“لم أشهد في حياتي جثة كهذه”
كان جسده أشبه بقطعة أرضٍ جُرّدت من الماء حتى آخر قطرة، جلده مشققٌ تكسوه جراح دامية متناثرة، كأن الحياة انسحبت منه دفعةً واحدة دون رجعة.
همس الطبيب، وقد بدت على ملامحه أمارات الذعر، بأن الكونت قد وصل إلى هذه الحالة خلال ليلةٍ واحدة فقط.
لم يكن لأحدٍ أن يفسّر ما جرى.
“ما كنت لأتخيل يومًا أن عائلة الكونت بأسرها ستُباد بهذا الشكل”
لم تكن الوفاة تدريجية.
بعد رحيل الكونت، لحقت به الكونتيسة، ثم توالى سقوط أفراد عائلة راينلاند كأحجار دومينو متهالكة.
وفي ذات الوقت، كانت ثروتهم تزداد كما لو كانت تُروى من دمهم.
سيدريك راينلاند، الابن الأكبر ووريث اللقب، لم يكن يحمل من صفات النبلاء سوى الاسم.
ومع ذلك، فكل مشروع يخوضه ينقلب نجاحًا مبهرًا.
“أليس في الأمر ريبة؟ إلى الآن، لم أجد تفسيرًا عقلانيًا واحدًا.
على أي حال، تلك الوفيات الغامضة مهّدت لي الطريق لأغدو كونت إيرن”
كان سيدريك عبدًا للمال، شغفه بالأعمال التجارية مسعورًا، لا يُبدي أسفًا على ميت، ولو كان الميت هو نفسه.
“كان يعانق الوثائق بينما يتقيأ دمًا…
لا، لا أريد استرجاع ذلك المشهد”
لم يكن كليف راغبًا بالدخول إلى القصر يومًا، فقد حفرت صورة الجثة المشوهة وهيئة سيدريك الدامية في ذاكرته بصمتٍ مؤلم.
وحتى إن خلت القاعات من الأشباح، فقد بدا القصر مأهولًا بعشرات الأرواح الهائمة.
“…”
شبح؟
تجمّد وجه كليف رعبًا، حين لمح رجلاً يخرج من قصر الكونت.
اختبأ على الفور خلف حصانه.
لم يُبصر ملامحه جيدًا بسبب غطاء الرأس، لكن طوله وطريقة سيره…
لا، مستحيل أن يكون ذلك الشخص…
لكن النسيم العابر كشف عن فكٍ ناعم، أنف مستقيم، وعينين خضراوين جليدتي النظرات.
“إيرن؟”
ذاك الرجل الذي دسّ له السم ودفنه بيده، يمشي الآن حيًا يُرزق.
“كيف لا يزال حيًا؟”
ذاك الجسد الذي أزهق حياته…
قد عاد.
—
فتحت عينيّ فزعةً حين شعرت بجسدي يندفع للأمام.
يبدو أنني غفوت أثناء ترتيب أدوات الصباغة وبعض الأواني.
وحين أفقت، كان الليل قد أسدل ستاره.
“آه… ظهري”
وفيما كنت أتمطى بكسل، تذكرت فجأة ما حدث نهارًا.
منذ أن شربت الماء الذي قدّمه لي إيرن، وأنا أشعر بشيءٍ غريب، كأنني سُحبت من الواقع.
رغم أنني أنجزت مهامي كاملة، لا أستطيع تذكّر كيف أعددت المعكرونة، أو حتى تناولت العشاء.
“هل السبب أن ليون جذب شعري بعنف سابقًا؟”
أي نوع من لاعبي القمار يملك هذه القوة؟ فروة رأسي لا تزال تؤلمني.
لو التقيت بك ثانيةً، سأقتصّ منك يا ليون هارينغتون.
وبينما كنت أزمّ شفتيّ غيظًا وأرتب أغراضي، سمعت صوت ارتطام عنيف بالجدار.
“ما هذا؟ السيّد إيرن؟”
فتحت الباب بحذر، ممسكةً بوعاء شمع فارغ كدرع بدائي.
“ماذا…؟”
جسد مغطى برداء أسود ارتطم بالحائط، ينزف بغزارة، وبركة من الدم الداكن تتجمّع أسفله.
هل… مات؟
ارتعدت أطرافي، ولولا أنني كنت أتكئ على الباب، لسقطت أرضًا.
وفجأة، حجب عني المشهد ظهر مألوف، وقطرات الدم تقطر من طرف سيف إيرن.
“سيّدي…”
“لا تخرجي”
قالها بهدوء حازم، كأنّه يقرأ خوفي.
“لقد وصل بالفعل”
استدار ناظرًا إليّ، غافلًا عن قاعدة القتال الأولى: ألا تزيح نظرك عن خصمك.
“ما الأمر؟ هل تلاشى مفعول الترياق؟”
“ترياق؟ عن أي ترياق تتحدث؟ أوه!”
قبل أن أستوعب مقصده، اندفعت نحوي شفرة مظلمة.
تصدى لها إيرن بخفة، ثم جذبني إلى الداخل بقوة.
“ابقي هنا”
صدقًا، هذا ما كنت أتمناه.
“شخصٌ آخر دخل من نافذتي أيضًا”
رجلٌ آخر وقف أمام النافذة، يرمقني بنظرات قاتمة.
لمع بريق في عيني إيرن خلف الباب، وسحبني مجددًا نحوه.
“هل لك أعداء؟
لا أظن أن شقيقك هو من استأجرهم”
كان يرقب كل حركة، يتراجع ببطء، يواجه قاتلًا أمامه وآخر خلفي.
أربعة قتلة…
الأمر يتجاوز مجرد انتقام عشوائي.
“انتقام؟ لا علم لي بشيء من هذا”
“فكّري مجددًا… قد يكون هنالك ماضٍ منسي”
ثم دفعني نحو الحائط:
“قفي هنا، وإن اقترب أحدهم، فضربيه بهذا الوعاء”
نظرت إلى الوعاء بيدي.
صلب بما يكفي لصبّ الشمع، لكنه لا يبدو سلاحًا ضد قاتل.
“حتى لو خفتِ، لا تغلقي عينيكِ.
ثبّتي نظرك للأمام، وسترين ما ينبغي ضربه”
هل هذا تدريب بيسبول؟ انظري واضربي؟ لا خيارات كثيرة.
“سيّدي، هناك اثنان أمامنا.
هل بوسعك مواجهتهما وحدك؟”
سألته بخوف.
في الرواية الأصلية، كان إيرن أحد أعظم الفرسان، لكن الواقع؟ رجل مترنّح، يسكر ويتذمر من الطعام، يتقصّى مقتله كأنه أمرٌ عابر، وهنري وحده يتكفّل بكل شيء.
حتى ليون، هرب حالما رأى سيفه، دون قتال حقيقي.
“قضيتَ بالفعل على اثنين؟”
“الوضع يختلف حين أقاتل لأحميكِ”
ثم رمقني بنظرة متفحّصة:
“أليس من المفترض أن تدافعي عن نفسك؟”
شدَدتُ على الوعاء، وفكّرت: لو ضربته به على رأسه الآن… لا فائدة.
“احذري، إنه يرمي شيئًا!”
أدرته سريعًا، رافعةً الوعاء كدرع، فتناثرت هالات سوداء اصطدمت بنصل سيفه.
نحن في موقف حرج.
إن هاجم من اليمين، سيُضرب من اليسار، والعكس.
وفجأة، سحبني بقوة للأمام.
“استريني الآن-“
“لا، لا تتحرك”
ثم استدار بسرعة، يحميني بجسده، فاخترق سيفه قاتلًا أمامنا، وسقط الآخر على الأرض، وسيفٌ مظلم يغرس في كتف إيرن.
“سيّدي!”
صرخت، لكنه لم يتوقف.
مضى للأمام، الدماء تترك أثرًا خلفه.
رغم الجراح، لم يتراجع، حتى حين اخترقت الخناجر ذراعه، ظلّ يضرب.
“آه…”
سقط القاتل الثاني، وإيرن ينتزع الإبر، يمسك شعر خصمه، ويسأل:
“من أرسلك؟”
الآخر همهم بكلمات مبهمة.
“قلتَ إنك سمّمت السلاح؟ لم أسألك هذا! من أرسلك؟”
رغم السم، كان إيرن غاضبًا لأنه لم ينل جوابًا.
هل فقد عقله؟ رأيته يهزّ جثةً هامدة، يهمس:
“لا تمت الآن.
افتح عينيك… افتحهما!”
“……”
“لن تنطق؟ حسنًا، هذا وحده كافٍ لأعرف الهدف”
همس بشيء، ثم لفظ القاتل أنفاسه الأخيرة.
حينها، فقط، التفت إليّ.
“سيّدي، هل أنت بخير؟”
ذراعه تنزف، وسيف يغوص في كتفه.
“لستُ بخير”
“هل يؤلمك كثيرًا؟”
“كان عليّ أن أستجوب الآنسة جوديث هارينغتون عن شرّها قبل أن أُنقذها”
قالها بأسى، وكأنه يندم على إنقاذي.
“غريب، أنقذتُ حياتك، ولا شكر؟”
“لأنك تملك ضميرًا… مرنًا”
قالها بسخرية، وهو يرمي الجثة.
“لا تقولي مرن، بل قولي إنه غير موجود.
هذا أدق”
“ما الذي تقوله؟”
“لا بأس…
كلمة شكر ستكون كافية بالنسبة لي”
التعليقات لهذا الفصل " 12"