My Beloved, Whom I Desire to Kill - 2
“لا أريدُ أَن أموت.”
تَسَللتْ تِلكَ الكلماتُ الباكيةُ، المُشَوهةُ بِالصَّدماتِ و النَّحيبِ، لِتَختَرِقَ قلبها بِحِدةٍ. شيء ما انفجرَ مِن تِلكَ الشَّقوقِ في قلبها، الذي كانت تَظُنُّ أَنهُ قد جَفَّ مُنذُ زَمَنٍ طَويلٍ، خاليًا من أَيِّ مَشاعِرٍ.
“هـ…ههك… “
شقيقها الصغير، الذي لم يَتَجاوز عُمُرَهُ البراءَةَ، كانَ قد أَدركَ ما هوَ الموتُ، في زَمَنٍ كانَ يُفتَرضُ أَن يَكونَ مَعفيًّا من مِثلِ تِلكَ المعرفة. سَقطت دُموعُها على الوِسادَةِ المُرتعِشةِ، ممسَكةً بوسطِها.
ماذا حدثَ لي؟
أَلقت ناتاليا الوسادَةَ جانِبًا و احتَضَنت شقيقها بِقوة.
“أَنا آسِفة… أَنا آسِفةٌ حَقًّا.”
“ناتي، لا أُريدُ أَن أَموت.”
“لن تَموتَ. عِندَما تَشرُقُ الشمسُ، سَأَجِدُ لَنا شَيئًا لِنأكُل. فقط تَحَمل إِلَى ذلكَ الوقت، حسنًا؟ أَعِدُكَ.”
و لكن، على الرَّغمِ من رَغبةِ شقيقها في الحَياة، تَجَمدَ حتّى الموت في تِلكَ اللّيلة نفسها. كانَ الحُزنُ قَصيرًا، و لكِن الشُّعُورَ بِالراحَةِ كانَ طَويلًا.
في نِهايةِ الأَمرِ، كانت المَشاعِرُ الإِنسانيةُ تَرفًا في واجِهةِ الحربِ.
“فَتشوا كُلَّ مَكانٍ! لا تَدعوا حتّى فأرةً تَهربُ! اقتُلوا كُلَّ من يُقاوِمُ!”
في ليلةِ إِكمالِ شَهرٍ على عُزلَتِهم، بَدأَت مَجزَرة أُخرى.
عندما اقتَحمَ جُنودُ “كونستانس” القرية، هَربت ناتاليا و اختَبأَت في الإِسطبل خلفَ أَحَدِ المَنازِل المُجاوِرة.
“أَرجوكُم، أَعفوا عن حياتي، أُرغ!”
اِستَمعت ناتاليا بِعَجزٍ و هيَ تَختَبئُ في كومةِ القشّ، إِلى صراخ العَجُوزِ الطيبَةِ التي كانت قد شارَكتها بَعضَ البطاطِسِ الفاسِدةِ مُنذُ أَيَّامٍ قَليلةٍ، حِينَ قُتِلت.
“أَرجوكِ، أَنقِذيني.”
و كانت يَداها المُرتَعِدتانِ، المُشبَكتانِ في دُعاءٍ، ليسَتا من أَجلِ العَجُوزِ، بَل من أَجلِ حياتها هيَ.
حتّى اللّيالي التي تَبدو لا نِهاية لهَا، لا بُدَّ أَن تَأتِي إِلى نِهايةٍ. و عِندَما أَتَى الفَجرُ و تَبِعَهُ قَصفٌ جَوِّيٌّ آخَرُ، عادَ السُّكُونُ إِلى المَكانِ.
قبيل بُلوغِ الفجرِ، خرَجت ناتاليا من الإِسطبل. كانَ عليها أَن تُفَتشَ منزِلَ العَجوز قبلَ أَن يَصِلَ أَحَدٌ آخرُ. رُبَّما تَكونُ هُناكَ بَقايا بَطاطِسَ فاسِدةٍ في القَبوِ.
جُوعٌ، جُوعٌ شَديدٌ.
كانت الفَتاةُ التي أصبحت جِلدًا على عَظمٍ، تَتَخبطُ في الساحة المُغطاة بِالصقيع، بِأَرجُلِها النحيلة.
لم تَعُد تَمتلِكُ حتّى القُدرةَ على رَسمِ إِشارةِ الصليبِ على نَفسِها و الصلاةِ لِلموتى. و بَينَما كانت تَمُرُّ بِجانِبِ جُثَّةِ العَجوزِ المُلقاةِ على الأَرضِ البارِدةِ، سَمِعت صوتَ مُحَركٍ يَصدُرُ من بَعيدٍ خلفَ المزرعة.
سيارة.
تَجَمدت ناتاليا في مَكانِها عِندَ هذه الإِشارةِ المشؤُومةِ.
يَجِبُ عليَّ الإِختِباء.
تَوقفَت السيارة بَعدَ قَليلٍ، و تَبِعَ صَوتُ أَحذيةٍ و صوتُ رِجالٍ. كانَ دَليلٌ أَسوأُ من ذَلك بكثير.
“فَتشوا عن أَيِّ نَاجٍ أَو مَدنيٍّ ما زَالَ حَيًّا. إِذا وُجِدوا، قوموا بِالقبضِ عَليهم أَحياءً و اجلِبوهُم إِليَّ.”
كانت باللُّغة الميرسية. و في قَلبِ الفتاة من روزيل، لم يَعُد الجَيشُ الميرسي حَليفًا لها.
لم تَكُن لَديها القوة لِرجوعِها إِلى الإِسطَبل، فَفَكّرت ناتاليا سريعًا في خُطة. و تَمَددت فِيح بِحرِ الدَّمِ جانِبَ جُثةِ العَجوزِ.
كراك!.
صوتُ تَحطُّمِ الغِشاءِ الرَّقيق للجليد أَجلَى قَلبها رَعبًا.
ثمَ سَمِعت صوت خُطواتٍ كثيرةٍ تَقتَرِبُ.
سريعًا لَطخت ناتاليا جَسدها الهَزيل و وجههَا الشَّاحِبَ بِدَمِ العَجوزِ الجَافِّ، ثُمَّ أَغمَضَت عينيها.
“إِلَهي، أَرجوكَ اجعَلهُم يُصَدقونَ أَنّني ميتةٌ.”
تَسللَ الدَّمُ البارِدُ من خِلالِ القُماشِ النحيفِ و التَصقَ بِبشَرتِها. و أَخَذت ترتَعِشُ كمَن طُعِنَ بِسكينٍ، حِينَ أَدرَكت أَنَّ دَمها الدافِئَ قد يَنضَمُّ إِلى ذلكَ البَحرِ قَرِيبًا.
“سيكتَشِفونَ أَنني حَيَّةٌ إِن واصَلتُ الارتِعاشَ. أرجوك، أرجوك، توقّف.”
بِقوتِها الأخيرة، أَجبرَتِ الفتاة جسدها المُرتعِش على السُّكون، و حَبَست أَنفاسها. حينَئذٍ، كانَ صوتُ الأحذية أَكثرَ عُلوًّا من دَقاتِ قَلبِها.
اقتَربَ زَوجانِ منَ الأَحذية نَحوها مُباشرةً. و بَعدَ صَوتِ نَقرِ اللسانِ، تَلى صَوتٌ مُمتلِئٌ بِالاشمِئزازِ، يَخترِق الصمت فوقَ رأسِهَا.
“إِصابتان مدنيتان!”
في اللَّحظة التي بدأَ فيها شُعورُ الطُّمأنينة يُسيطرُ عليها، سُمِعت خطوات أَثقلُ قادِمةً من بَعيدٍ. كانت الأَرضُ ترتعِشُ معَ كُل خُطوةٍ، و تَوقفت الأَقدامُ الثقيلةُ جانِبَ رَأسِها.
في الصمتِ المُخيفِ الذي تَبِعَ ذَلك، كانت دَقاتُ قلبِ ناتاليا تَصدُرُ في أُذُنيها كصوتِ قُنبلةٍ موقوتَةٍ.
“هممم…”
شَعرت بِشخصٍ يَميلُ نَحوها بِشدَّةٍ. لامست أنفاس دافِئة بشرتها الباردة، مُشيرةً إِلى أَنهُم يفحِّصونَ وجهها عن قُربٍ.
ظَلت عُيونُهم تَفتِشُ بإِصرارٍ، مما جعلَ من أَنفاسَها المُقيَّدة تُشعِرُها بِزيادةِ ضيقِها.
“هااه…”
عندما لامست يَدٌ غريبةٌ عُنُقها، كادَت أَنْ تَزفِرَ أنفاسها. كانَ صوتُ دقاتِ قلبِها المتسارع يَدُقُّ لا في أُذُنيها فقط، بَل كانَ يُصَمِّمُ طبلاتِ أذُنِها.
“إنها حية.”
سقطت تِلكَ اليدُ التي تَفحصت نبضها، و صُدِرَ حُكمُ إِعدامِها. لو قَتلوها فورًا في مكانها، قد يَعد ذلكَ حَظًّا جيدًا.
“يا إِلَهي، أَرجوكَ، أَمُتني.”
تَحولت صَلاتُها لِطلبِ الخلاصِ إِلى تَوَسُّلٍ لِلموتِ.
“كانت تَتَظاهرُ بِالموتِ بِجانِبِ الجُثة.”
فَجأَةً، رُفِعَ جسدُها الخامِلُ عن الأَرضِ الباردة. اِرتَعدت ناتاليا في دِفءِ إِنسانٍ آخر لِلمرَّةِ الأُولى مُنذُ زَمنٍ طويلٍ.
“فتاةٌ ذَكيَّة، هل يُمكِنُكِ إِخباري بأسمِكِ؟”
عِندما أَدرَكت أَنَّ التَّظاهُرَ بِالموتِ لم يَعُد يُجدي نَفعًا، فَتَحت ناتاليا عَينَيها على سؤَالِ الرجُلِ ذِي البَصيرةِ الحادَّةِ.
“…”
عِندما قابلت عيناه الزرقاوتان الداكِنتَان المُتلألِئتَان تَحتَ حَافَّةِ قُبعته، زَفرت النفسَ الَّذي كانت تَحبِسُهُ. كانَ الرَّجُلُ الَّذي يُمسِكُ بِها ضابطًا شابًّا في الجيش الميرسي.
مُنذُ اللحظةِ التي غَمرا فيها دِفؤُه الغريب، تَوالت الصورُ في ذِهنِها: صورٌ لِنفسِها تُجَرُّ إِلى غُرفةٍ أَو غابَةٍ على يد هذا الجُندي، و سرعان، ما كانت الصور ستصبح حَقيقةً.
“لـ -لا.”
“لا داعي لِلخوف. أنا لن أَقتُلكِ.”
يَأَست ناتاليا أكثر من كلماته التي قالَ فيها أَنهُ لَنْ يَقْتُلَهَا.
“لا، فقط أُقتلني، مِن فضلِك… آه…”
بَدأَت في البُكاءِ بِشدةٍ، تَتَرجى بِالموت، فكرت أَنَّهُ قد يَقتُلُها من شِدةِ الضَّجرِ. لكن لِماذا كانَ هذا الضابِطُ يَبدُو كأَنهُ مُفجَعٌ؟
فطوَّقَ الرجُلُ ناتاليا بِمِعطفهِ الصُّوفي ، رَفعَ جسدها المُرتعش، و أَمرَ سائق السيارة التي في انتِظاره.
“خُذها إلى المُستشفى فَورًا.”
لم يَسحب الرجُلُ ناتاليا إِلى السّرير.
عالجها حتّى و إِن لم تَكُن مُصابةً، و أَطعَمها عِندَما كانت جائِعةً، و كَساها عِندَما كانت عاريةً.
و أَعطاها مَنزِلًا لَمَّا فَقَدت مَنزِلها، و صارَ هوَ أُسرتها الوحيدة عندما فقدت أُسرتها.
هكذا، أنقذ الرجُلُ ناتاليا.
و ثمَ قتلها.
“اِسمُكِ الآن جيزيل بيشوب.”
و هكذا، تَوَفت ناتاليا رودنيك، ابنَةُ فلاحِ روزل، في يَدَي الرجُلِ الذي أَنقذَها.
ملاكي مِنَ الجحيم.
سَيّدي…
بينما كان صوت جَرسِ الكنيسةِ يُعلِنُ عن الصّباحِ ، بدأ وَجهُ الرجُلِ يتَشَوش. عِندما فتحت عينيها بَعدَ انْ استفاقت من نَومِها، بَقيت رُؤيةُ جيزيل ضبابية.
لِماذا حَلُمتُ بِالمرَّةِ الأولى التي لَقيتُهُ فيها؟
مسحت جيزيل دُموعَها بظهر يدها. كانت هذهِ أَولَ خطوةٍ في روتينِها الصَّباحيِّ لِتَحيةِ يَومٍ جَديدٍ.
“إيلينا، استيقظي.”
“مم… خمس دقائق فقط.”
أيقظَت جيزيل إيلينا، النَّاعِسة التي تشارِكُها غُرفَتها في السكن.
“صَباحُ الخيرِ، ماري.”
“صَباحُ الخيرِ، جيزيل.”
بَعدَ أَن غسلت خُمودَها و نُعاسها في الحَمامِ المشترك، عادت إِلى غُرفتِها و ارتدت زيَّها الرسمي.
—
“اللّهُمَّ في السمَاءِ، ارحم أَرواحَهُم المَكلومةَ، و احفَظ جَسدَ و روحَ سيِّدي بِرَحمتِكَ.”
في الكنيسة، قدَّمت جيزيل صَلاتِها لأَجلِ أرواح عائِلتِها و لِسيِّدِها، مُتَمنيةً لَهُ العافيةَ و الطُّمأنينَة.
كانَ هذا طقسَ جيزيل الصَّباحيِّ الذي لا تفارِقهُ، حَيثُ لا تَتخلى عَنهُ قَبلَ أَن تَنغمِسَ في روتينِها اليوميِّ في المدرسة.
هَل سَأَضطرُّ قريبًا لِتوديعِ هذا الطّقس؟
معَ اقتِرابِ التخرُّجِ بَعدَ شَهرٍ، بَدا أَنَّ هذا قدرٌ لا مَفرَّ مِنهُ، و لَكِنها لم تَكُن جازِمةً إِن كانت الصَّباحاتُ التي تَبدأُ بِمسحِ الدُّموعِ سَتَستمِرُّ حتّى بَعدَ تَخرُّجِها.
—
“هاه”
عِندما خَرجت مِنَ الكنيسة، تَنَفست جيزيل بعمق. كانَ هواءُ صَباحِ مايو البارِدِ يُهَدئُ القلقَ الذي كانَ يَغلي في نَفسِها بِهُدوءٍ.
لا، اليوم سَيحمِلُ أَخبارًا سعيدةً. هَيا بنا.
تَمَشت تَحتَ أَشِعةِ الشَّمسِ الدَّافِئةِ، عابِرَةً بينَ المَباني القوطيَّةِ المُتسلِّقةِ بِالإِكسفيا، و أصبحت خُطواتُها أخف بشكل ملحوظ.
“صَباحُ الخَيرِ، جيزيل.”
“صَباحُ الخَيرِ.”
—
كُلما اقترَبَت جيزيل مِن وجهَتها، أمتلأ الطريق بالمزيد من الفَتيات في مثل سِنّها.
كُنَّ جَميعًا يرتدين قمصان بيضاء و تنانير زرقاءِ قَصيرةٍ، و فوقَ ذَلك، كُنَّ يَرتدين ستراتٍ خَضراءَ ، يزينُها شِعار المدرسة الذَهبي على صَدرِهِنَّ.
أَكاديمية فوليرتون.
أَفضَلُ مدرسةٍ خَاصةٍ في المملَكةِ لِلفَتَياتِ ذَواتِ المَراتِبِ العُليا، مِمَّن يَتَراوَحونَ بَينَ النُّبَلاءِ و العائِلاتِ الغَنيةِ مِنَ العامَّةِ. هيَ المكانُ الذي أَمضت فيهِ جيزيل أَربعَ سنينَ مُنذُ أَن تَرَكت رِعايةَ سيّدِها
“جيزيل! هُنا!”
بـمُجردَ دُخولِها قاعةَ الطعام، صدح صَوتُ إيلينا قاطِعًا صَمتَ الضجيج الَّذي عَجَّت فيه القاعة. في تِلكَ اللَّحظة، تَحَوَّلت قاعةُ الطعام، التي امتلأَت بِمئاتِ الطَّلابِ، إِلى صَمتٍ غَريبٍ.
تَجَمعت النظرَات عليها. تَصارَعت جيزيل مَعَ أفكارِها لِتحاول فهم مَعاني تِلكَ النظرَات، و في النّهاية، تَجاهَلتها و أتَجَهت نَحوَ إِيلينا التي كانت جالِسةً فِي وَسَطِ القاعة.
كانت عَيناهَا مركَّزتين على الجريدة التي وَضَعتها صديقتها بـجانِب فَطُورِها. دونَ أن تَمسَّ وجبَتها، التقطت الجريدة أولًا. لم تَجلِس حتّى بَل تَفَحصتِ القائِمة في الصَّفحةِ الرّئيسيّة.
لم يكن في القائِمة سِوَى اسمٍ واحِدٍ كانت جيزيل تَبحَثُ عَنهُ.
إدوين إيكليستون.
رائِد في الجَيش، بطلٌ يتم الإشادة بهِ و دوقٌ مرتبط أرتباطًا وثيقًا بالعائِلةِ المالِكةِ.
و هو…. سيّدي.
و بالنظر ألى رُتبَتِه وشُهرَتهِ، كانَ يَجِبُ أَن يَكونَ اسمُهُ في قمة القائمة.