من هو مركيز موسلي؟ وهل بمقدوره أن يضمنني؟
رغم أن الفضول كان ينهشني، إلا أنني تظاهرت بالود وغادرت مركز الشرطة.
طوال الطريق، كنت أنقّب في ذاكرتي بحثًا عن اسم مركيز موسلي، ولكن مهما أجهدت فكري، لم أفلح في استحضار أي ذكر له، وكأنني لم أسمع به قط.
خرجت غارقة في الحيرة، فوجدت هنري ينتظرني أمام مركز الشرطة، يلوّح لي بيده.
“أحسنتِ، سيدتي.
آمل أن كل شيء سار على ما يرام”
“لم يحدث شيء يُذكر.
ولكن، ما الذي حدث بالضبط، سيدي هنري؟”
اقتربت منه وهمست بخفوت:
“مركيز موسلي هو من كفلني.
هل تعرفه؟ وهل يعرفك هو؟ يبدو رجلًا ذا مقام رفيع”
مع أنني لم أكن أعرفه، إلا أنه لا بد أن يكون صاحب نفوذ واسع، إذ استطاع بتوصية واحدة أن يرفع عني شبهة محاولة قتل دون عناء يُذكر.
قال هنري بهدوء: “إنه من خاصّة جلالة الإمبراطور”
أومأت بفهم.
حاولت أن أتذكر إن كان قد ورد ذكره في الرواية الأصلية، لكن ذاكرتي خذلتني.
كم كان عدد الذين أحاطوا بالبطل؟ لم يعلق في ذهني سوى مساعد وصف إيرن ذات مرة بأنه “أحمق متهور”.
تابع هنري موضحًا: “ولا صلة لي بالأمر، بل هو من معارف إيرن”
“اللورد إيرن؟ إذن له علاقة به أيضًا؟”
اتسعت عيناي دهشة.
كان من الغريب أن يمتلك شخص بمزاج إيرن المتقلب أصدقاء، والأغرب أن يكون له معارف يقدمون له هذا النوع من العون السخي.
كانت مفاجأة تفوق صدمتي يوم رأيت كليف يتقيأ دمًا.
صوت مألوف وقاسٍ اخترق أذني من الخلف:
“ما كان الأمر ليستحق عناء إنقاذك”
تشنج جسدي.
التفتُّ لأجد عينيّ إيرن تلتقيان بنظرتي، وهو يمسح وجهه بكفه، وكأنه يحاول طرد انزعاجه.
تنهد قائلًا:
“رغم سوء طبعي، إلا أن سماعك لهذا الكلام يثير غيظي”
رددت بسخرية:
“وما هو طبعك؟ من النوع الذي يعيش خارج حدود القانون؟”
ابتسم إيرن ساخرًا وقال:
“وهل يليق بمن خرجتِ تواً من مركز الشرطة أن تتحدث بهذه الطريقة؟”
ورغم سخريته، بدا عليه الارتباك حين انهار كليف وتقيأ الدم.
كان مترددًا بين اللحاق بكليف المترنح والمحمول إلى خارج القاعة، أو بالبقاء مع جوديث التي كانت تُسحب بيد الشرطة.
سأل بقلق:
“لو اتُهمت بتسميمه، كم سأمكث رهن الاحتجاز؟”
أجابه هنري بجديّة:
“شهر على الأقل، وإن مات كليف، ربما سنة كاملة. هذا إن تمكنت من إثبات براءتك”
وإن لم يستطع، فالعقوبة ستكون الإعدام.
أطرق إيرن رأسه مع تفسير هنري الإضافي، وضغط على أعصابه قائلًا:
“هنري، اذهب إلى مركيز موسلي، وأخبره بوفاة كليف، واطلب منه أن يعتني بزوجته التي عقد قرانه عليها قبيل موته”
تردد هنري قليلًا قبل أن يسأله:
“أتظن أن المركيز سيلبي طلبك؟”
أجابه إيرن بثقة:
“له دين قديم في عنقه، ولن يردني خائبًا”
غادر هنري، بينما شق إيرن طريقه نحو الشرطة، مدفوعًا بإصرار لاجتثاث الحقيقة من كليف، سواء عاش أو مات.
لكن خطوات جوديث المرتجفة ووجهها الشاحب لم يتركا له خيارًا آخر.
وقف أمام مركز الشرطة يترقبها.
وما إن خرجت، رمقته بنظرة ساخرة قائلة:
“بمزاجك ذاك، أتملك معارف؟”
كان سؤالها مزعجًا للغاية.
سألها:
“ماذا حل بالسيد كليف؟”
أجابته:
“نُقل إلى قصره لتلقي العلاج”
عاود سؤاله، بقلق بادٍ:
“أتراه لا يزال حيًا؟”
همست جوديث وكأنها تطمئن نفسها:
“أتمنى ذلك… إنه السبيل الوحيد لنيل التعويض”
راقب إيرن ملامحها، وقال في نفسه: بالنسبة لها، لا بديل عن القانون.
—
كان كليف يتلوى فوق فراشه من الألم. توقف النزيف، غير أن الحمى كانت تفتك بجسده.
“ثبتوا أطرافه!” أمر الطبيب.
هرع أربعة خدم لإحكام قبضتهم عليه.
اقترب الطبيب، بثوبه الأبيض الناصع، ودسّ دواءً بين شفتي كليف المرتعشتين.
“ابتلع هذا، وستنجو”
تدفق السائل في حلقه، وخفت أنينه شيئًا فشيئًا.
“تنفس بعمق”
مسح الخادم العجوز الدم عن فمه بحرص.
بدأ كليف يستعيد وعيه ببطء.
تذكر فجأة.
تلك المرأة…
هل كانت هي من دس السم في شايه؟
همّ بالسؤال عن جوديث، لكن منظره تجمد حين وقع بصره على الطبيب الغريب.
حاول النطق، غير أن صوته كان أجشًا غريبًا.
اقترب الطبيب، يبتسم بلطف زائف وقال:
“ألست تعرفني، سيد كليف؟ التقينا مرارًا”
اتسعت حدقتا كليف رعبًا حين أدرك هوية الرجل.
“نحن دوماً إلى جانبك”
أدار رأسه نحو الخادم العجوز، الذي ابتسم له ابتسامة خبيثة.
شعر كليف بالخيانة تعتصر قلبه.
حاول تحريك أصابعه، لكنه عجز حتى عن طرفها.
رعب أسود اجتاحه حين اكتشف عجزه التام.
تابع الطبيب، ما زال يبتسم:
“كان يجدر بك التواصل معنا قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد”
صرخ كليف محتجًا، لكن صوته خانه.
ربت الطبيب على كتفه مطمئنًا:
“لا تقلق، سنهتم بك جيدًا.
فما زلت نافعًا لنا… لكن عليك أن تعدنا بعدم التفوه بكلمة واحدة”
—
توقفت هجمات القتلة، كما اختفى كليف فجأة.
سأل إيرن بعد أيام من البحث:
“هل عرفتم إلى أين ذهب؟”
أجابه أحدهم:
“يُقال إنه نُقل إلى دار نقاهة”
[أو دار الرعاية، بمعنى مستشفى…]
بعد أن أنقذ جوديث من الشرطة، انطلق إيرن بحثًا عن كليف.
لم يكن اقتحام قصره مهمة صعبة، لكن إيقاظ مريض فاقد للوعي كان مستحيلًا.
حين عاد لاحقًا، كان كليف قد اختفى.
قضى إيرن أيامًا يتنقل حتى اهتدى إلى مكانه الجديد.
تمتمت جوديث بقلق:
“من ذا الذي يهرب من مصحة ليلًا؟”
أومأ إيرن:
“سأتتبعه”
وافقت جوديث وهي ترى الإصرار في عينيه.
ومع توقف القتلة عن الظهور، شعرت بشيء من الطمأنينة، لا سيما بوجود هنري إلى جانبها.
خطط إيرن للانطلاق ما إن يستلم بطاقة هوية مزورة.
استغرق الأمر عشرة أيام بسبب ازدحام الطلبات.
تذمر:
“حتى البطاقات المزورة تحتاج إلى حجز مسبق!”
ورغم امتعاضه، كان هذا التأخير فرصة ثمينة لاستعادة كليف لعافيته.
غير أن المشكلة الحقيقية كانت تكمن في مكان آخر.
ذات مساء، اقترب إيرن من جوديث التي كانت تصنع الشموع وسألها:
“ألا يجدر بك رد الجميل لي؟”
ابتسمت بمكر:
“دعني أخمن…
أنت بحاجة إلى شيء ما؟”
أجاب دون مواربة:
“اشتري لي حصانًا”
رفعت رأسها بدهشة.
تابع شارحًا:
“كليف غادر بعربة، فكيف لي أن ألحق به سيرًا على الأقدام؟”
قهقهت وقالت بسخرية:
“لم أكن ممتنة لك إلى هذا الحد! لماذا لا تستأجر حصانًا؟ سمعت أن هناك من يؤجرها”
ارتسمت على ملامحه غصة، لكنه لم يعلق.
ناولته سلة وقالت:
“احمل هذه”
تمتم معترضًا:
“والآن تُثقلين عليّ بالعمل؟”
ضحكت وقالت:
“سأكافئك بلحم مجفف وزمزمية جديدة”
—
وهكذا، وجد إيرن نفسه يحمل السلة منتظرًا جوديث، يشعر كأنه كلب صغير بانتظار مكافأته.
وفي اللحظة التي همّ فيها بالاقتراب منها، ظهر فجأة شاب طويل القامة، وسيم الطلعة، يناديها:
“آنسة، آنسة، لحظة من فضلكِ”
التعليقات لهذا الفصل " 16"