عليَّ أنْ أُخفيَ بأيِّ طريقةٍ كانت حقيقةَ أنّني عَلِمتُ سِرَّ الدوقيّة.
ثمّ بعد ثلاثِ سنواتٍ، أخرجُ من وينسفير بسلام.
“ألَنْ تذهبي؟”
قبضتُ على قبضتي بإحكامٍ إثرَ هذه الطريقةِ البسيطةِ والواضحةِ للحلّ.
“……سأذهبُ طبعًا.”
نهضتُ فجأةً من مكاني وسرتُ نحو الباب الذي فتحَه لي بايل.
دخلتْ عينيّ ألوانُ الزينةِ المريعة التي رأيتُها وأنا في طريقي إلى هنا قبل قليل.
ثمّ بعدها مباشرةً…
“أوه، يبدو أنّ وقتَ القيلولةِ انتهى.”
ما إنْ أنهى بايل كلامَه، حتّى بدأ الشياطينُ واحدًا تلو الآخر يظهرون من كلِّ صوبٍ بعدَ أنْ أنهَوا قيلولتَهم.
لم يُخفوا قرونَهم البارزةَ من رؤوسِهم، ولا أجنحتَهم السوداء التي خفقوا بها بلامبالاةٍ في الهواء.
“عودوا جميعًا إلى أماكنكم بهدوء.”
ما إنْ دوّى صوتُ بايل في الممرّ حتّى التفتَتْ كلُّ أنظارِ الشياطينِ إلينا.
حدّقتُ في الفراغِ أمامي وأنا أفكّرُ بذهولٍ.
‘لو أُغمي عليَّ هنا، هل تُعَدُّ حادثةَ عمل؟’
* * *
ظننتُ أنّني سأرى الدوقَ فورًا، لكنّه لم يكن في مكانِه، فلم أستطعْ مقابلتَه.
“يبدو أنّ صاحبَ الدوقيّةِ غادرَ مؤقّتًا.”
قال بايل ذلك بنبرةٍ هادئةٍ كأنّه كان مُعَدًّا للأمر مسبقًا، ثمّ نظرَ إلى ساعتِه وسألَني:
“ليس لديكِ أيّ أمتعةٍ الآن، أليس كذلك؟”
“آه، لا، ليس لديّ.”
“في متاجرِ الملابسِ القريبةِ لن تجدي ما يناسبكِ.
إنْ أردنا صنعَ شيءٍ جديدٍ فسيستغرقُ الأمرُ أيّامًا.
ما رأيُك أنْ تذهبي الآن لإحضارِ أمتعتك؟”
“الآن؟”
“ابتداءً من الغدِ ستكونين مشغولةً في تعلّمِ العمل، وإنْ لم تذهبي الآن فستضطرّين للنومِ بهذه الثياب.”
“آه…”
عندها فقط أدركتُ شكلي المزري.
كنتُ قد تجوّلتُ تحتَ مطرٍ غزيرٍ بلا توقّف، فبدوتُ في حالٍ يُرثى لها.
“إذًا، يجب أنْ أذهب.”
“جيّد. سأوجّهُ أوامرِي للساحرِ كما في المرةِ السابقة. السيد رآون سيتولّى مرافقتك.”
هل تلعثمَ قليلًا عندَ ذِكرِ الاسم؟ ربّما كنتُ أتوهّم.
“نعم، أظنّ أنّ ذلك أنسب.”
“إذن إلى اللقاء.”
غادرَ بايل الغرفة، عندها فقط تفحّصتُ المكان.
كنتُ قلقةً من أنْ تكونَ الغرفةُ كالممرّ المريعِ أو قاعةِ الاستقبال، لكنّها كانت سليمةً بشكلٍ مفاجئ.
تجاهلتُ بايل حين كان يضغطُ ليتولّى هو إعادةَ تصميمها قائلاً إنّها لا تُرضيه.
لم يكن لي في حياتي السابقة كابنةِ بارونٍ غرفةٌ خاصةٌ بي، فهذه أوّلُ مرّةٍ أحصلُ فيها على واحدةٍ كهذه.
كنتُ أتأمّلها ببطءٍ عندما سمعتُ صوتًا رقيقًا من خلفِ الباب.
“الآنسةُ ووُكر، إنّه أنا.”
كان صوتُ رآون. ورغم أنّه شيطانٌ أيضًا، إلّا أنّه بدا لي أهدأَ وألطفَ من غيرِه، لذا لم أشعرْ بالنفورِ المعتاد.
“نعم، رآون، هيا بنا.”
لكنّ خطواتي نحو البابِ أخذتْ تتباطأُ شيئًا فشيئًا.
أعدتُ تكرارَ الاسمِ الذي نطقتُه للتوِّ بهدوءٍ.
“رآ… ون؟”
وببطءٍ تجمّدَ وجهي.
كان اسمُ الدوقِ الذي يجب أنْ أقابلَه قريبًا، وهو ذاتُ الاسمِ الذي يحملهُ الشرُّ الأكبرُ في هذا العالم، رآون وينسفير.
“لا، لا يمكن…”
لكنّ هذا الاسمَ نادرٌ جدًّا.
ترنّحتُ وجلستُ أرضًا فاقدةً للقوّة.
“الآنسةُ وُكر؟ ما الأمر؟”
“……”
“اعذريني، سأدخلُ إذن.”
فتحَ البابَ ودخل.
رأيتُ الشعرَ الأسودَ القاتمَ والعينينِ الحمراوينِ اللتين تبدوان وكأنّهما ستلتهمانني، فتساءلتُ كيفَ لمْ أُدركْ ذلك منذ البداية.
‘اللعنة. كانت خدعةً من البداية إلى النهاية!’
غرقتْ عينايَ بالدموعِ، لكنّني كبحتُ الكلماتِ التي كانت على وشكِ أنْ تفلتَ من حنجرتي، ونهضتُ مترنّحةً.
“هل أنتِ بخير؟”
‘بخير؟’
مستحيل!
هذا الشيطانُ المجنونُ، لِمَ جرّني إلى هذا الجحيم؟!
“هل ساقاكِ بخير؟”
“نعم، نعم. فقط مررتُ بيومٍ طويلٍ جدًّا…”
كنتُ أعرفُ أنّنا داخلَ رواية، وأعرفُ أنّهم شياطين، وأعرفُ أنّه هو الشرُّ الأخيرُ في القصة، ومع ذلك قاومتُ نظراتي كي لا أفضحَ نفسي.
شعرتُ بثقلِ نظرِه عليَّ، لكنّني أجبرتُ نفسي على عدمِ الالتفاتِ إليه.
“يبدو أنّكِ ضعيفةٌ جدًّا، الآنسةُ ووُكر.”
أمالَ رآون رأسَه قليلًا وهو يتأمّلني.
‘مخيف…!’
تعرّقَتْ كفّايَ وجفَّ حلقي. لا يجوز أنْ أتصرفَ بغرابةٍ الآن.
أجبرتُ نفسي على تجنّبِ نظراتِه. كيفَ تكلّمتُ معه سابقًا بهذا الهدوءِ وأنا أنظرُ إلى وجهٍ كهذا؟
هل لأنّني أعرفُ من يكون؟ شرتي كانت تلسعُني وكأنّها تحترق.
“هاها، هل الأمرُ كذلك؟”
“يبدو أنّكِ نحيلةٌ جدًّا.”
‘نحيلة؟ ولماذا يُعلّق على ذلك؟ هل ينوي أكلِي؟!’
لكنّه اكتفى برفعِ كتفيه دونَ متابعة.
“يجب أنْ أتحرّك أقل. خطواتي سريعةٌ جدًّا، لذا من الأفضل أنْ أضبطَها وفقًا لخطاكِ.”
“آه، نـ-نعم. هذا جيّد.”
“أمسكي بيدي.”
“نعم، ها؟”
حدّقتُ في يدِ رآون الممدودة نحوي.
ولمّا لم ألتقطها فورًا، أمالَ رأسَه متسائلًا كما لو كان يقول: “ألن تمسكينها؟”
كان يجدرُ بي أنْ أرفضَ بلُطفٍ قبل أنْ أتورّطَ في هذا الموقف، لكنّ الأوانَ قد فات.
فلم أجدْ بُدًّا من أنْ أمسكَ بيدِه.
خرجنا معًا إلى الممرّ، وكان المكانُ خاليًا تمامًا.
سرتُ إلى جانبه في صمتٍ ثقيلٍ أطبقَ على صدري، ففتحتُ فمي متردّدةً كي أبدّدَ الصمت.
“أه، لا أرى… الآخرين.”
“نعم، لا أحدَ هنا.”
كانت إجابتُه السريعةُ الهادئةُ كإنذارٍ في رأسي يقول: “توقّفي، لا تسألي أكثر.”
ابتسمتُ مصطنعةً وقلتُ بخفّةٍ:
“آه، نعم.”
هل بدا تصرّفي غريبًا؟ لأنّه توقّفَ فجأةً وأمالَ رأسَه إلى الجانب.
“ألستِ تتساءلين لماذا؟”
‘لا أريد أنْ أعرف! أبدًا!’
لكنْ في الحياةِ الاجتماعيّة، هناك أشياءُ يجب أنْ تُقالَ حتى لو لم تُرِدها.
كتمتُ شهقةً صغيرةً وسألتُ بصوتٍ مرتجفٍ:
“لِمَ لا… أراهم؟”
تردّدَ صوتي قليلًا، فقرصتُ فخذي لأحافظَ على ثباتِ نبرتي.
“لأنّ كُلًّا منهم ذهبَ لأداءِ عملِه.”
“آه، هكذا إذًا.”
“نعم، تمامًا.”
كانَ رآون يملكُ قدرةً غريبةً على جعلِ أكثرِ الجملِ بساطةً تُشعِرُني بالرعب.
وبعدها، بدأ يطرحُ عليَّ الأسئلةَ واحدًا تلو الآخر.
“ألديكِ تساؤلاتٌ حول عملِك؟”
“لا. لا شيء محدّد.”
‘آخرُ من أريدُ أنْ أسمعَ منه شرحًا عن عملي هو الشخصُ الذي ورّطني فيه!’
“إنْ احتجتِ شيئًا، يمكنكِ سؤالُ بايل.”
عندها ابتسمَ رآون قليلًا، ثمّ قال بنبرةٍ هادئةٍ أثارتْ قلقي:
“الآنسةُ ووُكر، خلالَ عملِكِ كمساعدةٍ لدوقِ وينسفير، لن تلتقيَ به شخصيًّا.”
‘ماذا؟ أيُّ هراءٍ هذا؟’
“ستعملين معي أنا.”
تجعّدتْ عينايَ تلقائيًّا.
‘لكنّك أنتَ الدوقُ نفسُه!’
هل ينوي إخفاءَ هويّته عنّي؟ ولماذا؟!
إلى جانبِ خوفي، بدأتُ أستشيطُ غضبًا من هذا الالتفافِ السخيفِ في الكلام.
“عذرًا، أنا المساعدةُ الخاصّةُ بالدوق، ولن ألتقيَ بالدوقِ نفسه؟”
نسيتُ حتى أنْ أتحكّمَ بتعبيراتِ وجهي، فحدّقتُ فيه بحدةٍ.
لكنه لم يتزحزحْ، بل أجابَ ببرودٍ مدهشٍ:
“لن تكون هناك مشكلةٌ كبيرةٌ حتى دونَ لقاءٍ مباشر.”
“لكنّهم طلبوا مساعدةً مقيمةً لدى الدوق.
هل يعني هذا أنّ وجودي إلى جانبه غيرُ ضروريّ؟”
“يبدو أنّ لديكِ اهتمامًا بالغًا بصاحبِ الدوقيّة، آنسةُ ووُكر.”
كادَ وجهي يلتوي من الغيظ.
‘ليتني أستطيعُ ألّا أراه أبدًا في حياتي!’
لكنّي اكتفيتُ بابتسامةٍ باهتةٍ وقلتُ:
“إنّه رئيسي المباشرُ، وسأخدمُه لثلاثِ سنواتٍ، لذا من الطبيعيّ أنْ أعرفَ من هو.”
“صحيح. على أيّ حال، سأكونُ أنا من يتولّى توصيلَ كلّ الأمورِ إليه، لذا ستريْن وجهي أكثرَ من وجهِه.”
“آه، هل أنتَ أيضًا مساعدُه؟ إذًا طلبَ تعيينَ مساعدٍ إضافيّ بنفسِه؟ هاها!”
“شيءٌ من هذا القبيل.”
كنتُ أودُّ صرخَ: ‘هل تسمعُ ما تقولهُ؟!’
لكنّني كتمتُ غضبي بصعوبةٍ.
يا له من وضعٍ عبثيّ.
الجميعُ هنا يخفي شيئًا، وأنا العاقلةُ الوحيدةُ في هذا المكانِ المجنون.
لكنّ الرجلَ أمامي ليس بشرًا.
كلمةٌ واحدةٌ خاطئةٌ قد تعني نهايتي.
ارتجفتُ فجأةً، وشعرتُ بالقشعريرةِ تسري في جسدي.
‘سيّئةٌ جدًّا هذه الفكرةُ يا ليليانا…’
ارتعشَ جسدي بوضوحٍ حتى انتقلَ الارتعاشُ إلى يده. نظرَ إليّ رآون باستغرابٍ.
“هل أنتِ تشعرينَ بالبردِ؟”
“لا! فقط لم أعتدْ بعدُ على الطقس!”
“مفهوم. لكن ستعتادين قريبًا. فهنا أصبحَ منزلَكِ الآن، أليس كذلك؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"