الفصل الثاني
انزلقت سيارة سوداء على الطريق بهدوء، كأنها تسبح فوق الأسفلت.
كان رايموند يجلس في المقعد الخلفي، في طريق العودة إلى المنزل بعد أن رفض دعوة العشاء التي أصرّ عليها الكونت وزوجته. جلس متكئًا، يقرأ مستندًا وضعه على ركبتيه، وكان قد بلغ فقرة تتناول أسباب سلسلة الانهيارات الأخيرة لبنوك الاستثمار في القارة الجديدة. وما إن أنهى ذلك الجزء حتى أغلق الورقة.
واحد يسقط، وآخر ينهض.
لم يكن هناك جدوى من الالتفات إلى الفريسة الساقطة. الأهم من ذلك هو: إلى أي المنتصرين الجدد يجدر به أن يستثمر؟ هذا فقط ما كان يعنيه. لطالما اختار رايموند أكثر الفرائس شراسة، وبفضل ذلك، نجح في مضاعفة ثروة العائلة.
كانت “أرين”، تلك الدولة الناشئة في القارة الجديدة، قد بدأت تزدهر بشكل لم يعد ممكنًا تجاهله كحكاية خرافية عبر المحيط. أرض تفيض بالذهب، مليئة بالموارد الطبيعية والقوى العاملة، بدأت تُهدد سيطرة رأسمال القارة القديمة. حين بدأت محاصيلهم ونسيجهم القطني يتدفق إلى السوق بأسعار زهيدة، هجر الفلاحون في “لوسنير” أراضيهم متجهين إلى المدن.
النبلاء الذين بنوا مجدهم على إنتاجية أراضيهم لم يكونوا مستعدين لموجة التغيير الجديدة، فبدأت قلاعهم تتهاوى واحدة تلو الأخرى.
لكن الذي عبر البحر لم يكن السلع وحدها.
بل حتى الوريثات الثريات اللواتي ورثن أموالًا طائلة عن آبائهن في القارة الجديدة، عبرن المحيط بدورهن، ليتحوّلن إلى زوجات نبلاء في القارة العجوز.
زمنٌ صار فيه الزواج تجارةً فجة، تُبادَل فيه المكانة بالمال، ويُقايض فيه اللقب بالذهب. وسط هذه الفوضى، صمد رايموند. وخرج منها… دوقًا.
تاريخ طويل ومجيد، عراقة تخنق الحضور، ماضٍ يبعث على الرهبة؛ كان رايموند يقف في قلب هذه المنظومة العتيقة. الجميع أجمع على أن ما أنقذ مكانة آل بيلسماير، بعد أن تلوثت بفضائح سابقة في عهد والده، هو جهد هذا الدوق الشاب وتفانيه. أما ما علق من شوائب في تاريخه… فقد تم تجاهلها بأناقة.
وبينما استدارَت السيارة على طريق واسع، بدا من النافذة اليمنى مبنى شامخ، مهيب الحضور. لافتته الزرقاء البارزة كانت تُعلن عن نفسه: متجر إيفرهارت الكبير.
وفي تلك اللحظة، مرّ طيف عينين زرقاوين في ذهنه، بلون مشرق يشبه لون تلك اللافتة تمامًا. عيناها.
أليكسيا وينتربورن.
دار اسمها في فكره بصمت، يتردد داخل فمه من دون صوت. اسمٌ كان قد لمحَه عرضًا في الصحف سابقًا، دون أن يترك فيه أي انطباع. لكنه الآن… بدا غريبًا، كأنه لا يليق بها.
السيدة دوبينز، ابنة الكونت، كانت من النوع الذي يقابله فقط ليرضي أقاربه المُلحّين الذين لا يكفّون عن التلميح للزواج. ولم يكن يدري منذ البداية أن المتجر الذي اختارته لتتسوق منه هو إيفرهارت. لذا، لقاؤه بأليكسيا في المتجر لم يكن سوى محض صدفة.
وحين أخيرًا عرّفت نفسها مبتسمة بأنها المسؤولة عن المكان، أدرك رايموند. هذا هو المكان الذي حطّت فيه رحال تلك الفتاة، بعد أن غادرت قصر الدوقية مع والدتها.
كانت لا تزال تحمل في ملامحها ذاك النسيم الخفيف لربيعٍ لا ينقضي. تلك الهالة الشفافة، المضيئة، التي بدت كأنها محصّنة ضد الذكريات السيئة. شخصيتها، كما عهدها، نقية وصلبة، لا تُخفي لطفها خلف قناع.
لقد تغيّرت كثيرًا.
عيناها الزرقاوان أصبحتا أعمق، وجسدها أنحل وأطول، وقد اكتسبت تفاصيل أكثر أنوثة. أما شفاهها، التي كانت تنقلب حزنًا لأبسط تعليق، فقد تعلمت الآن أن تحافظ على ابتسامتها حتى أمام أكثر الأرستقراطيين تعجرفًا.
[لن أقاتلك.]
[وهل سبق أن خضنا قتالًا حقيقيًا؟]
[حتى وإن حفرت لي فخاخًا، لن ينجح الأمر. في النهاية، نحن عائلة. ويجب أن نحافظ على العلاقة بيننا.]
[عائلة؟]
كانت تلك الفتاة التي حاولت جاهدة، دون كلل، أن تبث الحياة في أجواء القصر الباردة، وتستعيد دفء البيت الذي فقدته. حتى مع الخدم الذين أساءوا معاملتها، كانت لطيفة.
لكن حين أدركت أن لا أحد، حتى رايموند، يرحب بتلك التغيرات التي أرادتها، بدأت تختفي… وتخفت.
هل هذا يعني أن أليكسيا بيلسماير، تلك النسخة الضعيفة القلقة، قد اختفت تمامًا؟
الفتاة التي كانت تقضي وقتها تقرأ وحيدة على التل المطل على القصر…
التي كانت تبالغ في إدراك موقعها لتجنب النزاعات، حتى انتهى بها الأمر مكروهة…
كل هذا لم يبقَ منه سوى أثر باهت. وحين فكّر في ذلك، اجتاحه شعور غريب… لم يستطع حتى تسميته.
“هل أوقف السيارة، سيدي؟”
كان صوت السائق، الذي لاحظ نظرات سيده نحو المتجر، مترددًا حذرًا، كأنه يسأل إن كان لديه عمل في إيفرهارت.
أجاب رايموند وهو يصرف نظره عن النافذة:
“لا حاجة. تابع السير.”
دارت السيارة بهدوء عند مفترق الطرق، ومعها اختفى المتجر عن أنظاره.
فتح رايموند المستند من جديد. ومع اختفاء المتجر… بدأت صورة تلك المرأة تتلاشى تدريجيًا، وتغوص في أعماق الحروف المطبوعة.
كان متجر “إيفرهارت” يستعد لاستقبال موسم جديد.
ومن أجل أن تنسى أليكسيا ما شعرت به من ارتباك بعد لقائها المفاجئ برايموند، ألقت بنفسها في دوامة الأعمال المتراكمة في المتجر. أنهت اعتماد التصميم النهائي لواجهة العرض بالتعاون مع مصمّم الديكور الداخلي، وراحت تُشرف بنفسها على ترتيبات قسم البضائع الموسمية الخاصة بالعطلات. وهكذا، وبينما كانت تنسق وتُراجع وتتحرك دون توقف، حلّ المساء أخيرًا.
ركبت السيارة التي أرسلها والدها بالتبني من المنزل، وعند وصولها، ألقت تحية المساء على الخادمة والخادم المنتظرين عند المدخل، ثم صعدت إلى غرفتها. قبل موعد العشاء العائلي، تخلّصت من غبار المتجر بحمام دافئ، وجفّفت شعرها بمساعدة خادمتها الخاصة وهي تتجاذب معها أطراف الحديث، ثم بدّلت ملابسها بهدوء. وحين انتهت، كان الوقت قد اقترب من وصول والدها.
توجّهت أليكسيا إلى غرفة الطعام في الموعد تمامًا. هناك، كان دومينيك وينتربورن قد سبقها.
دومينيك، الابن الوحيد لهاريسون وينتربورن، كان شابًا وسيمًا ذا شعر كستنائي فاتح يذكّر بحقول القمح تحت شمس الربيع. ابتسم ابتسامة لطيفة فور رؤيتها، ووضع الصحيفة التي كان يقرؤها جانبًا.
“من النادر أن تعودي مبكرًا اليوم، أليكس.”
“لم أتوقع أن أسمع ذلك من دومينيك وينتربورن تحديدًا. ألم يكن العمل الإضافي شعار عائلتنا منذ الأزل؟”
كان دومينيك وأليكسيا قد أصبحا شقيقين بسبب زواج والديهما. وبرغم أن والدتها، إيزابيلا، توفيت منذ سنوات بسبب الإنفلونزا الموسمية، فإن آل وينتربورن لم يتغيّروا قط في معاملتهم لها، وظلّوا يرونها فردًا من العائلة.
“وأنت أيضًا من آل وينتربورن، لا تنسي.”
وبينما كانت ترفع كتفيها بمرح، انطلقت خطوات واثقة على الأرضية الخشبية باتجاه غرفة الطعام. تبادل دومينيك وأليكسيا نظرة خفيفة، وكأنهما كانا يتوقّعان هذا الدخول بالضبط. ولم يخيب ظنهما. ظهر هاريسون وينتربورن، كما اعتادا رؤيته.
“لا شيء يبعث السرور في النفس مثل رؤية أولادي بانتظاري على مائدة العشاء.”
هاريسون، رجل في منتصف العمر عريض المنكبين، بدا أقرب إلى رياضي معتزل منه إلى رجل أعمال. لكن في الواقع، كان أحد أكثر الشخصيات نفوذًا في البلاد، مالكًا لشركة “إلفورد” للصلب، ومتجر “إيفرهارت” الذي تديره أليكسيا بنفسها.
“يكفيني المراسم الرسمية في ولائم العشاء مع أعضاء البرلمان.”
لوّح بيده ليمنع ولديه من الوقوف، واتجه مباشرة إلى رأس المائدة. هناك، أشار إلى كبير الخدم الواقِف عند المدخل.
“قدّموا الطعام.”
“أمركم، سيدي.”
وعلى إثر تلك الكلمات، بدأ الطهاة يعرضون الأطباق التي أُعدّت بعناية فائقة.
كان موضوع الحديث الأول في المائدة يدور حول شركة الصلب. دومينيك، في التاسعة والعشرين من عمره، كان يتلقى التدريب في الشركة ليخلف والده في إدارتها. وكان هاريسون دائمًا ما يختبر قدراته من خلال أسئلة صعبة، حتى خلال تناول الطعام.
وكالعادة، انهالت الأسئلة على دومينيك، فراح يردّ عليها الواحدة تلو الأخرى بصبر حتى بدا على والده أنه اكتفى.
“يبدو أن النزاع التجاري بين هولستاين وغليسا قد يتصاعد إلى صدام مباشر. الأفضل أن نكون مستعدين. أعلم أنك لن تغفل عن ذلك.”
وعندما لاح في الأفق أن العاصفة قد انقشعت، تنفّس دومينيك الصعداء، ورفع كأسه ليرطّب حلقه.
“أليكسيا، كيف تسير الاستعدادات لموسم الصيف؟”
كانت تستمع بهدوء إلى حوار الأب والابن وهي تتناول طعامها، لكنها ما إن سمعت اسمها حتى وضعت الشوكة والسكين جانبًا واعتدلت.
“كل شيء على ما يرام، بالتأكيد.”
حان دورها الآن. بينما حمل دومينيك أدواته بنظرة مرحة، جلست أليكسيا مستقيمة، تستعد لمواجهة الأسئلة القادمة.
“انتهيت من اعتماد التصميم النهائي لنافذة العرض مع السيد غلادني. وقال إنه يتوقع أن يكون هذا العمل أفضل ما أنجزه على الإطلاق، وطلب أن أبلغكم ذلك بنفسي.”
“أوسكار غلادني يقول هذا كل موسم. ما أود معرفته هو: ما رأيك أنتِ؟”
حتى المدراء التنفيذيون المتمرّسون لم يكونوا ليسلموا من أسئلة هاريسون المُلِحّة. لكنها، رغم النظرات الثاقبة التي كانت تحوم حول المائدة، لم تهتزّ، وأجابت بثقة:
“أعتقد أن التصميم أكثر ابتكارًا من سابقه. من الواضح أنه استوحى الكثير من رحلته الأخيرة إلى أرين.”
رفع هاريسون زاوية فمه باقتضاب، إعجابًا ربما، قبل أن يعاود ارتداء قناع الجدية المعتاد. أفرغ كأسه، ثم تابع:
“وماذا عن تجهيزات قسم العطلات؟ أعتقد أن تكرار نجاح العام الماضي ليس بالأمر السهل.”
“لكنني واثقة أننا سنحقق نتائج أفضل هذه المرة.”
“ولمَ ذلك؟”
“لأننا، هذه السنة، أعددنا تشكيلات واسعة من أزياء الشاطئ للأطفال، إلى جانب أزياء الكبار. بعض الموظفين اشتروا بالفعل أحذية وصنادل لأطفالهم، خشية أن تنفد الكمية. أظن أن مايوهات الفتيات المخططة ستكون الأكثر طلبًا.”
“هل سبقت أي من المتاجر الأخرى في طرحها؟”
“نحن أول من عرضها.”
في هذه الأثناء، كان دومينيك قد توقّف عن الأكل، وراح يُتابع الحديث الدائر بين والده وأليكسيا بانتباه، ملوّحًا برأسه من حين إلى آخر تأييدًا لردودها. وبعد أن طرح عليها هاريسون بضع أسئلة إضافية، أومأ برضى إلى الخادم:
“أحضروا الحلوى.”
الإشارة كانت واضحة: انتهى التحقيق.
الآن يمكنني الاستمتاع بالحلوى بسلام.
وضعت أليكسيا يديها على حجرها، تنتظر. وما لبث أن وُضع أمامهم طبق من الكاسترد بالكريمة، تعلوه كرزات مسكّرة، بعدد الأفراد تمامًا. تناول هاريسون قضمة كبيرة، ثم علّق بمرح:
“كلاكما يؤدي دوره كما ينبغي. انسجام تام.”
كانت مجاملة، لكنها حملت بين طيّاتها فخرًا أبوياً.
تبادل دومينيك وأليكسيا نظرات ضاحكة، كما فعلا عند دخول والدهم للمرة الأولى. وانتهى العشاء، كما جرت العادة، في أجواء هادئة وودية.
بعد أن ارتشف قهوته، اعتذر دومينيك بلطف وغادر إلى غرفته ليطالع بعض الملفات المتأخرة. وما إن غادر، حتى عمّ الصمت. ظلّ هاريسون يحدّق في الطاولة النظيفة أمامه للحظة، ثم قال فجأة:
“هلّا جئتِ إلى المكتب معي للحظة؟ لديّ أمر أود الحديث فيه… على انفراد.”
كانت أليكسيا لا تزال تستمتع بعطر القهوة الذي يعبق في الغرفة، لكنها تجمّدت للحظة عند سماع طلبه. أومأت برأسها موافقة، وفي عينيها مسحة توتر لا تخفى.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 2"