لم يُجدِ نفعًا أن يطمئنني كلٌّ من إيرن وكاين بعدم التوتر.
بلعت ريقي بتوتر وتقدّمت إلى غرفة الاستقبال.
كانت الغرفة أكثر بساطة مما تخيّلت.
لا أقصد أنها تفتقر إلى الذوق أو الرقي، لكنها كانت أقل بهرجة بكثير من واجهة القصر المتألقة.
لقد عكست البساطة والنظام شخصية الإمبراطور بوضوح.
كان الإمبراطور جالسًا بالفعل عند طاولة الاستقبال، ينتظرنا.
وبالنظر إلى كومة المستندات أمامه، بدا منشغلاً بأعماله أثناء ترقبه لقدومنا.
“أحيي شمس الإمبراطورية الثمينة.”
وضع كاين يده على بطنه وانحنى باحترام.
هل هذه إحدى قواعد البلاط الإمبراطوري؟
نظرتُ نحو إيرن بطرف عيني، فوجدته ينحني بدوره انحناءة خفيفة.
أما جوديث، فقد كانت تجهل ما تفعل تمامًا، فاتّبعت ما فعله كاين تقليدًا.
“اجلسوا جميعًا.”
كما هو متوقّع من بطل روام، كان صوته دافئًا وعذبًا.
جلست باستقامة لا إراديًا وتجمّدت.
لم يكن ينظر إلى كاين أو إيرن، بل إليّ أنا.
وسيم.
أصابني الارتباك، وما لبث أن تبعه الذهول، ثم الانبهار.
كان وسيمًا بشكل يفوق التصوّر.
شعر حالك السواد، وعينان حمراوان تشعّان بالغموض، وملامح وجه متناسقة ونقية.
لم أتمكن من إزاحة نظري عنه.
نعم، بوجه كهذا، حتى لو أتى ليقتل أحدهم، فسيقع ذلك الشخص في غرامه قبل أن ينفذ فعلته.
أجل، هذا منطقي.
“كونتيسة راينلاند.”
“…”
“كونتيسة راينلاند؟”
“احمم.”
حتى بعد أن ناداني مرتين، ومع سعال خافت من مساعده الواقف إلى جانبه، بقيت أحدق فيه كالمصعوقة.
“جلالتك، أظن أن الكونتيسة متوترة بعض الشيء، كونها تزور القصر للمرة الأولى.”
قال كاين ذلك بنبرة دفاعية حنونة، لكنها لم تصلني تمامًا.
أما إيرن، فلم يستطع كبح ضحكته وهو يراقبني غارقة في شرودي.
مدّ يده ومسح بإصبعه طرف فمي، فاستفقت على وقع لمسته، وحدّقت فيه بدهشة.
“إنك تسيلين لعابًا، آنسة هارينغتون.
هل تنوين الترويل أمام جلالته؟”
كان إيرن مصدومًا.
نعم، لقد اعترف بجمال الإمبراطور الطاغي.
حتى حينما كان الابن غير الشرعي لأحد النبلاء ومحبوسًا في قصر راينلاند لتعلّمه المبارزة، كان يسمع الشائعات عن وسامة الإمبراطور الحالي.
لكن أن تتجمّدي أمامه وتحدقي به هكذا؟
هذا ما لم يتوقّعه إطلاقًا.
لم يكن غاضبًا، بل مرتبكًا.
ظن أن جوديث طوّرت مناعة ضد الوسامة بعد أن رأت وجهه يوميًا.
لكن أن تتأثّر بهذا الشكل أمام الإمبراطور؟
أمر يثير الحيرة.
هل زال تأثير “البخار الرطب” بالفعل؟
فهي كانت تحدّق بمساعد الإمبراطور قبل قليل بنظرات متأمّلة.
نحن ننام كل ليلة متشابكي الأيدي، فمتى سينقشع هذا الضباب العاطفي؟
ورغم أن ذلك قد يُعزى لهذا “البخار”، إلا أن الأمر لم يخلُ من الاستفزاز.
فقد ضاقت عينا جوديث بانزعاج واضح من لمسته.
“توقّف.”
همست جوديث وهي تمسك بمعصمه.
“إذًا توقفي عن الترويل.”
“متى روّلت؟”
“كنتِ على وشك أن تسلي لعابًا.
على الرحب والسعة.”
حرّك إيرن معصمه قليلًا وأمسك بمعصمها بسلاسة، دون أن تقوى على منعه.
همست جوديث تطلب منه أن يترك يدها، فأجاب بهدوء: “يبدو أنكِ تملكين حق الإمساك بي كما تشائين، أما أنا فلا؟”
“…”
كان الإمبراطور يراقبهما بدهشة، مزيج من الفضول والاستغراب يملأ عينيه.
“هل هذا هو إيرن راينلاند الذي أراه أمامي الآن؟”
سأل بصوت خافت، بالكاد يسمعه مساعده.
إيرن، ذلك الفارس الصلب، يتجادل الآن مع امرأة حول من أمسك بيد من؟
كلما نظر إليه، ازداد ذهوله.
“نعم، إنه هو.”
أجاب المساعد بعد أن انحنى قليلًا وهمس في أذنه.
“حتى الصراصير تجد شريكًا، وكذلك الكلاب الهائجة.”
“أنا أسمع كل شيء.”
قاطع إيرن العبارة قبل أن تكتمل، لكن المعنى وصل بوضوح.
أفلت معصم جوديث ونظر إلى الإمبراطور ومساعده.
أما جوديث، فانحنت برأسها وقد تملكها الخجل.
“سمعت أن زواجكما سياسي، لكن يبدو أن بينكما انسجامًا لا بأس به.
هذا مريح.
كنت أفكر في التدخّل لتسريع طلاقكما.”
ورغم أن الموقف بدا مسليًا، إلا أن الحزازات القديمة لم تُنسَ.
فالإمبراطور لا يزال يتذكر إيرن، الفتى الذي كان يتعقّبه ويفسد عليه لقاءاته الغرامية.
حتى لو أنقذ الإمبراطورة والأمير لاحقًا، فإن كراهيته السابقة له لم تكن بالهيّنة.
حبّي تحطّم، وأنتَ تعيش أجمل لحظات الرومانسية؟
أراد فقط أن يُخرج شيئًا من غيظه المكبوت.
“كونتيسة، إن رغبتِ يومًا في الطلاق، تعالي إليّ. سأهتم بأمر طلاقك، بل وسأحرص على تزويجك مجددًا.”
كادت جوديث أن تشكره على عرضه، لكن إيرن سبقها بتعليق ساخر:
“هذا عرض لا داعي له.
الآنسة هارينغتون تشبثت بساقي، تتوسل ألا أطلّقها.”
“أنا؟ متى؟”
لم تتشبث بساقه يومًا. كل ما قالته أنها تودّ قضاء الليلة معه.
شعرت بظلم طفيف، لكنها بالنهاية كانت من رفضت الطلاق، فصمتت.
“حقًا؟”
سأل الإمبراطور بدهشة، وأومأت جوديث بصمت.
“كم عدد الرجال الجيدين في هذا العالم؟”
هزّ الإمبراطور رأسه مستنكرًا، وكأنه يلومها على ذوقها السيئ في اختيار الرجال.
“لمَ استدعيتني إذًا؟”
سأل إيرن محاولًا إعادة الحديث إلى مساره الطبيعي.
“هذا سلوك غير لائق، يا سير إيرن.”
تنهّد المساعد مستاءً، لكن إيرن لم يعره اهتمامًا يُذكر.
“استدعيتك لأُهنّئك على إنجازك.
بفضلك، تمكّنا من القبض على عصابة روام.”
كان الإمبراطور يتحدّث إليه مباشرة، ثم نظر نحو جوديث.
“الفضل يعود إلى الكونتيسة راينلاند.”
“…أنا من قبض على روام.”
“لكنني علمت أن زوجتك هي من اكتشفت مخبأه. لقد كانت مساهمتها جوهرية، وستنال مكافأتها.”
“شكرًا لجلالتك.”
لا بد أنها مكافأة مالية.
فكّرت جوديث بحماسة، ثم نهضت وانحنت احترامًا.
لوّح الإمبراطور بيده مهدئًا.
“وسير إيرن،”
قال متابعًا، بنبرة تحمل ما بين سطورها عبارة محذوفة، ربما:
“ولأنك تملك كبدًا من فولاذ.”
“إداريًا، ما زلت تُعدّ ميتًا؟”
“نعم، قالوا إن إعادة التوثيق أمر معقّد وطويل، فتركوها معلّقة.”
أجاب كاين بدلًا عنه.
“سأُعيدك رسميًا للحياة قريبًا.
سأمنحك رتبة الفروسية مجددًا، ومكانًا في صفوف الفرسان.
هل لديك وحدة تفضّل الانضمام إليها؟”
عندها، تدخّل المساعد فجأة.
“قادة الوحدات لن يرحّبوا بذلك، جلالتك.”
فقد سبق لقائدي الفوج الأول والثاني أن استعانا بإيرن ثم تخلّصا منه، بينما قائد الفوج الثالث كان زميله القديم.
وإن عاد الآن مع كل تلك الإنجازات، فستعمّ الفوضى.
“لو كانوا أهلًا للترحيب، لكان الأجدر بهم أن يُمسكوا بالخائن بأنفسهم.”
وبما أن الإمبراطور لم يكن ينوي الاحتفاظ به أصلًا، ظن أن مكانه قد حُسم.
لكن…
“لا أريد.”
قالها إيرن بنبرة باردة.
“ماذا؟”
أمال الإمبراطور رأسه باستغراب.
“هل ترغب إذًا بمنصب قائد الفرسان؟”
“كلا.
لن أعود إلى سلك الفرسان الإمبراطوري.”
“لكن لماذا؟”
الانضمام إلى الحرس الإمبراطوري يُعد شرفًا بالغًا، لكن إيرن لم يكن من أولئك الطامحين إليه.
“ألست تنوي إعطائي الأوامر؟”
بمعنى آخر: لا رغبة له في العمل.
لم يقرر إيرن بعد ماذا سيفعل.
هل سيطارد أتباع العدو حتى النهاية؟ أم سيترك الأمور تمضي؟ أم…
ببساطة، لم يُحسم قراره بعد.
وحتى لو قرّر ملاحقة الأعداء، لا يرغب بالعودة إلى صفوف الفرسان.
حياة الجماعة لا تناسبه.
في السابق، اعتقد أن ذلك هو الطريق الوحيد أمامه، فسلكه.
لكنه بعد طرده، أدرك كم هو مناقض لطبيعته.
حتى إن أراد الاستمرار في المطاردة، فبإمكانه التعاون مع كاين، كما فعل في قضية روام.
“يعني أنك لا تنوي العمل إطلاقًا؟”
“نعم.”
كان رده وقحًا نوعًا ما.
رجل ناضج بكامل قواه، يرفض العمل؟ رغم براعته في المبارزة؟ ما السبب بحق السماء؟
في غرفة الاستقبال، كان الجميع – عدا إيرن – يفكرون بالشيء نفسه.
“سمعت أنك لا تملك أي إرث من ماركيز راينلاند. فكيف تنوي العيش؟”
سأل الإمبراطور بفضول صادق.
حتى أكثر الرجال موهبة يحتاجون إلى المال.
صحيح أن لإيرن معاشًا تقاعديًا من الفرسان لم يستلمه بعد، لكنه لا يكفي لمعيشة طويلة الأمد.
“الآنسة هارينغتون وعدت بإعالتي.”
التعليقات لهذا الفصل " 74"