“كُهم، يا ليليانا. لَا أظُنُّ أنَّكِ ستتمكّنين خلال ثلاثةِ أيّامٍ فقط مِن إحضارِ ثلاثِ مئةِ ذهب.”
“……ثمّ تقدّم لي مثلَ هذا العرض؟”
“قلتُ لعلَّ وعسى. مَن كان يتوقّع أنْ تُوافقي فورًا عندما قلتِ إنّكِ ستُصفّين قيدَ العائلة؟”
الشخصُ الذي توسّلَ إليّ وألحَّ عليَّ كان هو نفسه.
‘أدركتُ للتوّ أنّ واقعي أشدُّ قذارةً مِن نجاتي مِن وكرِ الشياطين.’
“وبينما كنتُ أفكّر ماذا أفعل، جاءني مَن يُخبرني بعرضٍ ممتاز. قال إنّ هناك مَن سيشتري ابنةَ البارون ووكر البالية المتآكلة بخمسمئةِ ذهب!”
“هل جُننتَ؟”
“قال إنه سيصل بعد يومين. فابقي في المنزل بهدوء حتى يأتي.”
أنهى كلامه ثمّ راح يدندن وهو يرفع زجاجةَ الجِعَة إلى فمه. امتلأت الغرفة برائحةِ الكحولِ الكريهة.
“هاه…”
ما الذي كنتُ أتوقّعه؟
أبٌ يعود إلى صوابه حين يحصل على ثلاثِ مئةِ ذهب؟
حياتي الجديدة بعد فكّ قيد العائلة؟
الذي بات مؤكّدًا الآن… هو أن لا وجود لأي صورةٍ مِن تلك التوقّعات.
تنهّدتُ طويلًا وأنا أحدّق في الفراغ، ثم محوتُ مشاعري. وبعدها التفتُّ إليه ببرود.
“أعتذر، لكن… هذا غيرُ ممكن.”
“ماذا؟”
“على خلاف ما تتوقّعه، لقد ربحتُ ثلاثَ مئةِ ذهب بالفعل.”
تفاجأ قليلًا، ثمّ وضع الزجاجة جانبًا واقترب نحوي.
“كُهم، لستُ أدري كيف ربحتِ المال، لكنّكِ ما زلتِ مِلْكي.”
“حقًا؟”
آه… يا لَقذارته.
أنا التي علّقتُ آمالي بالماضي، وهو الذي تحطّم تمامًا.
“يبدو أنّك لستَ مهتمًا أصلًا بمعرفةِ كيف ربحتُ المال. لو علمتَ، لما بقيتَ بهذا الهدوء.”
“ماذا، هل ذهبْتِ إلى ملهىٍ؟ أم خرجتِ إلى الشوارع تتسوّلين؟”
“لقد أصبحتُ مُعاوِنةً لدوقِ وينسفير. وأخذتُ ثلاثَ مئةِ ذهب كمقدِّم عقد.”
ما إن سمع اسمَ وينسفير حتى ارتعش قليلًا، ثمّ راح يصرخ.
“انسَيْ الأمر! الثلاثُ مئةِ ذهب لا تساوي شيئًا! مَن يريد شراءكِ سيدفع خمسمئة!”
يا للغباء…
حتى لو كان منعزلًا ولا يخرج، كيف يتجرّأ على الحديث هكذا عن عائلةٍ تُسمّى عمودَ الإمبراطورية؟
“حسنًا… فَلْتبِعْني إذًا. لكن عليكَ تسديدُ تسعِ مئةِ ذهب لوينسفير.”
عَلمتُ أن ترديد اسمِ العائلة لن يفيد، لذا شرحتُ له العقدَ بوضوح كي تُصدمه الحقيقة.
وبينما كنتُ أشرح تفاصيلَ العقد، أخذ لونُ وجهه يشحبُ شيئًا فشيئًا.
يا لسخريّة القدر… اسمُ وينسفير، الذي أردتُ الهربَ منه، أصبح درعي الآن.
“لا أدري هل لديكَ هذا المبلغ، لكن… لو استطعتَ، فَلْتبِعْني.”
“…….”
“لو استطعتَ فقط.”
“اللعنة!”
“على الأقلّ، هذا أفضل. لو لَمْ أجلب الثلاثَ مئةِ ذهب، لربما كنتَ الآن تُسحَب إلى المِلّاحة.”
لم يشاهد ابتسامتي المرّة، بل شرع يصرخ غاضبًا ويركل الأرض.
حتى النظر إليه بات مضيعةً لوقتي.
استدرتُ وأخذتُ حاجياتي. كانت قليلةً للغاية.
نظرتُ مرّةً إلى الأمتعة الصغيرة التي تُحمَل بيدٍ واحدة، ومرّةً إلى البيت الذي عشتُ فيه طويلًا، ثمّ إلى أبي الجاثم على الأرض يضربها بقبضته.
وقفتُ أمامه، وتجاهلتُ غصّةً خنقتْ حلقي، وقلت:
“سأتولّى بنفسي ترتيبَ المستندات.”
“ليـ… ليليانا……!”
“هذه هي الثلاثُ مئةِ ذهب التي وعدتُ بها.”
أعطيتُه إيّاها منحنيةً قليلًا، واضعةً في يده الشيكَ المهترئ الذي أخذتُه مِن وينسفير.
“كانت حياةً قذرة… فلا تراني مرةً أخرى.”
وتركتُه يهذي كالمجنون خلفي وأنا أغادر البيت.
عاد المطر يهطل.
قطراتٌ صغيرة تحوّلت سريعًا إلى خيوطٍ كثيفةٍ تنهمر من السماء.
“آه…”
لقد تركتُ المظلّة في وينسفير.
“سأمشي تحت المطر فحسب…”
وضعتُ حقيبتي فوق رأسي وتهيّأتُ للركض، لكن الأمر لم يحدث.
إذ وقف أحدهم في طريقي.
“آنِسة ووكر.”
نبرةٌ رخيمةٌ ناعمة داعبت سمعي.
“……السيد رآون؟”
“بدأ المطر يهطل، وتركْتِ مظلّتَكِ في وينسفير، فخشيتُ أن تتأذي.”
“آه…”
“لم أتبعكِ لأنني لا أثق بكِ.”
يا لليوم البائس… والآن أتلقّى عزاءً من شيطان.
رفع رآون المظلّة فوقي وسأل:
“هل أحضرتِ كلّ أمتعتكِ؟ هل نعود الآن؟”
“آه… عليّ إنهاء هذه الوثائق قبل العودة.”
نظر رآون إلى الأوراق في يدي.
“إن كانت مهمّة، فمن الأفضل إنهاؤها قبل الرجوع.”
لم يسألني أي سؤال إضافي.
وكان واضحًا أن ذلك بدافعِ اللطف.
‘شيطان ولطف… تناقضان، فلماذا أشعر بهذا الهدوء؟’
تجاهلتُ قلبي الهادئ وسألته:
“لقد تأخّر الوقت… هل هذا مقبول؟”
“لا مشكلة. لا تقلقي، آنِسة ووكر.”
“مم… لا يجب أن تناديني آنِسة ووكر بعد الآن.”
“ولماذا؟”
“بمجرّد معالجة هذه الوثائق… سأصبحُ مواطنةً عاديّة بلا لقب.”
حدّق بي رآون باهتمامٍ واضح.
“أتقصدين أنّك تخشين ألّا يسمحوا لمواطنةٍ بسيطة بالعمل كمُعاوِنة؟ عليّ أن أشرح ذلك للسيد بايِل.”
كنتُ أعلم يقينًا أن بايِل ليس له أيّ سلطةٍ عليّ، وأنّ القرار بيد رآون نفسه.
لذا قلتُ ذلك عمدًا.
سألني بجدّيّة:
“هل كنتِ تفكّرين بهذا حقًّا؟”
“بالطبع. أنا الآن مجردُ مواطنةٍ لا تملك شيئًا. ولو لم يكن لديّ منصبُ مُعاوِنة وينسفير، فسأُرمى في الشارع فورًا.”
رمشتُ بخفّة، ففتح عينيه باتساع.
ثم ضحك.
ضحكةٌ عاليةٌ دافئة غطّت على هدير المطر.
“هل يُعقل أن يتّخذ دوقُ وينسفير قرارًا أرعن كهذا؟”
“أخشى الاحتمال فحسب.”
“لا تخافي. ما لم يُمزَّق العقد فلن يحدث شيء. والسيد بايِل لا يملك قوّةً لتمزيقه.”
ثمّ شرح لي مدى قوّة العقد.
قال إنّه لا يتأثّر بالماء ولا النار، ولا يُمزَّق بالمقصّ أو السكين، ولا حتى بالسحرة الكبار في القصر الإمبراطوري.
ما دام الشيطانُ والدوقُ نفسُه يقول هذا… فلا بدّ أنه صحيح.
“على أيّ حال… كيف تريدينني أن أناديكِ من الآن؟”
كان شيطانًا… وهو نفسه الشرير الخفيّ ، ومع ذلك بدا ضحكه كضحكةِ ملاك.
تخلّصتُ من أفكاري، وتنهدت قليلًا ثم قلتُ:
“نادِني… ليليانا فقط.”
توقّف عن الضحك، وفكّر قليلًا.
ثمّ قال:
“ما رأيكِ بـ ‘لِيا’؟ قصيرٌ ولطيف.”
سواءٌ ليليانا أو لِيا… لا فرق لديّ.
إلا أن اسم ‘لِيا’ أعاد لي ذكرياتٍ مُبهمةً مِن حياتي السابقة، فشعرتُ بالغَرابة قليلًا.
“كما تشاء.”
أومأ رآون مقتنعًا.
مشينا معًا حتى التقينا بشيون الذي كان ينتظر غير بعيد، ثم ذهبنا لتصفية قيد العائلة.
لم يعجّلاني، فتمكّنت من إزالة اسمِ ووكر عني دون مشاكل.
خرجتُ وأنا أشعر بخفّةٍ ومرارَةٍ في الوقت نفسه.
السماءُ ما تزال معتمة، والمطرُ يهطل بغزارة.
اقترب رآون في اللحظة المناسبة.
“هل انتهى كل شيء؟”
“نعم… بفضلك.”
“إذًا… أرجو الاعتناء بنا خلال الفترة المقبلة، يا لِيا.”
صار وجوده كدوق أو لا… أمرًا بلا قيمة الآن.
لا أدري لماذا يُخفي عني حقيقةَ منصبه، لكنني سأقضي السنوات الثلاث، ثم أغادر وينسفير… وأغادر القصّة الأصلية أيضًا.
“وأنا كذلك… يا رآون.”
ابتسمتُ له ابتسامةً هادئةً لا تعكس شيئًا مما يدور في قلبي.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"