُقبض عليهم حينها، فقد بدت عليهم الثقة بأنهم لن يُكشفوا هذه المرة أيضًا. “أيها الوغد الصغير! قلت لك أن تشتري مستخلص بريسيلا، ولم تفعل!” شقّ صوت غاضب سكون الغابة. تحركت جوديث بحذر لتقترب أكثر، محاولة فهم ما يجري. تحت ضوء النار، بدا الرجل كظل، وكان يرتدي مئزرًا وخرج من الخيمة غاضبًا. “قلت لك مرارًا إن المنتج سيتعفن من دونه! إنه أهم مكون في الخلطة.” كان يصرخ بانزعاج شديد، يكاد يصل إلى حد الشتائم. “اهدأ… يمكنك الذهاب لشرائه الآن. لا داعي للصراخ، هيا نذهب سويًا.” حاول الرجل الطويل تهدئته. “لنشترِ مستخلص بريسيلا، ونأخذ قسطًا من الراحة مع مشروب لطيف. لا يزال هناك وقت قبل تنفيذ المهمة التالية، فلا داعي للعجلة.” وبعد أن اقتنع، عاد الرجل الذي كان يرتدي المئزر إلى الخيمة، ثم خرج من جديد وقد نزعه. سار الاثنان معًا وغابا عن الأنظار. وعندما تأكدت جوديث من ابتعادهما التام، اقتربت من الخيمة. كانوا أربعة. اثنان دفنوا المال وذهبوا للشرب، والآخران خرجا لشراء نوع من الإكسير. أي أن الخيمة الآن خالية تمامًا، ولن يعود أحد لفترة. كنت قد سمعت عن وجود وصفة الدواء في الداخل، أليس كذلك؟ إذا حصلت عليها، فستتمكن من صنع الترياق. وبما أنهم غادروا بعجلة، فمن المرجح أن الورقة لا تزال هناك. قال إيرن ألا أقدم على تصرف متهور… تنهدت جوديث بعمق. لكن الحصول على الوصفة كان ضرورة ملحّة، والخيمة خالية دون حراسة. كانت فرصة لا تُفوّت. خرجت جوديث من بين الأشجار، متأكدة من أن لا أحد يراها. وعندما لم تسمع صوتًا، اندست داخل الخيمة بسرعة. “آه…” غطّت فمها فورًا، إذ هاجمها رائحة نتنة خانقة. “رائحة جثة متحللة…” لسوء الحظ – أو ربما لحسن الحظ – كانت الرائحة مألوفة لها. فقد كانت السبب في عجزها سابقًا عن افتتاح متجرها. رائحة لم تعتد عليها قط. كادت تتقيأ، لكنها صفعت خدها لتستعيد تركيزها. “ليس وقت التقيؤ… ابحثي عن الوصفة أولًا.” غطّت أنفها وتجولت بنظرها داخل الخيمة. في المنتصف، قدور ضخمة تغلي على موقد بدائي من الطوب. “لن تكون هنا…” نظرت إلى الجهة الأخرى، حيث طاولة خشبية طويلة، وأمامها رف ومكتب يعمّه الفوضى. “أظن أن هذه هي الجثة التي جلبوها مؤخرًا.” كان شيء ما مغطى بقطعة قماش سميكة على الطاولة الخشبية. “…لكن لماذا تنزف الجثة؟” قطر… قطر… سائل أحمر داكن تساقط من حافة الطاولة. وكانت الأرضية تحته رطبة، كما لو أنها امتصت ذلك السائل. قطرى… قطرة… قطرة… بلعت جوديث ريقها بصعوبة. “ربما أخطأ أثناء نقلها…” تتبعت عيناها مسار القطرات حتى توقفت عند شيء على الأرض… كومة من الحطام القديم الملطخ، لكنها منتفخة من الداخل. مصدر الرائحة كان هناك. “لن تكون هناك.” أدارت وجهها على الفور. لا شك أن الوصفة ستكون على الرف أو المكتب المزدحم بجانبه. اقتربت منه. صوت القطرات خلفها بدأ يرسل قشعريرة في عنقها. مسحت رقبتها بتوتر. “ركّزي… فكّري في السير هنري، المسكين هنري…” بدأت تبحث بدقة بين أكوام الورق والقمامة على المكتب، لكن لا أثر للوصفة. عندها رأت مئزرًا معلقًا بإهمال على ظهر الكرسي. بدا أنه المئزر الذي كان يرتديه الرجل قبل قليل. اقتربت منه وبدأت تبحث في الجيوب. من المنطقي أن يحتفظ بوصفة التجميل معه، ليراجعها أثناء التصنيع. وكان حدسها صحيحًا. وجدت الورقة داخل الجيب. “رائع.” فتحتها على المكتب بحذر، وأخرجت الورق والفحم اللذين كانت قد أعدّتهما مسبقًا، وبدأت تنسخ المكونات. سرقة الوصفة قد تثير الشبهات، لذا اكتفت بنقل أسماء المكونات المهمة فقط. “ليتران من مستخلص بريسيلا، عشر حزم من البقلة الجافة، زجاجتان من زيت غوليس…” كانت هذه مكونات تُستخدم فعلاً في مستحضرات التجميل. فالبقلة تُهدئ البشرة، وزيت غوليس يرطّبها. كانت جوديث قد درست هذه المواد أثناء بحثها عن بدائل لصناعة البخور. “هل أُخفّف ليترًا من نيكار وأضيفه؟ أليس هذا مزيلًا للدم؟ يا للرعب! كيف يُوضع منظف قوي كهذا على الوجه؟” وكان هناك مكون أغرب… منظف دموي ضمن وصفة تجميل! نقرت جوديث لسانها استنكارًا. “وأخيرًا… رطلان من الدهن؟” هل يقصدون شحم الخنازير؟ أمالت رأسها وهي تكتب باقي المكونات، ثم قرأت التعليمات: “بعد إزالة الدهن، يُوضع على قماش قطني، يُصفّى منه الدم، ويُترك ليجمد. ثم يُغسل الشحم المجمد بمحلول مخفف من نيكار. كلما كان الشحم طازجًا، كانت الجودة أفضل. لا تستخدم شحمًا من جثة تجاوز موتها ثلاثة أيام، لأن الرائحة تصبح فظيعة…” قطرة… قطرة… تساقط الدم من الجثة، والعرق البارد بدأ يبلل جبين جوديث. “أيها المجانين…” هل كانوا يصنعون مستحضرات تجميل من دهون الجثث؟ شعرت بمعدتها تنقلب وكأن الخبز الذي تناولته قبل قليل على وشك العودة. غطّت فمها بيدها بسرعة. أعادت الورقة إلى جيب المئزر بأيدٍ مرتجفة، وصوت الدم المتساقط ينهش أعصابها. لماذا لا يزال الدم يقطر من الجثة…؟ لا، لا يجب أن أتصوّر شيئًا الآن. لا يجب أن أفكر في الأمر. عضّت على شفتيها محاولة الخروج من الخيمة. حينها سمعت صوت الرجلين العائدين من الشرب. وكانا قريبين جدًا. “…لأن…” “…لا حاجة لذلك…” كانا يقتربان. تراجعت جوديث خطوة إلى الخلف. لقد وقعت في ورطة كبيرة… لم يكن في الخيمة أي مكان للاختباء، ولا مخرج خلفي. حاولت رفع طرف الخيمة، لكنها كانت مُثبتة بإحكام بالأرض. وفي تلك اللحظة… رأت قطعة قماش ممزقة تتراقص في الهواء أمام عينيها. “…لماذا من بين كل الأماكن… يكون الحل هناك؟” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ82 “لا، من يخرج للشرب دون أن يحمل نقودًا؟” “آسف، آسف، ظننت أنك وضعتها في جيبك. وعلى هذا، لماذا لا تأخذ تصميم السكين الجديد وتطلب منهم صنعه؟” “هذا ما عنيته تمامًا.” تحركت جوديث ببطء، سحبت إحدى ذراعيها بينما كانت تنصت لصوت التوتر في الأجواء، تزحف تحت الطاولة التي تمددت تحتها الجثة، متفاديةً الرجلين الواقفين. لم يكن في الخيمة أي مكان حقيقي للاختباء، لكنها أيقنت أن الرجلين يعرفان ما يبحثان عنه، لذا توجها مباشرة نحو الرف دون أن يلتفتا إلى ما حولهما داخل الخيمة. بفضل ذلك، استطاعت جوديث الاختباء في بقعة ظل لم تصلها إنارة المصباح. لماذا أتيت وحدي؟ كان عليّ أن أستمع لما قاله إيرن. رغم شعورها العميق بالندم، إلا أن الوقت قد فات للتراجع. حبست جوديث أنفاسها. وكلما لامست الأرض الرطبة بكفها، اجتاحتها قشعريرة باردة، لكنها لم تستطع فعل شيء حيال ذلك. طرطشة… طرطشة… مع تساقط قطرات الدم، زحفت جوديث نحو الشق عند طرف الخيمة. كان ثقبًا ضيقًا لا يمكن النفاذ منه إلا زحفًا، لكنه كان الأمل الوحيد للهرب. ثم فجأة… “انتظر، ألا تسمع شيئًا؟” “عما تتحدث؟” هل تم اكتشاف أمري؟ عضّت جوديث شفتها بتوتر. “أظن أن الصوت قادم من جهة الجثة.” اتجه الرجلان نحو القدر المتفجر في منتصف الخيمة، واقتربا من موقعها. كان الشق الممزق أمام أنفها مباشرة، لكنها لم تتمكن من الخروج. وفيما بدأ العرق البارد يتصبب من مؤخرة عنقها، ظهر أمام عينيها جسد ضخم. كوخ قديم ملوث. بدا كبيرًا بما يكفي ليخفي شخصين بسهولة. أنا أكره هذا المكان… عضّت جوديث على أسنانها ودخلت في كيس قريب. وما إن غطاها الكيس حتى توقفت الخطى بجانبها. “لا شيء هنا.” “ربما فأرة.” تراجعت الخطوات شيئًا فشيئًا. فتحت جوديث عينيها، اللتين أغمضتهما دون وعي. “….!” ارتجف قلبها بعنف حتى شعرت بأنه يكاد يثب من بين ضلوعها. بالكاد كانت قادرة على التنفس، لكنها واصلت الزحف ببطء خارج الخيمة. أسرعي، اخرجي بسرعة. شعرت وكأن دماءها قد غادرت جسدها بالكامل. زحفت على بطنها باتجاه الشق، وعندما تمكنت من إخراج الجزء العلوي من جسدها بصعوبة… ما هذا؟ توقّف حذاء جلدي أمام وجهها مباشرة. تجمدت في مكانها. كانت ترجو ألا يلاحظها صاحب الحذاء، لكن الرجاء كان خادعًا. تشبثت بحجر قريب منها بخفة. إن لم يكن أمامي خيار، سأضربه وأفرّ. لكن قبل أن تتمكن من التصرف، انحنى الرجل ومد يده نحو خصرها، ثم سحبها بلطف. يد مألوفة. ما إن لمستها حتى أدركت جوديث من يكون صاحبها. تلاشى التوتر من جسدها، وانهارت قواها دفعة واحدة، بما في ذلك اليد التي قبضت بها على الحجر. “…” حدق الرجل في جوديث بصمت. حتى في ظل ضوء القمر الخافت، بدت عيناه الخضراوان المتوهجتان أبرد من أي وقت مضى. “ما الذي سمعته للتو؟” “عن ماذا تتحدث؟” “ذاك الصوت الزاحف… ما هو؟” تناهت أصوات الرجال من داخل الخيمة. نظر إيرن إلى جوديث للحظة، ثم رفعها على كتفه وانطلق راكضًا. شعرت جوديث بعدم الارتياح، لكنها كتمت ذلك في داخلها. فهي تعرف تمامًا أن إيرن لن يغفر لها إن تقيأت عليه الآن. سقط الحجر من يدها، واختفى شعرها الأسود المبعثر وسط الظلام. “ما هذا؟” “ظننت أنني سمعت صوتًا غريبًا.” وعندما خرج الرجال من الخيمة، لم يجدوا أحدًا هناك. — … الآن، أصبحت جوديث في موضع الاتهام. هل عليها أن تركع؟ أمام صمت إيرن الجليدي، تنحنحت بلا جدوى، محاولة جذب انتباهه. “هاي، عزيزي.” “لا فائدة.” ذلك الإيرن الذي كان يخجل حتى من سماع كلمة “عزيزي” لم يعد موجودًا. لقد كان غاضبًا بحق. “قلتِ إنك ستنتظريني بهدوء.” “…” “وقلتِ إنك لستِ طفلة، وإنك لن تفعلي أي شيء طائش.” لم يكن لديها ما تقوله، حتى لو امتلكت عشرة أفواه. لو أنها حصلت على الوصفة، لكان بإمكانها تبرير فعلتها، لكنها فشلت، فاختارت الصمت برأسٍ منكس. “ما الذي كان سيحدث لو لم أعد في الوقت المناسب، آنسة جوديث هارينغتون؟” آه… لقد ناداها باسمها الكامل. صوته الخفيض بدا أكثر قسوة من أي وقت مضى. “كنتُ مخطئة.” في مواقف كهذه، لا بد من التذلل. شبكت جوديث يديها وكأنها تصلي، وخفضت طرفي عينيها، لكن ملامح إيرن القاسية لم تلِن. كان قد انتظر الرجل في موقع اللقاء ليتسلم المال، لكنه لم يتحمل الانتظار أكثر من عشر دقائق قبل أن يعود إليها في الغابة، قلقًا عليها. لم يكن يخشى العصابة، بل الغابة نفسها؛ فقد كانت موحشة ومظلمة. ورغم أن جوديث عاشت بمفردها في قصر ملعون، إلا أن هذا مختلف. ماذا لو ظهر ثعلب؟ أو حلقت بومة فجأة؟ خاف أن تنهار جوديث من شدة التوتر. لكنها دخلت دون تردد… كيف تجرأت على الدخول وحدك؟ هل أنتِ خائفة؟ لا… جوديث هارينغتون لا تخاف. وعندما رآها تزحف خارجة من تحت أرضية الخيمة، كاد قلبه يتوقف من الهلع. “إيرن.” رفعت جوديث رأسها إليه بعينين ضبابيتين، تحاول تبرير تصرفها وكأنها تدرك خطأها. ذلك التعبير البائس؟ لم يعد ينطلي عليه. لقد أدرك أن جوديث كلما تورطت، تظاهرت بأنها ضحية ضعيفة. ربما كان ليصفح عنها لو أن الخطأ بسيط، لكن ليس هذه المرة. يجب أن تدرك حجم ما فعلته. “أنا فعلًا آسفة.” لوّحت جوديث بيديها المتسختين بالتراب من الزحف، وكان وجهها وثيابها يغمرهما الوسخ والبؤس. تنهد إيرن وهو يحدّق في ملامحها الشاحبة، وكأنه اكتشف كم بدت صادمة لنفسها. كانت تنهيدة خليط بين راحةٍ لخروجها سالمة، وارتباك من تهورها غير المبرر. “لقد ندمت وأنا أزحف لأخرج من هناك. أعترف بأن ما فعلته كان متهورًا. آسفة لأنني سببت لك القلق، وسأكافئك بشراء مشروب فاخر.” وحين لم تُفلح نظرات الرجاء، لجأت إلى أسلوب تأنيب الذات والاعتذار الرسمي. انفجر إيرن ضاحكًا رغمًا عنه. “إيرن، ضحكت! رأيتك تضحك! ألا يعني ذلك أنك هدأت؟” “لا.” “…لكنّك ضحكت.” انكمشت كتفاها وهي تتنهد. أخرج إيرن من جيبه منديلًا. لم يكن معتادًا على حمل المناديل، لكن هنري أعطاه واحدًا، قائلاً إن على الفارس أن يحتفظ دومًا بمنديل ليجفف دموع السيدة. طالما أن لديه واحدًا، فليستخدمه. حتى إن لم يكن لمسح الدموع، فهو جيد لتنظيف وجهٍ متسخ. مع أنه لم يفهم كيف يُستخدم هذا الشيء الجميل في مسح الأوساخ، إلا أنه قام بذلك. ورغم غضبه، بادر إلى مسح التراب عن خدها بلطف. “تقولين إنك لستِ طفلة، ثم تتصرفين وكأنك تخوضين معركة بطولية.” “ومع ذلك، حصلنا على نتيجة.” لاحظت جوديث أن مزاجه تحسن قليلًا. الهواء البارد الذي كان يلفه بدأ يخفت تدريجيًا. “إذا كنتِ مستعدة للمخاطرة بهذا الشكل، فيجب أن تتحملي العواقب.” مسح آخر أثر للتراب عن وجهها، ثم مد يده إلى راحتيها المتسختين. “ولم أمسكتِ بحجر من قبل؟” “لو هاجموني، كنت سأضربهم وأهرب.” “…” ربما كانت نية مقبولة، هل يُفترض به أن يمتدح شجاعتها؟ لم يجد ردًا مناسبًا. “على كل حال، دونتُ المكونات في ورقة.” “أحسنتِ. أخبريني، ما الذي يجعل وجه الإنسان يتغير إلى ذلك الشكل الغريب؟” “أمم…” حين استحضرت ما رأته، شعرت بالغثيان مجددًا، لكنها قاومت وقالت: “دهن الإنسان. دهن الجثث.” — … “هاه؟! تقصدين أن مستحضرات التجميل تلك… صُنعت من جثث؟!” وصلت جوديث وإيرن إلى العاصمة دون توقف، وسلّما فورًا الورقة التي دوّنت فيها الوصفة إلى بييتشي. “دواء التهاب المفاصل مصنوع من غضاريف الجثث؟” أومأت جوديث برأسها. فقد وجدت في خلفية تلك الوصفة التي قرأتها تركيبة أخرى لعلاج التهاب المفاصل. المكونات كانت متشابهة جدًا، باستثناء استبدال الدهون بالغضاريف. “كانوا يشترون الجثث الحديثة من المقابر.” “يا للفظاعة…” ظل بييتشي يحدّق في الورقة مذهولًا. “هل يمكنكِ تحضير ترياق مضاد؟” “سأحاول. وجه هنري يبدو وكأنه تأثر بتسمم ناتج عن تحلل الدهون. أو ربما ماء نيكار المخفف؟ يا ترى، من أين أبدأ إزالة السم؟” وبينما كان يتحدث إلى إيرن، بدأ بييتشي يتمتم بكلمات غير مفهومة، يربت على رأسه مرارًا. لقد أربكته المكونات الصادمة. وجوديث كانت تتفهم ارتباكه تمامًا؛ فهي شعرت بالقشعريرة والاشمئزاز عندما نقلت الوصفة. “بييتشي، ما بالك تتمتم؟” اقترب إيلور، الذي جاء لاستقبال جوديث وإيرن بعد أن علم بالأمر، من بييتشي المرتبك. “أخي، انظر إلى هذا. إنها تركيبة مستحضر التجميل الذي استعمله السير هنري وأصيب بسببه. هل تعلم ما الذي يحتوي عليه؟ حسنًا…” ولم يتمكن إيلور من إغلاق فمه، بعد أن سمع الكلمات التالية من بييتشي: “هذا مثير للاشمئزاز فعلًا… لحظة، ما الذي يحتويه أيضًا؟” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ83 “هذا مقزز حقًا… لحظة، ما الذي يحتويه؟” “لماذا؟ هل تعرف شيئًا ما؟” “أظنني رأيت شيئًا مشابهًا من قبل.” كان لدى إيلور ذاكرة قوية. فما إن سمع أن مستحضرات التجميل تُصنع من جثث بشرية، حتى استعاد قصة قديمة كانت ترويها له والدته الروحية وهو طفل. قصة مروعة كما كان يصفها. “كانت تقول إن أهل الصحراء، قديمًا، لم يكونوا يتخلصون من الجثث، بل كانوا يستخدمونها كدواء.” “آه، أذكر تلك الحكاية أيضًا. جدتي كانت تقول إنها سمعتها من جدّها.” أومأ بييتشي بحماسة، وكأن الذكرى قد ارتسمت في ذهنه بوضوح، بينما واصل إيلور التنقيب في ذاكرة الطفولة: “كان هناك مجنون يعيش في الصحراء، في عصر بعيد، قبل قيام الإمبراطوريات.” ذاك الرجل المجنون كان يعتقد أنه لا ينبغي هدر أي شيء في بيئة شحيحة كالصحراء، حتى الموتى. لذا، بدأ في أخذ الجثث خلسة وتجربة طرق شتى للاستفادة منها. وعندما انكشف أمره، نبذه الناس ونفوه إلى أعماق الصحراء. لكن سجلات أبحاثه ظلت باقية، وتناقلها الناس شفهيًا، إذ شاع أن من يحضّر دواءً حسب وصفه سيحصل على نتائج مذهلة. “يُقال إن دهنه على الجروح يُنبت اللحم مجددًا، وإن وضعه على العظام المكسورة يشفيها تمامًا.” ادعاء عجيب بحق. ومع ذلك، استمرت تلك الوصفات بالتوارث سرًا، حتى انتقل الشارتينيون إلى الإمبراطورية، ثم اختفت بعدها تمامًا. “لكن، أليست هذه مجرد أسطورة؟” “نعم، لكنها تتقاطع مع ما يحدث الآن، أليس كذلك؟ علينا أن نضع كل احتمال بعين الاعتبار.” في مثل هذه الظروف، لا بد من التمسك حتى بأوهى الخيوط. “بييتشي، هل يمكنك إيجاد رابط بين تلك القصة والترياق؟ حاول أن تتذكر كيف تنتهي الرواية.” “نهايتها؟” هز بييتشي رأسه نافيًا، فتابع إيلور: “يُقال إن المجنون كتب في الصفحة الأخيرة من سجلاته قبل نفيه: حين تتعفن الأجساد بروح الموتى، غطها بروح الحياة.” “روح الحياة؟” بدت العبارة محيرة، مما زاد من حيرة بييتشي. “نعم، روح الحياة.” كانت جوديث تستمع بصمت في ركن الغرفة، وبدأت تفكر بدورها. “إذا كانت روح الحياة… فهل يُقصد بها دم شخص حي؟” “…ربما.” ساد الصمت في غرفة بييتشي، ولم يُسمع سوى أنفاس متقطعة تحمل حيرة وقلقًا. “ذلك المجنون عاش في الصحراء… فما الذي يمكن أن يُعد روح الحياة في مكان كهذا؟” تمتم إيلور وكأنه يُحدّث نفسه. “أليس الماء هو روح الحياة في الصحراء، أخي؟” “لكن ليس أي ماء… لا بد أن يكون ماء واحة، لأنها نادرة للغاية هناك.” تدخل إيرن، الذي كان يستمع بهدوء طوال الوقت، ليشارك رأيه: “وربما المقصود ليس الماء فحسب… بل ما يرمز للحياة في الصحراء؟” بدأت جوديث تقبض على يديها وتبسطهما، وكأن فكرة ما تلوح في ذهنها. ما الذي كان يُعد رمزًا للحياة في أعين سكان الصحراء؟ شيء ينمو رغم المناخ القاسي، ولا يفقد خضرته رغم الهواء الجاف والعواصف الرملية… شيء يصمد في أرض عطشى بلا ماء… “…الصبّار!” همست جوديث بذلك، ثم التفتت إلى بييتشي: “أليس هو الصبّار، يا سيد بييتشي؟” — رغم ندرة الصبّار في الإمبراطورية، تمكن بييتشي وجوديث من جمع كل نوع متاح منه. انكبّ بييتشي على دراسته مباشرة، بينما توجهت جوديث وإيرن إلى غرفة هنري. “سيدي هنري.” ذاك الرجل، الذي اعتادوا رؤيته مبتسمًا دائمًا، كان ممدّدًا على السرير، وجهه غائر في الوسادة، لا يتحرك. “هنري.” وقف إيرن إلى جانب السرير، يحدق بالشخص الوحيد الذي اعتبره صديقًا حقيقيًا، غارقًا في يأسه. “وجدنا أولئك الذين خدعوك.” ارتجفت كتفا هنري عند سماعه ذلك. “كما وجدنا وصفة مستحضرات التجميل… والصيدلي يعمل على إعداد الترياق الآن.” التفت هنري قليلًا، وظهر على وجهه تعبير أكثر جدية مما رأوه في آخر لقاء. “الترياق… سيصل قريبًا.” قالها إيرن كنوع من المواساة، رغم أنه لم يكن بارعًا في ذلك، فظلت الكلمات عالقة في حلقه. ومع ذلك، جمع شتات صوته ليتحدث، حتى وإن لم يستطع قول عبارة تشجيعية صريحة. “سيدي هنري… لا يمكنك الاستسلام. السيد بييتشي قال إنك لا تأكل جيدًا.” كان هنري قد كفّ عن الطعام من شدة الإحباط، مكتفيًا بما يقدّمه له بييتشي من أدوية ممزوجة بمكملات غذائية. “لا تفعل ذلك، حالتك الجسدية ضرورية للعلاج. أرجوك، حاول أن تأكل.” لمست جوديث ساعد هنري برقة، فردّ عليها بلمسة ضعيفة بأصابعه المتشققة المغطاة بالصديد والدم. فهمت قصده، فنهضت. لم ينتهِ يومهم بعد. أرسلت رسولًا إلى سميث لإبلاغه بنتائج التحقيق، ثم غادرت مع إيرن لمقابلة الماركيز موسلي. — كان الماركيز موسلي منشغلًا بمهمة طارئة مع القوات الأمنية، بعيدًا عن قصره. “أرجوك يا ماركيز، أرجوك، حفيدتي… ستموت إن بقي الوضع على حاله!” “سأبذل أقصى جهدي، سيدتي.” قالها بلطف لسيدة مسنة كانت تبكي بحرقة، مستندة إلى كاين، تكاد تنهار من شدة الألم. كان كاين يحدق في السماء بعينين خاليتين من الحياة، يراقبها وهي تغادر في عربة واقفة أمام مركز الشرطة. “أنا مرهق حتى الموت…” “…إيرن؟” كان صوته واهنًا، مرهقًا إلى أقصى حد. “هذا يتكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة يوميًا. لا وقت لدي للتحقيق، فأنا غارق في شكاوى الأهالي.” مسح وجهه بكفّيه، ثم صافح جوديث دون مجاملة. “لقد وجدناهم.” “ماذا؟!” اتّسعت عينا كاين المُحمّرتان من التعب. “لكن هناك شريكًا لهم. اشتروا طريقة صنع المستحضرات مقابل المال.” “أين هم؟ سأقبض عليهم بنفسي، وألقي بهم في السجن ليذوقوا العفن فيه!” كان كاين غاضبًا أكثر من المعتاد عند مطاردة منتهكي القوانين المحرّمة. لكن جوديث هدأته قبل أن يندفع. “تمهّل، ماركيز. لم نحدد بعد هوية من باع الوصفة. نعرف فقط طريقة الاتصال… لا تتم مبادلة الأموال مباشرة.” “بل يُدفنون المال تحت الأرض، ويُتركون غصن شجرة كإشارة.” قطّب كاين حاجبيه بقلق. “هذه طريقة يستخدمها أتباع العقيدة الحمراء. إنها طريقة سيريس في التواصل.” “أوه، رأيت شيئًا كهذا من قبل…” قالتها جوديث وإيرن، وقد أخرجتهما الوصفة من صدمة اللحظة. “لكن هؤلاء المحتالين لا يشبهون أتباع سيريس… على الأقل ليس الذين التقيناهم.” “ربما من علّمهم الوصفة كان منهم؟” نظر كاين إلى جوديث وقال: “سيريس لم يكن من الأتباع، لكنه نفذ ما طُلب منه. لذا، من الطبيعي أن يُكرر الآخرون ما فعلته. ووفقًا لشهادة روام، تلك الجماعة تمرّ بضائقة مالية، وقد فعلوا ذلك لأجل المال.” بدت فرضيته منطقية تمامًا. “أرسلوا الجنود سرًا.” ورغم أن تحركهم جاء متأخرًا قليلًا عن إيرن، إلا أن الوقت لم يُفُت بعد. المحتالون خططوا للاختباء في الغابة لصنع المستحضرات، ومن ثم الانتقال إلى الشمال لخداع الناس هناك. لذا، لن يغادروا قبل الانتهاء من التصنيع. “سأنتظر لحظة الاتصال، وأقبض على من باع الوصفة دفعة واحدة.” كان كاين مصممًا على الإطاحة بالجميع. “هل تظنان أنني عاجز عن القبض عليهم؟ لا تقلقا، ارتاحا الآن أنتما.” — عدتُ أنا وإيرن أولًا إلى قصر راينلاند. وما إن وصلنا، حتى أسرعت إلى الحمام. أخذت حمامًا مطولًا، غسلت كل شبر من جسدي. رغم أنني مسحت وجهي ويدَيّ بمنديل إيرن فور خروجي من الخيمة، وغسلت جسدي في النزل أثناء عودتنا من الشمال، إلا أن فكرة زحفي على أرض ملطخة بالدم والتراب لم تفارقني. غسلت وجهي ثلاث مرات، وشعري مرتين. أي عذاب هذا الذي جرّه علينا هؤلاء المجانين؟ حتى الآن، حين أغمض عيني، أرى الجثث المطمورة تحت الحجارة. “رحمة الله على الموتى…” أرسلت دعائي شمالًا، محاولةً طرد الصورة من رأسي. خرجت من الحمام، منتفخة من طول الغسل، لأجد إيرني في الردهة مرتديًا رداء الحمام. “ظننتكِ قد غرقتِ، آنسة هارينغتون. ما الذي أخّركِ كل هذا في الحمام؟” كان قد انتظر طويلًا، وحين ضاق صبره، ذهب إلى حمام آخر واستحم. “أشعر بالقشعريرة. أنت لا تعلم ما كان في تلك الخيمة.” “وهل تفخرين بذلك الآن؟” “ومن قال إنني أفتخر؟ أنا فقط أروي ما جرى.” “لا يبدو عليك الندم.” بدأنا نتجادل مجددًا، أنا وإيرن. “عذرًا…” كان تان قد جاء ليحدثني، لكن إيرني قاطعه. “إن لم يكن الأمر طارئًا، فلاحقًا. أظن أن الآنسة جوديث هارينغتون بحاجة لتوبيخ صغير.” “هل تعتقد أن روحي ما زالت تحتمل شيئًا؟” ثم دخلنا معًا إلى غرفة إيرني. وتمتم تان بصوت منخفض وهو يراقبنا نغلق الباب خلفنا: “أعتقد أنكما تستطيعان النوم منفصلين الآن… لكن من الواضح أنكما لا تنويان ذلك.” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ84 “ظننت أنك كنت تتأمل.” في غرفة إيرن، أصدر إيرن زمجرة خفيفة وهو يخلع رداء الحمام ويرتدي بيجامته. “تأملت في أمر ما مرتين أو ثلاث مرات على الأقل.” قالت جوديث وهي جالسة، تحدق في الحائط، وشفتيها مضغوطتان كأنها تهمس، لكن بصوت مسموع كي يسمعها إيرن في نفس الغرفة. “ما الذي كان يدور في ذهنك وأنت ذاهب إلى هناك بهذه الطريقة؟” اقترب إيرن وجلس مقابل جوديث، التي التفتت إليه ونظرت مباشرة في عينيه. لم تكن تلك نظرة المتأمل الذي يشعر بالذنب، بل كانت نظرة تحدٍ واضحة. “ماذا كنت تفكر؟ لم تتوقع عودتهم، فدخلت المكان. لكن بفضلي اكتشفنا مكونات مستحضرات التجميل. لو كنت نجحت بمفردي، لكان إيرن قد أثنى علي.” تساءل إيرن، مع رفع حاجبيه: “ماذا تقول وأنت على وشك الفشل؟” “مدح؟ حتى لو نجحت، تستحق أن تُوبخ. هل تقوم بأفعال متهورة كهذه بمفردك؟” تنهد إيرن وهمس، “كنت أعلم أنك ستفعلين هذا، كنت أعلم.” فُتح فم جوديث في صمت مكتوم. “أعلم أنني أخطأت. وأعترف كذلك بأنها كانت مخاطرة.” لكن، أليس من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالتمرد عندما يُوبخ باستمرار؟ لو كانت قد فشلت، لما كان هناك نقاش. لكنها نجحت. فهل من العدل ألا تُمنح بعض التقدير على جهدها؟ شعر إيرن بالدهشة عندما نظرت إليه جوديث بتعبير يوحي بعدم الرضا. “أنتِ لست طفلة، وتدركين أن الأمر متهور وخطير، فلماذا دخلتِ هناك؟ لماذا دفعت بنفسك نحو الخطر؟” “كنت أعلم أن هذا سيحدث. إذاً، لماذا تركتني وحيدًا؟” شهقت جوديث. “هل أصبحت غلطتي الآن؟” “لا، أنت توقعتِ ذلك، فلماذا تركتني وحيدًا؟” “ها، نعم، هذا خطئي. لن أتركك وحيدًا مرة أخرى، أعدك.” ارتفعت أصواتهما تدريجيًا، ثم توقفت فجأة. أليس في الأمر شيئًا غريبًا؟ “لماذا تركتني وحيدًا؟ لن أتركك وحيدًا مرة أخرى.” كأنهما يتبادلان صرخة طفل صغير غاضب. تجهمت جوديث وهي تتخيل الشكوى التي ستوجهها لحبيبها، ما الذي جعله يتصرف هكذا؟ شعرت بالخجل والندم. “أعتقد أنني وعدتك ألا أتركك وحدك أبدًا.” هل لم يسمع ذلك كأنه وعد أو قسم؟ تمنّى إيرن أن يكون ذلك مجرد وهم سمعه فقط، لكن الصمت المحرج أكد العكس. احمرّت رقبة إيرن وهو يسعل بلا سبب. “آه، دم، أشعر بالإرهاق.” لم يتحملا هذا الصمت الغريب، فهمست جوديث: “هل ننام الآن؟” “…ذلك سيكون جيدًا.” نعم، كان ذلك أفضل. لأول مرة منذ زمن، شعر الاثنان بتوافق، فاستلقيا على السرير سريعًا. كانت الحيرة تمنعهما من النظر إلى بعضهما، فقط حدقت أعينهما في السقف، لكن يداهما وجدت بعضهما كأنها مغناطيس. “يدك.” وضعت جوديث يدها فوق كف إيرن، التي تمددت بشكل طبيعي كالماء الجاري، فشبك إيرن أصابعه في أصابعها الرقيقة. خوفًا من أن تفترق أثناء النوم. “…” شعرت جوديث بدغدغة خفيفة من أصابع إيرن على ظهر يدها، وتوقعت أن نومها سيكون صعبًا بسبب تلك الأصابع. — قوات الأمن المتنكرة كتجار راقبوا المحتالين ونصبوا لهم كمينًا قرب نقطة الاتصال التي ذكرها إيرن. لكن لم يحضر أحد للنقطة. عند حفر الأرض، اكتشفوا أن المحفظة قد اختفت بالفعل. لا بد أن إيرن وقوات الأمن استحوذوا عليها أثناء تبديل الورديات. كان كاين غير متفاجئ، إذ توقع ذلك، وقرر أن يركز أولًا على القبض على المحتالين، ثم البحث عن العقل المدبر. فكر أيضًا في تعقبهم سرًا حتى موعد الاتصال التالي، خوفًا من وجود ضحايا آخرين في هذه الأثناء. سارت عملية القبض على المحتالين بسلاسة، حيث داهمت الشرطة مخبأهم وألقت القبض على اثنين منهم، بينما تم القبض على اثنين آخرين من قبل بلطجية الحي الذين أطلقهم سميث. كان الرجل ذو المئزر والرجل الذي يسحب العربة محظوظين أكثر من الاثنين الآخرين. أخرج الأخ لوهمان غضبه على هؤلاء الذين باعوه مستحضرات تجميل غريبة. “كنت غاضبًا، فلماذا بشرتي تتوهج الآن؟” “واصلت استخدام مستحضرات التجميل التي صنعوها. لو عرفوا مكان العلاج، لما ترددوا في إخباري. لو أرادوا العيش، هاهاها.” “فهمت. فكرة جيدة.” ضحك سميث بسخرية بعد مدح إيرن، وربط الرجل الطويل والضخم وسلمهم لإيرن. أخذ إيرن وجوديث الرجلين وتوجها إلى مركز الشرطة. حُجزت عصابة المحتالين في غرف منفصلة للتحقيق. “إذا أخبرتموني بكل ما تعرفونه، سأخفف الحكم عليكم. لكن فقط لمن يتحدث أولاً.” قال كاين نفس العبارة، ففتحوا أفواههم جميعًا تقريبًا في آنٍ واحد. “الشخص الذي علّمنا الوصفة كان طفلًا من قبيلة شارتين.” “طفل؟” “لم يكن صغيرًا جدًا. حسب شهاداتهم، كان شابًا يتراوح عمره بين ستة عشر وثمانية عشر عامًا، وقالوا إنهم التقوا به مرة واحدة فقط.” كان المحتالون يصنعون ويبيعون النقانق، لكنها ليست نقانق نظيفة أو قانونية. كانت عبارة عن نقانق مصنوعة من دقيق الذرة وثمار المكاديميا السامة مع كل المنتجات الثانوية الملقاة بعد ذبح المواشي. كانت أرباحًا كبيرة، لكنها لم تكن كثيرة مقارنة بجهودهم. ثم جاء ذلك اليوم. ظهر شاب من قبيلة شارتين، لم يروا مثله من قبل، وعرض عليهم فرصة لكسب الكثير من المال. مستحضرات تجميل وعلاج للروماتيزم فعال في يومين. كانت هناك آثار جانبية، لكن الشاب قال إن بإمكانهم الهرب قبل ظهورها. “قالوا إن سعر منتجات المواشي وجثث البشر متقارب.” لم يكن من الصعب الحصول عليها. إذا اشتريت مقبرة، يمكنك الحصول على جثة طازجة في أي وقت. يموت عدة أشخاص يوميًا. “أسهل في التصنيع من النقانق.” لكن عند البيع، يمكن بيعها بسعر مرتفع جدًا. “قالوا إنهم سيبيعون مستحضرات التجميل وعلاج الروماتيزم من الجنوب إلى الشمال، ثم يتوقفون عند تغطية كامل الإمبراطورية.” كانت تلك أموالًا تكفيهم لبقية حياتهم. لم يستطع المحتالون رفض العرض. “قالوا إنه إذا دفنت المال الناتج من بيع مستحضرات التجميل في ورقة، وعُدت بعد بضعة أيام، ستجد ورقة أخرى مكتوبًا عليها التالي. هكذا يتم تبادل المال.” “هل اكتشفتم مكان نقطة الاتصال التالية؟” “نعم، عرفتها.” “لكن، ماركيز.” رفعت جوديث يدها وكأنها ستسأل. “مع أنه في الثامنة عشرة، هو لا يزال طفلًا مقارنةً بهم. لماذا هم متمسكون بوعدهم لطفل؟” “لا بد أنهم تلقوا الوصفة، فلماذا لم يصمتوا؟” “قال إنه سيلقي عليهم لعنة.” “حقًا؟” “الفتى هددهم بلعنة إذا لم يعطوه المال.” ضحك إيرن ساخرًا. “هل أعطيتم المال لأنكم خضعتم لتهديدات طفل؟” “وأثناء كلامه، زحف ثعبان سام تحت قدميه.” لو جرت المحادثة بين الشاب والرجل في مكان مهجور، لكان ذلك أقل غرابة، لكن قيل إنها وقعت في مطعم كبير قرب منطقة مزدحمة. على الرغم من أن المطعم كان يستهدف العامة، لكنه لم يكن متسخًا لدرجة ظهور الثعابين. “يبدو أن الثعبان فهم كلام الفتى أو شيء من هذا القبيل. لابد أنه خاف كثيرًا. الناس في الأزقة يؤمنون بهذه الأمور.” العاملون في عالم الجريمة، سواء كانوا كبار المقرضين أو اللصوص الصغار، يعيشون دائمًا على حافة الموت. الوفاة الغريبة والحوادث غير المفسرة ملازمة لهم. فطبيعي أن يؤمنوا بالسحر والوساطات والأعمال الشعوذة. “كم كان رائعًا أن يعرف فتى من قبيلة شارتين كيف يصنع مستحضرات التجميل من شحم الجثث وكيف يتعامل مع الأفاعي.” حين يتأخر المال، يقولون إن العناكب السامة أو الحيوانات السامة تزحف إلى مخابئهم. المحتالون كانوا يعتقدون أن هذا كله من عمل الفتى. “أرسلت قوة شرطة سرية إلى نقطة الاتصال التالية. وطلبت منهم إخطارنا إن رأوا أي فتى من قبيلة شارتين في المنطقة.” “هل تستطيع أن تخبرني شيئًا عن العلاج؟” “لا، قال إنه لا يعرف. الفتى قال إنه لا يحتاج إلى العلاج لأنهم لن يستخدموه، وأنه ليس مهددًا للحياة.” لا يعرفون من هو الفتى، لكنهم يدركون أنه فاسد الخلق منذ صغره. “على أي حال، هذا ما يجعلني قلقًا جدًا.” هم لا يبالون بالحكة أو الحرق كآثار جانبية، لكن هنري… تنهد إيرن بإيجاز. مع مرور الوقت، بدأت بشرة هنري تتصلب. “شاركت مكونات مستحضرات التجميل التي جلبتها زوجتي مع أطباء آخرين.” “أتمنى أن يأتي أحدهم بعلاج قريبًا.” — الصبار التنيني، أكثر أنواع الصبار شيوعًا وقدامة في الصحراء. اكتشف بييتشي أن العصارة اللزجة التي تخرج عند قطع صبار التنين نصفين لها خصائص قوية في إزالة السموم وتهدئة الالتهابات. هناك دواء مطور مسبقًا يُؤخذ مع نيكار. فلماذا لا يمزجون دواء عصارة الصبار مع مضاد نيكار ويتناولونه معًا؟ لكن المشكلة أن خلط هذين الدواءين يجعل كليهما عديم الفائدة. ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ85 “لا أستطيع الخروج من هذه الدوامة… كل الطرق تؤدي بي إلى نفس النقطة.” كان بييتشي يعرض العلاج الذي صنعه على جوديث وإيرن، بعد أن عاد الاثنان إلى القصر. ملامحه المرهقة ووجهه الشاحب لم ينبئا بخير. قالت جوديث باقتراح حذر: “ماذا لو بدأنا بفك رموز كل مادة على حدة؟” هزّ بييتشي رأسه بتعب: “لو أزلنا السموم الناتجة عن دهون الجثة أولاً، ستستمر الطفح في التفاقم بسبب النيكار. أما إذا بدأنا بتطهير آثار النيكار، فستزداد الحكة سوءًا بسبب سموم الجثة، ولن تلتئم الجروح، بل ستبدأ بإفراز القيح.” العلاج يجب أن يكون متزامنًا… لكن كل محاولات الجمع بين العقارين باءت بالفشل. كان على وشك فقدان صوابه. تدخلت جوديث بلطف: “لماذا لا تستشير أطباء آخرين؟” ثم أومأت برأسها مضيفة: “قد يكون من المفيد الاطّلاع على وجهات نظر جديدة.” رغم أن معرفتها الطبية كانت محدودة، فقد أرادت المساعدة بأي طريقة، وقد طمأنها بييتشي قائلاً إن الكتب الطبية التي أحضرتها له كانت ذات فائدة عظيمة. أثناء حديثهم، كان إيرن يحدّق في القارورتين الموضوعتين على المكتب. قال متسائلًا: “لكن هذه جرعة سائلة، وتلك مرهم؟” لم يكن إيرن طبيبًا، لكنه استطاع التمييز بين ما يُشرب وما يُدهَن. “إذاً، ببساطة يمكن تناول واحدة ودهن الأخرى.” تجمّد بييتشي في مكانه، مذهولًا من بساطة الفكرة. فتح فمه، لكنه لم ينطق. “…هاه؟” كان على وشك رفض الفكرة باعتبارها ساذجة، لكن… ربما؟ هل يمكن فعلًا أن تنجح؟ قفز فجأة، التقط القارورتين وقال باندهاش: “واحدة للشرب وأخرى للدهن؟ لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟! الدواء إما يُتناول أو يُستخدم خارجيًا!” — “أجل… الأمر أفضل بكثير.” في البداية، لم يكونوا واثقين من نجاح العلاج، فقد تظهر آثار جانبية خفية. لكن السير هنري قرر تجربته بنفسه. حتى لو كان سُمًّا، فهو أهون من هذه المعاناة. تناول ترياق النيكار الذي حسّنه بييتشي، ودهن المرهم المصنوع من مستخلصات التنين والصبار. كان يستخدمه ثلاث مرات في اليوم، وبحلول اليوم التالي بدأت بوادر التحسّن تظهر على وجهه. سألته جوديث: “كيف هي الحكة الآن، يا سير هنري؟” “تحسّنت كثيرًا. لا أقول إنها اختفت، لكنها لا تُقارن بما كنت أعانيه قبل يومين.” نبرته باتت أكثر حيوية. حتى الأخ لوهمان، الذي تلقى العلاج نفسه، أظهر تحسّنًا ملحوظًا خلال يومٍ واحد فقط. وبعد يومين من الاستخدام، بدأت قشور تظهر على وجه هنري، ما يعني أن النزيف والصديد قد توقفا، وبدأ الجلد الجديد بالتكوّن. جاءت أنباء مشجّعة من الإخوة لوهمان أيضًا، فقد بدأوا بالتعافي. بييتشي وجوديث قرّرا التريّث أسبوعًا واحدًا قبل طرح الدواء في السوق. قال بييتشي: “حضّرت أيضًا علاجًا لالتهاب المفاصل. أحتاج لمتطوّع لتجربته.” وبما أن علاجات التجميل أثبتت فعاليتها، فمن المرجّح أن ينجح علاج المفاصل أيضًا. أخذت جوديث وإيرن الدواء الجديد وتوجها إلى كاين ليسألاه إن كان من بين ضحايا التهاب المفاصل من يرغب في تجربته. لكن عند مدخل مركز الشرطة، صادفا شخصية مألوفة من الرواية الأصلية… رجل ذو شعر أبيض، لحية بيضاء، ووجه مجعّد يحمل وسامة رجولية وهيبة لا تليق إلا بالقادة. إنه القائد العام لفرسان الفرقة الأولى، شرف الإمبراطورية: جيلارد. “إيرن راينلاند.” “مضى وقت، يا عجوز.” نظر إليه جيلارد متفحّصًا، ثم قال بسخرية: “وجهك يلمع أكثر من ذي قبل.” هو ذاته الذي طرد إيرن من الفرقة الأولى منذ اليوم الأول، فقط لأنه رآه يحمل براعم صفراء – رمزًا للضعف أو الفساد. عبس إيرن ما إن رآه، لكن جيلارد تظاهر وكأن اللقاء ودي. “قالوا إن ركبتيك تؤلمانك، ومع ذلك تتجوّل كأنك في ريعان الشباب.” رمق إيرن ركبتيه وأضاف بسخرية: “لو كنت مريضًا حقًا، لجلست ترتاح في بيتك. ما الذي جاء بك إلى مركز الشرطة؟ لتضايق ماركيز موسلي مثلاً؟” أجاب جيلارد بابتسامة باردة: “سمعت أن الماركيز يتسكع معك مؤخرًا. وأنك قبضت على ذلك الرجل، روام. جلالة الإمبراطور مدحك كثيرًا.” ثم أردف بنبرة حيادية، وكأن ما قاله سابقًا لم يكن تهكمًا: “وقيل أيضًا إنك تزوجت زواجًا ناجحًا.” ارتبك إيرن. لم يعرف كيف يرد على هذا الكلام الغريب. لم يستطع إنكاره مباشرة، فخسر الجولة. في تلك اللحظة، انحنت جوديث بأدب وقالت: “أشكرك على الإطراء.” نظر إليها إيرن بدهشة. هل أدركت ما قالته؟! الآن يبدو وكأنه فعلًا زوج ناجح! وهو من هزم روام؟! في حين كان إيرن غارقًا في تساؤلاته، تابع جيلارد حديثه مع جوديث متجاهلًا إيرن تمامًا. “الكونتيسة هنا لها ظروفها الخاصة، تختلف تمامًا عن زوجها.” ثم وجّه نظرة باردة إلى إيرن وأضاف: “كيف انتهى بك المطاف إلى الزواج من شخص كهذا؟” كان يرى في إيرن مجرد وغد لا يستحق الاحترام. لكن، بعد سماعه من كاين عن جوديث، المرأة التي تسدد ديون زوجها بنفسها وتدعمه، بدأ يرى أنها أسمى من أن تكون بجانبه. قال إيرن بسخرية: “من هذا النوع؟! تشعر بالأسى لمجرد سماعك عني؟” “أجل، أين ستجد شخصًا مثلي بسهولة، أيها العجوز؟” رد جيلارد بازدراء: “ربما لا يوجد مثلك كثيرون، لكن المؤكد أن هناك من هم أفضل منك. لقد وقعت في الحفرة فوجدتك فيها.” نقر جيلارد لسانه بأسى، ثم أردف: “أقول هذا لأنني أعتبرها كأنها حفيدتي. ماركيز موسلي سيكون خيارًا أفضل بكثير.” لم يكن غريبًا أن تصدر مثل هذه التصريحات في رواية مصنفة للكبار. كل شخصية فيها تتحدث بحرية لافتة. قالت جوديث بابتسامة هادئة: “أشكرك على النصيحة. سأفكر بالأمر.” رغم تصنيف الرواية، ظلّت جوديث حكيمة. احترمت الشيخ ورفضت اقتراحه بلطف غير مباشر. لكن، لسوء الحظ، لم يلتقط إيرن الرسالة بذات الفهم. نظر إليها مستفهمًا، وكأنه يطلب منها توضيحًا، لكنها لم تلتقط نظرته هذه المرة. أمالت رأسها باستغراب، بينما قال جيلارد: “ما الذي جاء بكِ إلى مركز الشرطة، سيدتي؟” أما إيرن، فلم يعد يُحسب له حساب. ردّت جوديث: “حضّرت علاجًا لالتهاب المفاصل يثير اهتمام الكثيرين. جئت لأرى إن كان أحد الضحايا يرغب في تجربته.” فقال جيلارد على الفور: “إذن، لا حاجة للدخول. أنا سأجربه.” “نعم؟!” قيل إن القائد العام للفرقة الأولى كان أحد ضحايا أدوية التهاب المفاصل. قال بيأس: “إذا لم تعد الركبتان تعملان، فالأفضل لي أن أتقاعد.” “هل أبدو كشخص يعتمد على الدواء؟ كانت هدية من ابنة أختي.” ثم مدّ يده إلى جوديث قائلاً: “إن كنتِ ستجرّبينه، فليكن على جسد يحتضر.” أعطته جوديث زجاجة الدواء مع شرح مفصل لطريقة الاستخدام، وأوصته بإبلاغها بأي أعراض جانبية أو مؤشرات تحسّن. قال لها: “سنفعل.” ثم أثنى على جهودها، قبل أن يوجّه إلى إيرن نظرة ازدراء. “تسك تسك…” لم يقل أكثر من ذلك، لكنه خلّف وراءه أثرًا يفوق أي إهانة. غلى دم إيرن. قال بغيظ: “لماذا لا نخلع الرتب ونتبارز، أيها العجوز؟!” أمسك مقبض سيفه، لكن جيلارد رفض التحدي، ثم صعد إلى عربته. “وما الفائدة من أن يهزم شابٌ عجوزًا؟” أغلق باب العربة، وتحركت ببطء، كأنها تتعمّد استفزاز إيرن. تابعها بعينين تقدحان شررًا، ثم التفت فجأة إلى جوديث. “ماذا؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟” لكنه لم يشرح لها أبدًا مغزى تلك النظرة. وبعد يومين، وصلت أخبار من جيلارد تفيد بأن العلاج كان فعالًا للغاية في تخفيف الألم. — “انظر، يا بييتشي.” “…اهدئي، آنسة هارينغتون.” تراجع بييتشي بخوف من نظرة جوديث. ابتسامتها كانت دافئة كنسيم الربيع، لكن عينيها اشتعلتا برغبة تفوق حرارة شمس الصيف. “قل لي، ماذا تشمّ؟” كانا في غرفة فارغة بالقصر، لا رائحة فيها سوى الغبار، ومع ذلك تظاهر بييتشي بأنه يشمّ شيئًا. “ماذا تشم؟” “لا شيء.” “اشتم جيدًا… إنها رائحة المال.” “…آه؟” “ألا تشمّ عبق النجاح؟ رائحة دوائك الذي سينفد من الأسواق؟ هذه الغرفة ستمتلئ قريبًا بعملات الذهب!” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ86 “اللعنة… لقد كنا هالكين منذ البداية.” “هل نحن على قائمة الإعدام، أخي؟” “آمل ألا تصل الأمور إلى ذلك… لقد دمّرت كل شيء، وأنا أعلم ذلك.” في السجن التابع للشرطة، اجتمع النصابون الأربعة مجددًا خلف القضبان. قال الرجل الطويل وهو يدفن وجهه بين ركبتيه، فيما تمتم سائق العربة بجانبه: “كان ينبغي أن أكتفي بصنع النقانق وبيعها.” لطالما كان المال نقمةً عليهم. لقد أعماهم الطمع. “ما كان عليّ أن أتورط مع ذلك الفتى منذ البداية.” لم يكن الأمر مرتبطًا بانتمائه لقبيلة الشارتين. فالنبلاء المتغطرسون يرونهم أدنى منزلة ويصفونهم بالقذارة، لكن هؤلاء الرجال ترعرعوا في الأزقة الخلفية، جنبًا إلى جنب مع الشارتين، ولم يحملوا يومًا أحكامًا مسبقة ضدهم. لكن ذلك الفتى… لم يكن بشرًا. حتى أعتى الأشرار في هذا العالم، تحتفظ نفوسهم ببقايا من إنسانيتهم. أما ذلك الصبي، فقد بدا وكأن الرحمة قد انتُزعت من كيانه تمامًا. “لكن… أن تُصنع النقانق من جثث بشرية؟! هذا جنون…” “وما الفرق بين معالجة بقايا الحيوانات الميتة، ومعالجة أجساد بشرية مات أصحابها بالفعل؟” لم يكن يقصد التهكّم. لو كانت نبرته ساخرة، لما اجتاح القشعريرة أجسادهم. لا، لقد نطقها بنية خالصة، وكأنما يطرح سؤالًا طفوليًا. ما الفرق الحقيقي؟ كلاهما جثث هامدة. فلماذا التردّد؟ لم تكن نظراته ساخرة، بل ملأها الفضول البارد. ومع ذلك، لم يُلح بالسؤال. بل عرض عليهم مبلغًا من المال يكفي ليحيوا حياة رخاء لا تنتهي. الجنود الذين استجوبوا العصابة لم يكفوا عن السخرية منهم: “كنتم تدفعون المال لصبي يتحكم بالأفاعي؟” لكنهم لم يستطيعوا مقاومة تلك النظرة… تلك العينان الذهبيتان الصافيتان، والمفعمتان بالطمع، كأنهما عينا أفعى. كانت عينا ذلك الصبي أكثر صفاءً من أعين أي شارتين، لكنها في الوقت نفسه كانت أكثرهم جشعًا. والآن، في الزنزانة، تلاحقه تلك النظرة كلما أغمض عينيه. “اللعنة… إنها تلك الأفعى!” “السجّان! هناك أفعى هنا، آه—!” — أي شخص يستطيع شراء مستحضرات تجميل بسعر قطعة ذهبية للزجاجة، يستطيع كذلك شراء الدواء. كان هذا منطق جوديث. شعرت أنه من الظلم بيع مستحضرات تجميل بذلك السعر، ثم تقديم العلاج مجانًا. لذا، قررت بيع العلاج الذي صنعه بييتشي مقابل المال، لكن ضمن ضوابط أخلاقية تراعي معاناة الضحايا. والنتيجة… كان الدواء يُباع كأنّه ذهبٌ سائل. ولم يكن ذلك مستغربًا. منحت جوديث إحدى الغرف الفارغة في القصر لبييتشي ليحولها إلى ورشة، وبسبب الطلب الهائل، جُنّد الجميع، حتى ميا، للمساعدة في إعداد العلاج. “سيد بييتشي، انتهى زمن العذاب، وبدأ زمن السعادة.” “بل أظن أن زمن الشقاء الحقيقي بدأ الآن.” ضحك بييتشي وهو يتأمل الزجاجات التي تنتظره، ضحكة يغلفها السأم والإنهاك واليأس. مضت أيام لم ير فيها الشمس. لكن السعادة… تأتي حين يتدفق المال. يعمل بييتشي الآن 12 ساعة يوميًا، يبدو كصيدلي ناجح، ومع ذلك لم يدخر شيئًا. لا يزال يعيل نفسه والآخرين من دخل يومي بالكاد يكفي. تان يعمل كوسيط روحاني، ميا ورايان يعملان بالأجرة، ومع كل هذا، لم يكن الدخل يغطي شيئًا. لكن بفضل العلاج… بدأ المال يتدفق. اشتروا اللحم، الفاكهة، وحتى ملابس جديدة. كل هذا ما كان ليحدث لولا الدواء… ولولا جوديث. “هل أنت سعيد الآن، سيد بييتشي؟” “أعتقد… نعم.” أومأ برأسه كما لو أصابته نشوة المال، ثم عاد لعمله. راقبه إيرن وهو مستند إلى الحائط، وتمتم ساخرًا: “ها قد سقط رجل آخر في عبادة المال.” دخلت كايا حاملة كومة من الأعشاب الجافة: “أين أضع هذه؟” “هناك، في الزاوية.” ثم دخل فاديم وميلو بأعشاب إضافية. كان الكبار مشغولين للغاية، فأسندوا للأطفال مهام بسيطة كحمل الأعشاب. رأت جوديث ذلك، وقررت مكافأتهم ببعض العملات الصغيرة. فوجئ الأطفال، فكانت تلك المرة الأولى التي يمسكون فيها بالمال. ومنذ تلك اللحظة، بدأوا يبحثون بأنفسهم عن أي عمل يمكنهم إنجازه دون أن يُطلب منهم. “تششه، حتى الأطفال أصابهم جنون المال.” تساءل إيرن في نفسه: هل سينتهي المطاف بالجميع وهم يطاردون المال بجنون؟ — في الأيام التالية، أمام متجر البخور… “سيدتي، لا تقلقي كثيرًا. كنتُ في حالة أسوأ، لم أكن أتعرف على نفسي في المرآة. لكن هذا الدواء يصنع المعجزات.” كان هنري واقفًا أمام طاولة بيع مؤقتة، يبيع العلاج. لم يُشف تمامًا، لكن بشرته استعادت جزءًا كبيرًا من نضارتها. في السابق، كان يخجل من الظهور أمام الناس بندوبه وبقعه، أما الآن، فكان يعرضها بفخر. الإيمان بأن الشفاء ممكن، والرغبة في مساعدة الآخرين، منحتاه شجاعة لم يعرفها من قبل. “هل ستتحسن حالة ابنتي أيضًا؟” “نعم، لا تقلقي. ستتحسن قريبًا.” كان حديثه صادقًا، ومواساته نابعة من القلب، ما جعل كلامه عزاءً حقيقيًا للضحايا وأسرهم. وبالطبع… ازداد الإقبال على الدواء. أشارت إليه جوديث بإعجاب، وردّ بابتسامة واثقة. “ذلك الفتى خُلق ليكون بائعًا.” قال إيرن وهو يراقبه، ثم تمتم في داخله، محظوظ أن هنري لا يعلم مكونات تلك المستحضرات. “هنري، هل تهمك معرفة مما صُنع ذاك المكياج؟ أنصحك ألّا تسأل.” “حتى أنت تقول هذا؟ وأنت من رأى أهوالًا؟” “بلى… لأن بعض الحقائق لا دواء لها، حتى من صنع بييتشي.” اقتنع هنري فورًا حفاظًا على سلامته النفسية. “أين أضع هذا؟” “ضعه في المتجر، إيرن.” وما إن دخل، حتى دوى صوت حوافر خيل تقترب بسرعة، قبل أن تتوقف أمام المتجر. “إيرن!” “ماركيز؟” كان كاين. قفز من حصانه وحيّا هنري بسرعة، ثم أسرع نحو إيرن. “أنا قلق.” قالها إيرن، لكنه لم يطرح سؤالًا. “جلالة الإمبراطور يطلبك في القصر.” “مجدّدًا؟ لماذا؟” “يريد تكريمك على مساهمتك في كشف فضيحة مستحضرات التجميل المحظورة.” تنهد إيرن. لم يكن يحب زيارة القصر لمجرد المجاملات، لكن… إن كانت تهنئة من الإمبراطور، فلا بأس. ومع ذلك، كان في سلوك كاين ما يثير الريبة. “لستَ من النوع الذي يركض لأجل التهاني.” “العصابة… ماتوا جميعًا.” “ماذا؟!” “ذهبت صباحًا… ووجدتهم موتى.” مسح كاين جبينه بمنديل وهو يضيف: “لم يُجرَ التشريح بعد، لكن آثار اللدغات على الجثث تشير إلى سم أفاعٍ. الطبيب يظن أنها سُموم قاتلة.” تذكّر إيرن على الفور ذلك الفتى الذي يتحكم بالأفاعي… “طبعًا… لم تتمكنوا من الإمساك بأية أفعى.” “بالطبع.” …هل قالها بثقة؟ أليس من المفترض أن يشعر بشيء من الخجل؟ رغم عبوس وجه إيرن، أكمل كاين: “لكن جلالة الإمبراطور لا يعلم بالأمر بعد.” “ولماذا لم تُخبره؟” “لهذا السبب… سأدخل القصر برفقتك.” …ولماذا عليّ أن أذهب معك عند إبلاغه؟ بأي منطق؟! ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ87 في قاعة العرش، خيّم التوتر كستار ثقيل. كان إيرن واقفًا وقد استدعاه الإمبراطور شخصيًا، يرمق جيلارد بنظرة مشوبة بالامتعاض، إذ كان الأخير يحتلّ موقع المساعد المعتاد الذي طالما أزعجه وجوده. منذ البداية، لم يُعلّق إيرن آمالًا كبيرة على أن يحصل على معلومات ثمينة من أولئك المحتالين الأربعة، لذا لم يندم كثيرًا على موتهم. لكن ما أثار حنقه حقًا هو عجزه عن كشف المزيد بشأن “فتى مروّض الأفاعي” الذي زوّدهم بوصفة العلاج. قال الإمبراطور بنبرة صارمة: “هل خدعكم جميعًا مجرد فتى يروّض الأفاعي؟” ردّ جيلارد بتحفظ: “يبدو أنه أرسل الأفعى بعد أن علم باعتقال العصابة، لكن لا يمكنني الجزم بذلك.” رفع الإمبراطور حاجبيه ببرود: “وماذا نعلم إذن، يا ماركيز؟ فقط أن هناك أربعة محتالين ماتوا؟ أم أن ذلك الفتى لا يزال حرًّا طليقًا؟” انحنى كاين برأسه كمن يشعر بذنبٍ ثقيل، بينما شعر إيرن، الواقف إلى جانبه، بامتعاض غريب، وكأنّ اللوم قد وُجّه إليه بلا داعٍ. ساوره شعور مزعج منذ اللحظة التي طلب فيها الإمبراطور حضوره وحده، دون جوديث، رغم أنها كانت شريكته في ذلك الإنجاز. سأله بتوجس: “ما سبب استدعائي؟” لكن الجواب لم يأتِ من الإمبراطور، بل من جيلارد: “حتى وإن لم يكن هناك أمرٌ طارئ، فعندما يستدعي جلالة الإمبراطور أحد رعاياه، فعليه المثول فورًا.” تصلّب وجه إيرن أكثر. “إذًا، استدعيتني دون سبب جوهري؟” قال الإمبراطور بابتسامة باهتة تشوبها ريبة لا تُحتمل: “استدعيتك لتهنئتك على ما حققت. رغم أنك لست من فرسان الإمبراطورية، إلا أنك ساهمت في حلّ واحدة من أعقد المشاكل التي واجهناها.” لكن إيرن لم ينخدع. أهذا كل ما في الأمر؟ أليست التهاني عادةً تتبعها مكافأة أو على الأقل وسام يُمنح؟ انتظر بصبر مشوب بالحذر، معتقدًا أن هناك جملة أخرى ستقال، لكن الإمبراطور بدا وكأنه أنهى الحديث. قال أحد الحضور: “أداء الكونتيسة كان مدهشًا هذه المرة أيضًا.” ضحك آخر ساخرًا: “ذلك الأحمق نال زوجة تفوقه بسنوات ضوئية!” ثم قال الإمبراطور وكأنه يختم النقاش: “بلّغ زوجتك أننا نُقدّر مجهودها.” شهق إيرن داخليًا، وقد بلغ الغضب حلقه. أهذا كل شيء؟ لا مكافأة تُذكر؟ كان على وشك الانفجار. إن لم تُمنح مكافأة لمن أنقذ البلاد، فأي نوع من الولاء تتوقعه، أيها الإمبراطور؟ تخيّل خيبة أمل جوديث التي كانت تنتظر المكافأة بفارغ الصبر، وتخيّل نفسه وهو يعود إليها خالي الوفاض. قال الإمبراطور بتوتر، وهو يرى الغضب يشتدّ في ملامحه: “لا… بالطبع هناك مكافأة. فقط، رجاءً، خفف من تعابير وجهك.” غمغم إيرن بمرارة: “هذه المرة لا يجب أن تكون فستانًا.” تدخّل جيلارد بوجه عابس: “لطالما كنت رجلًا زاهدًا، لكنك تغدو أكثر جشعًا يومًا بعد آخر.” ردّ إيرن ببرود: “الآنسة هارينغتون تترقّب بشغف الذهب الذي وعدها به جلالتك.” وافق الإمبراطور قائلًا: “نعم، الكونتيسة تستحق مكافأتها.” رفع إيرن حاجبه ساخرًا. إذًا، حين أطالب بها أنا أُتهم بالجشع، لكن حين تطلبها هي، توصف بأنها تستحقها؟ قال الإمبراطور: “لقد دخلت وحدها خيمة أولئك المحتالين، رغم علمها بوجود جثة هناك، وجلبت لنا الوصفة.” وأضاف كاين مؤيدًا: “تتمتع بشجاعة حقيقية.” كاد إيرن أن يصرخ: إذن، لماذا استدعيتموني أنا؟ لماذا لم تُحضِروا جوديث بدلًا من ذلك؟ قال جيلارد بنبرة مازحة: “لقد حظيت بزواج موفق. بات الناس يقولون إن رمز الزواج المثالي هو إيرن راينلاند، لا ألبرت فيرني.” ضحك الإمبراطور ضحكة مصطنعة: “رجل نقيّ، لا يمسك سوى بيد زوجته، وعريس القرن… بلا أي فضائح للخيانة!” اشتدّت ملامح إيرن صرامة: “أعطوني المكافأة الآن. لدي الكثير من العمل.” ضحك الإمبراطور بخفة: “ألم تقل إن العطور تصنعها زوجتك؟ والوصفات يعدّها العطار؟ والمبيعات يتولاها السير هنري؟” قال إيرن بجفاء: “أنا أساهم أيضًا.” ثم سأله الإمبراطور فجأة، بنبرة جادة: “هل حقًا لا تنوي العودة إلى فرسان الإمبراطورية؟” ردّ بثقة: “سأُسقط جماعة المتّبعين دون الحاجة للانضمام إليهم مجددًا.” “وماذا بعد؟ ستظل تعمل في متجر العطور؟” فتح فمه ثم أغلقه. بعد نهاية كل شيء، حين لا تعود جوديث بحاجة إليه… كان ذلك سؤالًا لا يرغب حتى في التفكير فيه. “سأتدبّر أمري.” ردّ غامض، لكنه كل ما استطاع قوله. قال الإمبراطور أخيرًا: “المكافأة ستُرسل مباشرة إلى متجر الآنسة هارينغتون. وستصل قبل عودتك.” ثم أضاف، موجّهًا كلامه إلى جيلارد: “أما أنت، فقد أعددت شيئًا خاصًا لك. اتبع السير جيلارد.” — في متجر العطور… “يا رجل! السيدة جوديث راين— أقصد، الآنسة هارينغتون، لمَ تفعلين هذا؟!” صرخ المساعد الذي أوصل المكافأة من الإمبراطور، وقد سحبته جوديث فجأة من معصمه. “هارينغتون فقط. لا تنسَ أين نحن.” لم ترغب في أن تُعرف هويتها، خصوصًا مع تزايد عدد الزبائن بفعل شهرة العلاج. فهم المساعد مقصدها سريعًا، وتدارك الموقف: “جلالة الإمبراطور يُثمّن عطاءات الآنسة جوديث هارينغتون.” تسلّمت جوديث الصندوق بثقل، ثم سألت مبتسمة: “أهذا… ذهب؟” “نعم. مئة قطعة ذهبية.” فتحت الصندوق الفاخر، أمعنت النظر في بريقه، ثم أغلقته بسرعة. قال المساعد: “وإذا تمّ القبض على المجموعة الرئيسية من المتّبعين، فالمكافأة ستكون مئتي مليون.” “سنهتمّ بذلك.” ثم همس المساعد: “ويُقال إن فتى مروّض الأفاعي… هو زعيمهم.” “زعيم؟ أي منصب؟ جنرال؟ قائد؟” — في سرداب القصر… قاد جيلارد إيرن إلى أعماق الزنازين المظلمة، حيث لا تطالهم شمس، وكان الصمت هناك ثقيلًا، كأنّ أرواح الخونة تهمس في الأرجاء. أشعل جيلارد شعلة أمام زنزانة قديمة، فظهرت يد نحيلة تمسك بشمعة. اقترب وجه هزيل من الضوء، وظهرت ملامح شيخ ضئيل، بدا كأنه يحيا بين رمقين من الموت. قال جيلارد: “هذا أحد أعضاء المتّبعين. انشقّ عنهم بعد تحرير كليف وسيريس.” ثم أردف: “لقّب نفسه بـ‘الوسيط ذو الريشة البنفسجية’. وذكر أن من يقود الجماعة… هو فتى مروّض الأفاعي.” صاح إيرن بريبة: “أتصدّقه؟ قد يكون طُعمًا لا أكثر.” نظر إلى الرجل الهزيل بريبة. جسده المتآكل بالكاد يحافظ على توازنه، وساقه مضمّدة بخرق قديمة، ورائحته كالموت ذاته. قال جيلارد بصوت خافت: “هو من سيقودنا إلى الهلاك…” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ88 “سيقودنا إلى الهلاك.” تفوه الوسيط ذو الريش الأرجواني، الذي ظل صامتًا يستمع إلى حديث إيرن وجيلارد، بصوت أجش كأن البلغم يغلي في حنجرته، فبدت نبرته منفّرة. قال، متوجّهًا بالكلام إلى جيلارد: “أشكرك. سيدي جيلارد، أنت فارس شريف، تفي بوعودك. تختلف كثيرًا عن بقية رجال الإمبراطورية الذين لا يعرفون معنى الإيمان.” قهقه الوسيط ثم سعل بعنف. سأل إيرن بنبرة حادة، وقد تجاهل كلام الوسيط: “وعد؟ هل صرت تعقد وعودًا مع الخونة؟” أجاب جيلارد دون أن ينظر إلى إيرن، وقد بقيت عيناه مثبتتين أمامه: “قال إنه سيتعاون فورًا إن سمحت له بمقابلتك.” “وهكذا أحضرتني؟” “نعم. أليس من المفترض أن تعرف أنت أيضًا السبب؟ لا بد أنك تتساءل، أليس كذلك؟” رمى جيلارد زجاجة ماء نحو الوسيط الذي لم يتوقف عن السعال، فشرب منها قليلاً حتى استطاع الحديث. سأل الوسيط بنبرة ساخرة: “هل أردت رؤيتي لتطمئن أنني ما زلت أمشي على قدميّ؟” ردّ إيرن باقتضاب: “كنتُ فضوليًا.” مسح الوسيط طرف فمه ونظر إلى إيرن، وعيناه الصفراء الساطعة توهجت بوميض مريب وسط الظلمة. “هل كنتَ حقًا أهلًا لتدميرنا بهذا الشكل؟” تمتم بكلمات مبهمة لا يفهم معناها، ثم قال: “سأشرح لك كي تدرك. قد يكون قائد الفرقة الأولى عجوزًا ضعيف العقل، لكنني لست كذلك.” اقترب إيرن من القضبان الحديدية وهمس بصوت بارد كالجليد: “أنا لم أعد فارسًا.” قال الوسيط: “سأخبرك بكل شيء، لكن بشرط.” ردّ إيرن بضجر: “كثيرة هي شروطكم.” “في خيمتنا أطفال لا يعلمون شيئًا. أرجوك، أعفِ عنهم. وكذلك الشارتين الذين ساعدونا ظنًّا منهم أننا أبناء وطنهم. لا ذنب لهم. فقط أرادوا مساعدة أبناء جلدتهم. أطلب من جلالة الإمبراطورة أن تكفل ذلك.” قاطعه جيلارد بقسوة: “هذا لن يحدث.” هزّ الوسيط رأسه ببطء وقال: “لن أنطق بكلمة ما لم تضمن لنا جلالتها طريق النجاة.” كان “طريقهم” الذي تحدّث عنه قائمًا على قسم دموي بين الشارتين، ولم يكن ليصدّق وعود رجال الإمبراطورية، لا بكلماتهم ولا بشرفهم. “ما سأقدمه لكم سيكون ذا فائدة عظمى، فهل سترفضونه حقًا؟” التفت نحو جيلارد وقال: “كنتُ على وشك أن أعلّمكم كيف تكسّرون الحظر.” — بعد سماع القصة، لم تتردد الإمبراطورة في تقديم ضمانها. وبما أن الأمر لم يتطلّب سوى قطرة دم، وافق الإمبراطور أيضًا. اضطر إيرن إلى البقاء في القصر حتى وقت متأخر من الليل، ثم عاد لاستجواب الوسيط الأرجواني. قال الوسيط وهو يسعل بعنف: “واحد، كح، بداية، هوه، كرك…” “…” “اسمح لي بالكلام، كح، كح.” “تبدأ بكلمة واحدة؟ ما هذه الكلمة؟” “نحن، كح… نحن… عنا، كح.” “…” كلما نطق بكلمة، سعل. وكلما حاول أن يشرح، غصّ بحنجرته. “نحن، كيييك، كرك…” راقبه إيرن بانزعاج، وعروقه بارزة على صدغيه من شدة التوتر. قال ساخطًا: “لا، لا يمكننا فهم أي شيء مما تقوله.” كاد الجنون يصيبه من شدة الإحباط. مرّر يده بين شعره وتنهد. بفضل ضمان الإمبراطورة، نُقذت حياة الأطفال وأعوان الوسيط من الشارتين، ما جعله يشعر ببعض الراحة. بدأ جسده المنهك بالانهيار، بعد أن أدى غرضه الذي نذر نفسه له. ورغم تدهور حالته، لم يُعر الأمر اهتمامًا كبيرًا، في حين كان إيرن وجيلارد يغليان من الغضب. قال أحدهم متوسلاً: “أحضِروا له بعض الدواء، أرجوكم. إن استمر على هذا الحال، سيموت قبل أن ينطق بأي كلمة.” فقال إيرن: “…اتفقنا أخيرًا على شيء، على ما يبدو.” أُعطي الوسيط وجبة خفيفة ودواء للسعال قبل أن يبدأ التحقيق الجاد. لم يكن دواء السعال قادرًا على علاج داء الرئة الذي يعانيه، لكنه أمهله وقتًا كافيًا للإدلاء بشهادته. قال: “لا أدري إن كنتم تعرفوننا جيدًا. نحن تحت قيادة الكهنة وثمانية شيوخ.” رغم أن الكاهن هو القائد، إلا أنه في الحقيقة مجرد زعيم شرفي. الكاهن شخص يدرس السحر ويتجرد من ذاته، ثم يضحّي بنفسه من أجل أتباعه عندما يحين الوقت. لذا، يُكنّ له الاحترام، لكن الإدارة الفعلية بيد الشيوخ الثمانية. “في التمرد الأخير، قُتل خمسة من الكهنة والشيوخ.” جرى تعيين بدلاء عن الشيوخ القتلى، وتم اختيار الكاهن الجديد من بين مرشحي الكهنوت. وكان الوسيط ذو الريش الأرجواني أحد الشيوخ الذين نجوا من التمرد. بعكس الشيوخ، يشترط في الكهنة أن يكونوا من سلالة شارتين نقية، مما يصعّب عملية اختيار خليفة لهم. “كان هناك مرشحان اثنان لمنصب الكاهن الأعلى هذه المرة. ولأننا توقعنا فشل التمرد، اختطفناهما أولًا.” “هل كان راقص الأفاعي أحدهما؟” “نعم. رغم ضعفه الجسدي، إلا أنه كان طفلًا موهوبًا. لم أشك لحظة في أنه سيكون حجر الأساس لإعادة بناء إمبراطورية الشارتين.” لكن الأمور تغيّرت. بعد أن أصبح كاهنًا، طغى عليه الطمع. “صار رجلاً لا يعرف إلا المال. لا يتردد في بيع اللعنات إن حقق منها ربحًا. حتى أسرار أجداده لم يتورع عن الاتّجار بها.” من بين تلك الأسرار كانت الوصفات المجنونة لمستحضرات التجميل وأدوية التهاب المفاصل. “أليست هذه اللعنات كانت مخصصة للبيع أصلًا؟” “كانت كذلك، لكن لتمويل حياتنا وقضيتنا.” “إذاً، هل لم يعد كاهنًا الآن؟” أومأ الوسيط برأسه وهو يحتسي الماء كأنما يشرب خمرًا. “يدّخر المال لإشباع شهواته. لنفسه فقط، من أجل رفاهيته. يهمل مهامه، ولا يصغي لنصائح الشيوخ.” ولأجل المال، لم يتردد الكهنة في بيع الأدعية المحرّمة التي ظل أتباعهم يحتفظون بها طيّ الكتمان. “قد لا تثمّن الإمبراطورية حياة شعوبها، لكنها على الأقل تعرف قيمة الإنسان. أما الكهنة، فلا.” لدى الكهنة تصنيف ثنائي بسيط: “إما أن تكون نافعًا أو عديم الفائدة.” فإن كنت مفيدًا، فأنت منهم. وإن لم تكن، فأنت عدوهم. “جماعة يقودها رجل كهذا مصيرها إلى الزوال.” قالها الوسيط بنبرة تملؤها السخرية من الذات. “لذا قررتُ أن أبحث عن موطن جديد.” خان الوسيط الكهنة، لكنه لم يخن الأتباع. خرج ليبحث عن أرض جديدة، مستعدًا لأن يُوصم بالخيانة. حاول تأسيس بداية جديدة باستخدام كل ما لديه من معلومات واتصالات، لكن دون جدوى. فقد كان مطاردًا من الأسرة الملكية كخائن، ومن الأتباع كخائن، ما جعل المَهمّة مستحيلة. ولم يكن الحظ في صفّه أيضًا، إذ سقط في يد قطاع الطرق، وأُصيب بالسل. “أنت تتحدث وكأنك استسلمت.” “ولِمَ لا؟ أنفاسي توشك على الانقطاع حتى دون حكم إعدام.” قال إيرن وهو يضرب القضبان بخفة: “لم نُعطِك دواء السعال لتكذب علينا.” “أنت تريدنا أن نقتل الكاهن بدلًا منك.” إن قُتل الكاهن، فقد الأتباع مركزهم ونقطة تماسكهم، بينما أولئك الذين فروا بالفعل، أو كانوا يخططون للهرب، مثل الوسيط، يستطيعون تأسيس بداية جديدة في مكان آخر. قال الوسيط مبتسمًا بخبث: “يقولون إن عدوّ عدوك هو صديقك. فكّروا في الأمر بهذه الطريقة.” لم يُنكر كلامه، فضحك إيرن بسخرية. “إذًا، أعطِنا معلومات صحيحة لنقبض على الكاهن. أين يقع المقرّ الرئيسي؟” “ذلك محميّ بحظر ذهبي.” “لكن هذا مخالف لما وُعِدنا به.” تمتم إيرن مهدّدًا، مشيرًا إلى أن الأطفال لن يُعفَوا إن استمر بالكذب. “بدلاً من ذلك، سأعلّمكم كيف ترفعون الحظر الذهبي.” “إن كنت تعرف طريقة فكّ الحظر، فافكك حظرك أنت!” “طريقة وضع الحظر تختلف من وسيط لآخر، ولا يمكن إلا للوسيط الذي وضعه أن يزيله. بالإضافة، لا يمكن للمرء أن يفرض الحظر على نفسه.” شعر إيرن بأنه خُدع. “إذاً حتى لو علّمتنا، فستكون الفائدة محدودة؟” “لا داعي لهذا الوجه، فأنا وضعت أغلب الحظر بنفسي.” دوّن الوسيط طريقة فكّ الحظر على ورقة. “من وضع الحظر عليّ هو الكاهن الأعلى. لذا، لا أحد سواه يستطيع رفعه.” قضى وقتًا طويلًا وهو يخطّ تعاويذ معقدة على الورق. — عاد إيرن إلى قصر راينلاند في وقت متأخر من الليل. كانت جوديث قد أنهت تنظيف المتجر مع هنري، وعادت باكرًا إلى القصر بانتظاره. قالت: “قالوا إن الأتباع الذين فرّوا بعد أن فُكّ حظر كليف وسيريس قد أُلقي القبض عليهم؟” “ومن قال لك هذا؟” “الماركيز. جاء في وقت سابق ليسلّم مكافأة مالية.” “هل كانت ذهبًا هذه المرة؟” أومأت جوديث، لكن إيماءتها بدت باهتة ومرهقة. ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ89 “لقد حصلتِ أخيرًا على صندوق العملات الذهبية الذي كنتِ تنتظرينه بشغف، فلماذا ذلك التعبير على وجهك؟ هل كان المبلغ أقل مما توقعتِ؟” “لا، كان السعر مناسبًا.” “إذاً، ما المشكلة؟” لنعد إلى بضع ساعات سابقة. عندما كان المساعد يشرح الأمور بإيجاز قبل صعوده إلى العربة، دخل زبائن آخرون إلى متجر جوديث. كانوا سميث والأخوان لوهمان، الذين كانوا يمرون عبر الساحة لجمع الفوائد من الدائنين الآخرين. وبينما توقفوا في متجر جوديث لشراء بعض الأدوية، رأوا المساعد يسلّمها صندوقًا من العملات الذهبية. “آه، أهذا هو أصل الدين وفائدته لهذا الشهر؟” “هذا ما أرسله جلالته…” “أجل، أصل الدين والفائدة.” قال سميث إنه سيأخذه بما أنه موجود، ثم استولى على الصندوق. بعد مرور نصف ساعة، أُخذ الصندوق من حضن جوديث. كان من الطبيعي أن تسير الأمور على هذا النحو. لكنها شعرت بفراغ هائل؛ فقد انتُزع منها ما حصلت عليه فورًا. وعلى الرغم من أنها تلقّت المال، إلا أن الأمر لم يشعرها بشيء وكأنها لم تستلمه أصلاً. “الفائدة مرتفعة إلى درجة أنكِ كمن يسكب الماء في حفرة بلا قاع.” “تسكب الماء في حفرة بلا قاع؟” كانت هذه أول مرة تسمع فيها هذا التعبير، لكنه كان مناسبًا جدًا. “إذا أردتِ جمع المال حقًا، فلا مفر من الإمساك بالمجموعة الأساسية من الأتباع.” وهكذا، حثّت جوديث إيرن ليُخبرها سريعًا بما علمه من الوسيط ذي الريش الأرجواني. “الفتى الذي استدعى الثعابين هو قائدهم.” “لقد سمعت هذا من مساعدي.” “جاء وأخذ يهذي بكلام فارغ. على أية حال، انظري إلى كمّ المال الذي يصرفه هذا الصغير.” “هل يعيش ببذخ؟” طفل صغير يعيش في رفاهية؟ وهو هارب من المطاردة؟ بالنسبة لجوديث، التي تمثل الترشيد والاقتصاد، كان هذا أمرًا غير مفهوم تمامًا. “يُقال إنه يمتلك طبعًا قاسيًا… لا، لقد أصبح كذلك مؤخرًا.” كان من المعروف أن المرشحين للكهنوت يتلقون تعليمهم على يد الشيوخ الثمانية. والوسيط ذو الريش الأرجواني كان من بينهم، ويُقال إن الفتى كان في السابق عطوفًا ومهذبًا، يحب قومه بإخلاص. لكن بعد أن أصبح كاهنًا، تغيّر كليًا. “لقد تذوّق طعم السلطة.” “على ما يبدو، بدأ يعتقد أنه شخص مهم حين بدأ الكبار يتطلعون إليه باعتباره كاهنًا صغير السن.” فالسلطة، في النهاية، هي أكثر ما يمكن أن يُغيّر الإنسان. “ويُقال إنه هو من أجرى التجربة عليّ.” ولهذا، أراد الوسيط رؤية إيرن. بدقة أكثر، أراد رؤية إيرن الذي تحطّم في مكانٍ ما… لأنه كان يأمل في أن لا تكون قدرات ذلك الكاهن كبيرة بما يكفي لإنجاح التجربة. لم يكن بمقدوره كشف الهدف النهائي من التجربة بسبب الحظر المفروض عليه، لكنه أكد أنها كانت تجربة بإشراف مباشر من الكاهن نفسه. “لكن ذلك الوغد الصغير لم يعد يهتم بي الآن.” “ولمَ ذلك؟” “ليوفّر المال من أجل حياة الترف.” ربما بدا كلامه مزاحًا، لكنه قاله بنبرة مملوءة بالمرارة. “تسك تسد، الطفل بدأ يدمن الرفاهية. ألم أقل إن التعليم المالي أمر بالغ الأهمية؟” “إن كان تعليمك المالي يشوبه خلل، فتعليمك العام ليس أفضل حالًا. الأطفال هذه الأيام يتنافسون حتى في توفير مصروفهم.” كايا، التي كانت ذات طابع رومانسي، أصبحت مهووسة بتوفير مصروفها. رغم أنه من الأفضل الاعتدال، إلا أنها شديدة الحماس. “على الأقل، أولادنا لن يعيشوا في فقر.” قالت جوديث برضا. أما إيرن، فهز رأسه ساخرًا. “لكن، هل صحيح أن الكاهن يستدعي الثعابين؟” تذكّرت جوديث فجأة شهادة المحتالين وسألت. “لا يستطيع السيطرة عليها تمامًا، لكنه قادر على تدريبها.” قال الوسيط: “تلك المرة، حين ماتت عصابة المحتالين بسبب لدغات الثعابين؟ على الأرجح، جعل الكاهن الثعابين تتعرف على رائحتهم كمصدر غذاء. حينها، كانت الثعابين ستتبعهم حتى من بعيد.” وبعدما أنهى إيرن شرحه، سألت جوديث بوجه متحير: “هل يعني هذا أن الكاهن موجود الآن في العاصمة؟” “قال إنه لا يعرف مكانه مؤخرًا. غريب أن يعرف عنه شيئًا رغم أنه ظل يهرب ويُلقى القبض عليه مرارًا.” ثم أخرج إيرن ورقة من جيب سترته. “ما هذه؟” “طريقة لكسر الحظر الذهبي.” الأصل المكتوب بخط يد الوسيط كان في حوزة جيلارد. طلب إيرن منه نسخ صفحة منه. “كنت سأعطي هذه الصفحة للشيخ، ولكن…” تنهد إيرن. يبدو أن الشيخ أصبح مزاجيًا مع التقدم في السن، وأصرّ على عدم إعطائها له رغم أنه وعد بنسخها فقط. “دعني أراها.” “اطلب بلطف، أيها الوقح.” “ولماذا أفعل ذلك، وأنتم أصلاً تأخذون الأشياء بالقوة؟” “سأذهب وأُخبر زوجتك.” “هل تعتقد أنني من ذلك النوع الذي يرتجف عندما تُذكر زوجتي؟ مضحك جدًا.” هدّد جيلارد بالكشف عن تصرفات إيرن أمام جوديث، وكأن اسمها تعويذة سحرية. ويا لسخرية القدر، كان تهديده مجديًا بالفعل. “دعني أراها ولو مرة، أيها القائد.” “يا لك من تابع مخلص لزوجتك… هذا أفضل لك.” تمتم إيرن بأسنانه، وجيلارد لم يُخفِ ملامح الرضا على وجهه، فقد حصل على معلومة ثمينة. “لكن، لماذا يكرهك القائد إلى هذا الحد؟” “أعتقد لأنه يشعر بالغيرة من تميّزي.” “…ماذا؟” “في أول يوم لي في الفرقة الأولى، طلب مني أن أبارز نائب القائد.” قاتل إيرن بكل ما لديه… وانتصر بسهولة. “وماذا بعد؟” “قال لي بعدها: ’التالي‘.” ومن سيكون التالي بعد نائب القائد؟ بالطبع القائد نفسه. رغم أن المبارزات كانت تحدث أحيانًا بين الفرسان دون ترتيب، كان من المتعارف عليه أن يطلب الأصغر رتبة تعليمًا باحترام. أما إيرن، فلم يقل سوى كلمة واحدة: “التالي”. كم من الشرر لابد أنه اشتعل في عيني القائد المخضرم حينها؟ فهمت جوديث مشاعر جيلارد، لكنها تظاهرت بعدم الفهم أمام إيرن. “حدث هذا قبل سنوات… ومع ذلك لا زال يضمر لي الضغينة.” مرّر إيرن يده بشراسة في شعره من شدة التوتر. “على أية حال، الوسيط الأرجواني يفكر.” “كيف ذلك؟” “أبرمت صفقة معه بشرط أن يُعلّمني طريقة كسر الحظر، وها هو قد أوفى بوعده.” بدت الطريقة معقدة للغاية. “لا يمكن تنفيذها إلا بواسطة وسيط متمرس له باع طويل في التدريب الروحي.” فمن دون قوة روحية هائلة ومعرفة عميقة، من المستحيل كسر الحظر الذي وضعه الوسيط. كان الوسيط يريد قتل الكاهن، لكنه لم يكن مستعدًا للتعاون التام مع الإمبراطورية، التي يعتبرها عدوًا له. ولهذا، وضع هذا الشرط، لأنه يعلم أن حتى لو أفشى الطريقة، فلن يستطيع أحد منهم الاستفادة منها فعليًا. “لكن بالنسبة لنا…” “لدينا العرّابة.” صحيح، الإمبراطورة الحالية تنتمي لعشيرة شارتين، لكنها ليست وسيطة. تملك قوى نفسية، لكنها تفتقر للعلم والدراسة. أما إيرن، فلديه العرّابة، وهي أعلم من أي أحد بسحر شارتين. فبعض الأشخاص لا يملكون العلم الكافي لكنهم يتمتعون بقوة روحية وفيرة، كما أن إلور درست السحر لسنوات طويلة. والأهم، أن هؤلاء لا علاقة لهم بجماعة الأتباع. قد تسعى العائلة الملكية الآن لاستقطاب وسطاء أقوياء، لكن من المستبعد أن تجد من هو أكثر ثقة من العرّابة. “لكن، ألن نضطر إلى التعاون مع العائلة الملكية في النهاية؟” “كلما عرفنا أكثر، كان أفضل. حتى إن عملنا معهم في التحقيق.” كان إيرن واثقًا أنه إن تم القبض على أحد الأتباع الذين وُضع عليهم الحظر، فإنهم سيكونون أول من ينتزع منه المعلومات المهمة. — كان المنزل مكوّنًا من طابقين، لا يمكن اعتباره قصرًا، لكنه ليس صغيرًا أيضًا. واجهته المغطاة باللبلاب بدت باهتة وقديمة بعض الشيء. أما من الداخل، فالوضع كان أفضل. الردهة لم تكن فاخرة، لكنها نظيفة بشكل مثالي. لكن غرفة الطعام الرحبة التي يليها الردهة، كانت تذكّر ببيت تاجر ثري. “الكأس فارغ، تيا.” في منتصف الطاولة الرخامية، هزّ فتى لم يبلغ سن الرشد كأس النبيذ في يده. بنيته صغيرة، بشرته بلون النحاس، وعيناه الصفراء الزاهية تتوهج بشكل غير طبيعي. عينا أفعى، فك حاد، ملامح شابة، وتصرفات شخص راشد… كان أشبه برجل بالغ في هيئة فتى. “…” وحين تلألأت عيناه الضيقة ببريق حاد يشبه سمّ الأفعى، تقدّمت الفتاة المسماة تيا وملأت كأسه. كانت الفتاة في مثل سنه تقريبًا، أو تكبره بعامين على الأكثر، وقد عضّت شفتها من قسوة الإهانة. وبالحكم على هيئتها ونظرات الآخرين، لم تكن تيا من النوع الذي يُطلب منه تقديم المشروبات. “لم أفهم. إذا كنتِ موجودة، فلم لا تأكلين أو تنتظرين في غرفة الضيوف؟ لماذا تُشعرين الآخرين بالانزعاج؟” رغم نبرته الساخطة، قطع شريحة الستيك أمامه بهدوء. “إن لم تكوني تنوين الأكل، فتناولي شرابًا إذًا. تيا، ما بالكِ؟ لماذا لا تصبّين لي الشراب؟” رمق الفتى الشيوخ الخمسة الجالسين على جانبيه. ارتجفت يد تيا وهي تحمل زجاجة النبيذ، وكرامتها مجروحة. أحد الشيوخ لم يحتمل المشهد، فأعلن رفضه: “لا نريد مزيدًا من الشراب.” “لا أريد أن آكل، ولا أن أشرب، أنا أشعر بالملل. حسنًا، قولوا ما تريدون قوله.” رمى الفتى السكين والشوكة أمامه بانزعاج. “علينا أن نمسك بإيرن راينلاند.” “هل نعيد الكلام من جديد؟ لا، فقط لدي فضول… هل هناك أحد منكم يستطيع هزيمة إيرن؟” ︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶ ⵌ90 “يا جماعة، هل من بينكم من يستطيع القتال مع إيرن والفوز عليه؟” ارتشف الفتى رشفة من النبيذ. “لقد مات قبل أن يخوض قتالًا واحدًا، فهل سيُقتل الناس هنا بضربة واحدة فقط؟” لوح في صوته أثر من القلق. “لكن إيرن راينلاند هو الأهم في خططنا…” طرق الطاولة بعنف. “لقد شرحت لكم مرارًا وتكرارًا أن خططنا تغيرت. سأضمن لكم حياة كريمة وطعامًا جيدًا، فقط استمعوا لي.” — “أيها الكاهن، لقد فهمت ما قلت.” انتهى العشاء المُثقَل بالحديث المزعج للكبار قبل أوانه. فسد شهية الفتى بسبب ثرثرة كبار السن. دخل الفتى إلى المكتب، وعبر عن غضبه برمي فنجان الشاي الهش. “الكبار لم يستمعوا لي، فاستبدلتهم بشباب، لكنهم مثل بعضهم البعض. هل أستبدلهم بأصغر سنًا؟” تعمقت هموم الفتى وزادت حيرته. “أخبرني.” الرجل، الذي كان يراقب الفتى وهو يكسر فنجانين ثمينين واحدًا تلو الآخر بجدية، خفض رأسه بسرعة. “صانعة ومستثمرة مستحضرات التجميل ودواء المفاصل هي جوديث هارينغتون.” “جوديث هارينغتون؟ من أين سمعت هذا الاسم؟” “هي زوجة إيرن راينلاند.” “آه.” غمض الفتى عينيه ضاغطًا عليهما، ثم فتحهما واستلقى على الكرسي الناعم. “لا يمكن أن يكونوا قد سربوا الوصفة لغيرهم أو للفارس، ومن المستبعد أن يطوروا العلاج بأنفسهم.” طرق الطاولة بعصبية. “إذا نظرنا إلى توقيت إطلاق العلاج الذي تزامن مع توقيت القبض على الرجال، فيبدو أنهم كانوا يصنعون العلاج مسبقًا. هذا رخيص نوعًا ما.” “أعتقد أنني طُعنت في الظهر.” “كان ذيلها طويلًا، لذا كنت أعلم أنه سيُداس يومًا ما،” تمتم الفتى. “لكن كيف وصل الأمر إلى أن إيرن راينلاند داس على ذيلك؟” كان هذا نقطة مثيرة للاهتمام. ارتسم على شفتي الفتى، الذي كان غاضبًا قبل لحظات، ابتسامة من الفضول. “يبدو أنه قدرنا، فنحن نُتشابك دائمًا.” “كما قال الشيوخ إذًا.” “لا، لا.” لوّح الفتى بيده. “أهم شيء بالنسبة لنا هو أن نأكل جيدًا ونعيش بكرامة. ليس متأخرًا أن نبدأ العمل بعد ذلك.” مع أن التلميح كان أنه سينقض على إيرن يومًا ما، إلا أن الجميع حوله كانوا يعلمون أنه لا يهتم به. “حسنًا، لا يمكنني أن أبقى مكتوف الأيدي بينما نحن عالقون في هذه العلاقة السيئة. يا للعار، ما زال لديهم بعض العصير الطازج.” كان هناك أيضًا مدينة كبيرة في الشمال. لو لم يُقبض عليهم، كان بإمكانهم جني أرباح ضخمة هناك. ظل الفتى يفتح ويغلق قبضته كأن النقود الذهبية التي يحملها تفلت من بين أصابعه. “آه، كم بذلت من جهد في صنع تلك الكريمات الغذائية ودواء التهاب المفاصل. ألا تعلم أنه حينما تذرف دموعًا في عيون الآخرين، تذرف عيناي دماءً؟” “نعم؟” “إذا قطعت مال غيرك، فسيُقطع مالك أيضًا. سأخبر إيرن راينلاند بذلك الآن. اشترِ واحدًا من تلك الأشياء وأحضره لي.” “عن ماذا تتحدث؟” “عن شمعة العطر التي تصنعها وتبيعها السيدة راينلاند.” — توقف البحث عن المجموعة الرئيسية من الأتباع مؤقتًا، إذ تعرقلت خطط كاين بسبب وفاة المنتحل. لكن الأمر لم يكن بلا دخل. “هناك شيء مشترك في أقوال الوسطاء في روام والريش الأرجواني، وهو المال. يبدو أن الفتى الكاهن مغرور بالمال.” سيظل الفتى يتحرك من أجل المال، لكن ليس بطريقة شرعية تحت الشمس. تخمين كاين كان أنه لو تمكن من تتبع المعاملات المالية السرية في الخفاء، فسيمسك بذيل الفتى. “علينا خلق بيئة تسمح للناس بالتصرف بحرية وأمان.” لذا، توقف إيرن، الفرسان الأوائل، وقوات الأمن عن ملاحقة الأتباع. بدلاً من ذلك، بدأ كاين في تجنيد بعض التجار الموثوقين في الأحياء الخلفية كمخبرين. ظل جيلارد يحقق في الوسيط ذو الريش الأرجواني، وإيرن، “لا تزعجني واذهب للعب. هذا كله لتخفيف عبئك.” كانت الإسطبلات تخضع للصيانة. لم يكن الأمر هينًا لوقف ملاحقة الأتباع مؤقتًا. كان هناك الكثير لإصلاحه في القصر. اختار إيرن ما هو أكثر إلحاحًا، الإسطبلات. كان من الصعب على حصان واحد حمل الإمدادات اللامتناهية من البخور والعلاجات. بدأ الحصان يتجنب العربة بعد مرة واحدة فقط. كان الحصان الذكي يسحب العربة مرة واحدة يوميًا، ومن المرة الثانية يتجنب الحصان العربة. مهما كانت سرعة إيرن، كيف يمكن لإنسان أن يغلب حصانًا؟ في النهاية، قرر إيرن، الذي كان يسحب العربة مع هنري، شراء حيوان جر سواء كان حصانًا أو ثورًا لسحبها. “عن ماذا تتحدث؟ ألا تسمعني؟” لوّح إيرن بيده نحو غولد، الذي لم يأت عندما نُودي عليه أثناء سحب العربة، لكنه جاء الآن واحتك بجانبه بعد إصلاح الإسطبل. “اشترِ حصانًا أبيض.” “لا، حصان أسود، حصان أسود.” “ذلك يبدو جميلًا، لكني أفضّل حمارًا لأن عليّ سحب عربة.” لوّح إيرن نحو ثلاثة أطفال جالسين يشاهدونه. “اذهبوا أنتم أيضًا إلى هناك.” لماذا لا يساعد أحد في إصلاح الإسطبل، والجميع جالسون يراقبون ويثرثرون؟ “كم كان عمرك عندما بدأت الركوب، سيدي إيرن؟” “…حسنًا، عشر سنوات؟” لم يخاف الأطفال من عبوس إيرن، بل بدأوا يطرحون عليه الأسئلة. “أنا أيضًا عمري عشر سنوات. هل يمكنني ركوب الحصان أيضًا؟” “آسف، لكني كنت أطول منك رأسًا حينها.” “تششه.” عبّس ميلو. “إذا أصبح طولي رأسًا أطول منك، هل تعلمني ركوب الحصان؟” فاديم كان فتى لا يضيع فرصة. تنهد إيرن عميقًا وهو يطرق، بالطبع كان سيرفض. لديه الكثير ليفعله، وليس الوقت لتعليم الأطفال ركوب الخيل. لكن عندما التفت ورأى عيونهم المتلألئة المليئة بالتوقعات، لم يستطع الرفض. “…حسنًا، انظروا.” كانت وعدًا غامضًا، لكن الأطفال أحبوه جميعًا. تذكر إيرن فجأة أول مرة ركب فيها حصانًا. عاد إليه الشعور بالفرح عندما وقف على ظهر الحصان. كانت طفولة مظلمة، لكنه كان لديه مثل تلك اللحظات. لحظات تمنى فيها لو رأت أمه إنجازاته. أوقات فخر فيها بنفسه دون أن يقول شيئًا. لم تكن كثيرة، لكنها كانت موجودة. لابد أن تكون هناك المزيد لهؤلاء الأطفال. رأى إيرن جوديث تنظر أحيانًا إلى الأطفال بنظرة وحيدة. هل شعرت بشيء مشابه؟ نظر إيرن بلا وعي نحو القصر. بالطبع لم تكن جوديث ظاهرة داخله، لكنه كان يعرف ما تفعل حتى دون النظر. مستعدة للمضي قدمًا. هذا ما تفعله جوديث دائمًا. — “سيد بييتشي، العلاج قد نفد.” “لا تقل ذلك، الأرجل الضعيفة جيدة. فقط لم نعد بحاجة إليها.” “إذاً الدواء قد فقد فعاليته.” جوديث وبييتشي جربا المال كعلاج. لكن مع اقتراب مستحضرات التجميل ودواء التهاب المفاصل من العلاج الكامل، تراجعت مبيعاته بشدة. من المحتمل ألا يُباع كثيرًا مستقبلًا. “عندما نظرت إلى وجه السير هنري، لاحظت أن الندبة ما زالت ظاهرة قليلًا.” كان من المفترض أن يكون علاجًا، لكنه دواء قوي يجب أخذه أو وضعه. الاستمرار في تناول دواء قوي لإزالة الندبة المتبقية قد يصبح سامًا. “وغالبًا ما يشعر بالسخونة في وجهه. ألا يعاني الآخرون من أعراض مماثلة؟” “ذلك سيحدث.” “ماذا لو جعلنا المرهم أخف؟ حتى يمكن وضعه يوميًا بدون مشاكل.” كانت قد اشترت الكثير من فاكهة التنين والصبار لصنع العلاج. لم تكن جوديث تنوي تركه في المخزون. “اسمه كريم الترطيب والتهدئة.” “…بما أنك سمّيته، أعتقد أنني سأصنعه.” لم يكن أمامها خيار. “سيد بييتشي، كان يجب أن تكسب أكثر وأنت شاب.” “الشيخوخة مريحة!” تحت هتاف جوديث، بدأ بييتشي يرد كأنه مبرمج عقليًا. “في الواقع، لدي نسخة أخف من دواء التهاب المفاصل. قال زبائني إنها فعالة في الماضي.” خلال تطوير علاج يحتوي على التنين والصبار هذه المرة، طور بييتشي دواء جديدًا للمفاصل. “كما هو متوقع، سيد بييتشي يعرف كيف يصنع المال.” مع أن ذلك لم يكن هدفه، عرض بييتيشي الدواء الذي صنعه على جوديث. كان مرهمًا كثيفًا لكنه يمتص بسرعة وليس لزجًا عند وضعه. شمّت جوديث. كان هناك رائحة عشبية خفيفة. “لنخلط بعض النعناع هنا.” “نعناع؟” “نعم، أعتقد أنه سيكون أفضل لو كانت رائحته أكثر دوائية.” لا تعرف إن كان بإمكانهم تسميته “باس”، هزّت جوديث كتفيها. “هل نبيع البخور معًا في مجموعة؟” “ماذا؟” “يعلنون أنه إذا أشعلت شمعة ذات رائحة صحية أثناء استخدام كريم الترطيب، فإن التأثير يتضاعف.” “هذا كذب…” أغلق بييتيشي فمه عند نظرة جوديث التي أرسلت ضغطًا صامتًا كأنها تقول: “لماذا يفعل من يعرف هذا شيئًا كهذا؟” سعلت جوديث بصوت عالٍ. في حياة سابقة، كانت ستُعاقب إداريًا على الدعاية المبالغ فيها، لكن هنا… على أي حال، في اللحظة التي كانت جوديث تدفع فيها منتجها الجديد إلى الأمام، كانت الأخبار السارة تقترب بسرعة.
الأمام، كانت الأخبار السارة تقترب بسرعة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 17 - من الفصل المئة والحادي والستون إلى المئة والتسعة والستون «النهاية». 2025-09-05
- 16 - من الفصل المئة والحادي والخمسون إلى المئة والستون. 2025-09-05
- 15 - من الفصل المئة والحادي والأربعون إلى المئة والخمسون. 2025-09-05
- 14 - الفصل المئة والحادي والثلاثون إلى المئة والأربعون 2025-09-05
- 13 - الفصل المئة والحادي والعشرون إلى المئة والثلاثون. 2025-09-05
- 12 - من الفصل المئة والحادي عشر إلى المئة والعشرون. 2025-09-05
- 11 - من الفصل المئة والحادي إلى المئة والعاشر. 2025-09-05
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-08-23
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-08-23
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-08-23
- 7 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-08-23
- 6 2025-08-23
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-08-23
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-08-23
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-08-23
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-23
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-22
التعليقات لهذا الفصل " 9"