لأجلِ جولييت الجميلة - 1
إينوك ليتركي يبدأ يومهُ بجدولٍ دقيق.
يَستيقظ قبلَ طلوع الفجر، يتناول وجبةً بسيطةً، ويتلقى التقارير التي تراكمت خلالَ الليل. أخوهُ الأكبر جيناس، إمبراطور ناسانتي،
كان يصف هذه العادة بأنها “الطريق المختصر إلى الموت المبكر”، ولكن إينوك كان يُفضِّل إنهاء عمله بدلاً من تأجيله.
خلال اللحظات التي يُغمض فيها عينيه ويعود لفتحها، قد تحدث أشياء غريبة،
لكنها تبقى تافهة بالمقارنة مع التمرد.
إينوك لم ينسَ كيف قام جيناس بقطع رأس والدهما ليصل إلى العرش منذ أربع سنوات. بالمقارنة مع هذا الطريق الشاق والمليء برائحة الدماء،
كانت الأحداث في إقطاعية إينوك مجرد لعب أطفال.
فكر إينوك، الذي كان الأمير الخامس لناسانتي وأصبح الآن دوق ليتركي،
أن الوضع كان أفضل الآن على الأقل لأنه لا توجد حروب.
رغم أنه لم يكن بعيدًا تمامًا عن السيوف والدم، إلا أن إقطاعيته كانت تنعمُ بالسلام.
بينما كان يُعالج القضايا التي نشأت خلال الليل في ظل هذا الاستقرار، وصل مُستشاروه.
كان هناك هيكل عمل يتألف من اثنين من كبار المستشارين
وعدد من التابعين الذين كانوا يُفضلون الكفاءة على البروتوكولات.
إذا رآهم النبلاء الكبار، كانوا سيُصابون بالصدمة،
لكن إينوك كان يعرف أنهُ بعيدٌ عن الأناقة أو التقاليد.
الأهتمامُ بالآدابِ لم يكن ذا معنى بالنسبة له.
فالإقطاعية كانت تحت سيطرته، ومكتبهُ مِلكٌ له أيضًا،
لذا لم يكن هناك حاجة لتغيير النظام.
المستشاران الاثنان كانا يُحييانه بسرعة ثم ينطلقان في العمل،
وبعدما تأكد إينوك من أن العمل يسير بشكل طبيعي، قام من مقعده.
في هذا الوقت عادةً في الفجر و بالتحديد بعد طلوع الشمس،
كان عليه أن يلتقي بشخصٍ محدد. كانت فتاةً من خدِمِ زوجته جولييت،
وكان دورها أن تُخبره بما يحدث مع زوجته.
كانت جولييت حساسة وغالبًا ما تكون مريضة،
وكان إينوك هو المسؤول عن استدعاء الأطباء أو إدخال الأدوية لها،
لذا كان يتلقى تقريرًا يوميًا عن صحتها كل صباح.
بالطبع، لم تكن جولييت تعلم بذلك.
لو علمت لكانت رفضت مقابلة الطبيب حتى لو أدى ذلك إلى موتها.
كانت جولييت أمراةً ذاتَ عزةٍ و فخرٍ كبيرين،
وكان إينوك قد عرفَ جيدًا خلال السنتين من زواجهما مدى قوة إرادتها،
عبر العديد من التجارب الممزوجة بالغضب والدموع واللوم.
يتم توجيه الأوامر بناءً على حالة جولييت الصحية اليومية، كضبط بعض الأمور البسيطة مثل درجة حرارة المنزل أو حالة الطقس في اليوم فلم يكن يستغرقُ وقتًا طويلًا.
فكان على الخادمة أن تعود إلى مكانها قبل أن تستيقظ جولييت، وكان لدى إينوك الكثير من الأمور لينشغل بها. لم يكن هناك وقت يضيعانه.
بعد ذلك، كانَ كل شيءٍ يتكرر. يتلقى التقارير و يُصدر الأوامر.
كان من حُسنِ حظه أن معظم تابعيه كانوا لا يزالون معتادينَ على الحياةِ العسكرية،
وكانوا ينفذون الأوامر بكفاءةٍ كما كان إينوك معتادًا على إصدارها.
بعد إنهاء الأعمال الصباحية، كان هناك عادةً موعد لتناول الطعام مع تابعيه.
وفي بعض الأحيان، عندما يُرسل جيناس رسولاً، كان يتناول الطعام مع الضيف بمفرده.
في تلك الأوقات، كان يتلقى إينوك غالبًا سؤالين.
الأول، متى ستأتي إلى العاصمة الإمبراطورية؟ والثاني، هل زوجتك لا تزال على حالها؟
و كان إينوك يُكرر نفس الإجابات التي تعود عليها.
الأول، سأذهب إلى العاصمة عندما تنتهي أعماله في الأقطاعية.
الثاني، لا توجد مشكلة مع جولييت و كانت تلك حقيقة.
جولييت كانت طبيعيةً تمامًا. حزنها الشديد،مزاجها المتقلب،
وسلوكها الغريب أحيانًا كانت كلها بسببه.
إينوك كان مؤمناً بذلك و قد أخبرَ جيناس بما يفكر به،
ولكن أخوه كان يسخرُ منه قائلًا إن زوجته لا تستحق المهر الذي دفعوه لأخذها.
حسناً يبدو أن جيناس نسي أنه كان من أجبر إينوك على الزواج منها ودفع المهر.
هذه السخرية من أخيه الأكبر كانت واحدة من الأسباب التي جعلت إينوك لا يستطيع الذهاب إلى العاصمة. إذا ذهب، يجب أن يأخذ جولييت معه،
وكان من المستحيل أن يلتقي الاثنان دون حدوث مشاجرة.
جيناس كان يشكو دائمًا من جولييت، وجولييت كانت تكرهه.
إينوك الذي لم يكن يرغب في إغضاب زوجته التي كانت دائمًا محبطة،
ولم يكن يريد إعطاء أخيه فرصة للانتقاد بقيَّ في إقطاعيته.
لم يكن هناك أيُّ فرصة لتحسن العلاقة بين جولييت وجيناس،
وإينوك كان يعلم أنه لا يستطيع التعامل مع أيٍّ منهما.
بعد إنهاء الطعام، كان لديه بعض الوقت الفارغ.
كان يستخدم هذا الوقت لاختيار الزهور التي يُرسلها إلى الجناح الخاص بجولييت.
كانت الزهور هي الشيء الوحيد الذي كان يمكنه إرساله إلى جناحها.
و هذا لأن الزهور تذبل بسرعة وتختفي دون أثر، وهذا بالضبط ما كانت تلاحظه جولييت.
لهذا السبب، لم يتوقف إينوك عن إرسالها.
كان الأمر منطقيًا بالنسبة له. إينوك كان يعرفُ حدوده.
كان يعلم أن ما يستطيع أن يُعطيه وما تقبل به جولييت هو مساحة ضيقة تشبه الجليد الرقيق الذي قد يذوب في أي لحظة.
ولم يكن بإمكانه أن يتهاون في الحفاظ على هذه المساحة.
بالطبع، لم يكن يمكنه قضاء حياته في العبث بالزهور،
لذا كان يفعل كل ما يستطيع ضمن الوقت المحدد.
بعد اختيار الزهور، كان يكتب رسالة صغيرة ويرسلها مع الزهور إلى جناح جولييت.
حسناً الرسالة كانت دائمًا ما تبقى مطوية دون أن تفتحها و رغم معرفته بذلك،
لم يتوقف إينوك عن كتابة الرسائل يوميًا.
كان يفعل ذلك بنفس السبب الذي يجعله يُرسل الزهور.
بعد إرسال الرسالة، يبدأ عمله بعد الظهر.
كان لديه العديد من الأمور المزعجة في إقطاعيته،
وكان عليه أن يُثبت لجيناس أنه مشغول جدًا ولا يستطيع الذهاب للعاصمة.
بعد أن يكمل عمله ويغادر المستشارون والتابعون إلى منازلهم،
كان يأتي الوقت الذي ينتظره إينوك بفارغ الصبر ولكنه يخشاه في نفس الوقت.
يُغير ملابسه ويذهب إلى قاعة الطعام حيث كانت تُعد دائمًا وجبتان.
كان يجلس أمام الطولة التي تم تجهيز مكان جولييت عليها وينتظر لدقائق قليلة حتى تدخل الفتاة ذات الشعر الأسود والعيون الخضراء الداكنة.
لم تكن تبتسمُ أبدًا، لكن جمالها كان لا يزال موجودًا، رغم أن إينوك كان يفتقد ابتسامتها.
في تلك اللحظات، كانت تتردد في ذهنه كلمات والدته الراحلة،
“يجب أن تكون راضيًا بأي شيء.”
على عكسه، الذي كان يظن أنه لا يستطيع العيش بدونها بسبب اللعنة العائلية التي لا يمكنه الهروب منها، فجولييت لم تكن بحاجة إليه.
إينوك كان يرى أن هذا يعبر تمامًا عن طبيعتها، لكنه كان يشعر بالحزن أحيانًا بسببها.
كان يريد أن يكون نافعًا لها بأي شكلٍ من الأشكال.
لم يكن يجرؤ على أن يأمل أن تحتاج إليه حقًا،
لكن على الأقل كان يتمنى أن يكون وجوده ضروريًا بسبب عدم الراحة التي قد تشعر بها اذا اختفى.
لكن الواقع كان أنه كان يُزعجها فقط.
لم تجلس جولييت أبدًا على الطاولة بوجهٍ سعيد.
أقصى ما كانت تفعله هو إيماءة رأس باهتة ردًا على تحيته الخجولة.
كانت جولييت تميل إلى الصمت أمامه. لكن عينيها وتعبيرات وجهها كانت تكشف عن أفكارها بشكل كامل، لذا لم يكن هناك مشكلة في التواصل.
بعد التحية البسيطة، كان الخدم يبدأون في تقديم الطعام. كان هذا إشارة لبدء الوجبة.
بصراحة، لم يكن للطعام طعم، لكنه كان يعلم أن هذه اللحظات هي الفرصة الوحيدة لرؤية جولييت، لذا كان يأكل بدون شكوى.
لكن جولييت لم تكن مضطرة لذلك.
كانت غالبًا ما تضع أدوات الطعام بغضب أو تكتفي بالتحديق في الطاولة دون أن تأكل شيئًا.
ومع ذلك، لم تكن تقذف الأشياء أو تغادر المكان،
وذلك لأن نشأتها كأميرة كانت تغرس فيها القيم والمبادئ حتى في تصرفاتها اللاواعية.
حتى عند خفض عينيها أو رفع يدها، كانت تجسيداً كاملاً للأناقة.
إينوك كان معجبًا بتلك الأناقة، لكن جيناس كان يسخر منه ويقول إن نظرهُ مختل و يجبُ عليه لقاءُ طبيبٍ جيد في أسرع وقت.
بالطبع، إينوك كان يستمع إلى أخيه فقط عندما يناسبهُ الموضوع، لم يكن رأيهُ مهماً في الواقع.
بمجرد انتهاء العشاء وعدم تبادل كلمةٍ واحدة، انتهى وقت اللقاء الوحيد بين الاثنين.
ثم عادت جولييت إلى جناحها دون النظر إلى الوراء،
وبقي إينوك في المبنى الرئيسي ليتولى الأعمال المتبقية ثم ذهب إلى السرير.
كان ذلك يومًا عاديًا.
* * *
نعم، كان كذلك بالتأكيد.
ولكن ما هذا؟
فكرَ إينوك و هو ينظر إلى المرأة التي تبكي وهي تعانق خصره.
‘ما الذي يحدث بحق؟’ لم يتمكن عقله من معرفة ذلك.
هذا الشعر الأسود الناعم ومؤخرة الرقبة البيضاء الجميلة كلها تنتمي إلى جولييت.
حتى الأذرع التي كانت هشة للغاية بالنسبة لشخص كان يعانقه بمثل هذا الجهد الكبير،
والجسد الذي كان رقيقًا جدًا لدرجة أنه بدا وكأنه سوف ينهار إذا تم لمسه، كان كل شيء لها.
“أحمق…وغد، معتوه.”
لماذا جاءت إليه في الصباح الباكر و قالت هذه الكلمات؟……