15
الفصل الخامس عشر
كانت أليكسا تتنقل بين الغرفتين الملاصقتين بالصالون، تتأمل اللوحات المعلقة على الجدران. حتى لمن يجهل عالم الفنون، بدت تلك المناظر الطبيعية آسرة في جمالها.
وبينما ظلت تائهة في خطواتها لبعض الوقت، جلست أخيراً على أريكة صغيرة بلا مسند، موضوعة أمام لوحة كبيرة. ومع سكون الجو، اجتاحها طيف الذاكرة؛ لحظة لقائها بالدوق على الشرفة المعتمة.
منذ حفلة “سيلفر بيل”، لم يفتأ وجهه يظهر فجأة في خاطرها، يثير فيها غصة لا تعرف كيف تكتمها.
رايموند بيلسماير.
كان ما يزال قادراً على أن يجعلها تشعر بالضآلة. بسهولة، وبدون أدنى جهد. شفتاه اللتان طالما تمتمتا باستخفاف عن حيل “آرين” الدارجة، ظلتا على نفس القدر من التعالي، وعيناه الخضراوان اللتان تومضان بالسخرية، تلتمعان في العتمة بوحشية جارحة.
كل ما يكوّن شخصه بدا كقطع زجاج مهشّم؛ كلما مدّت يدها لمحاولة تنظيفها، لم تجنِ سوى الجراح. كانت قد أقنعت نفسها أن مواجهة رايموند في “سوق الزواج” أمر لا مفر منه، لكنها لم تتوقع أن يحدث بهذه السرعة.
لا أريد أن ألتقي به مجدداً، أبداً.
حتى لو قال البعض إن هذا النفور ليس سوى بقايا شعور بالدونية من أيام الطفولة، فلن يهمها الأمر.
بينما كانت غارقة في تلك الذكريات أمام اللوحة، قاطعها وقع خطوات خفيفة تقترب. رفعت رأسها فرأت سيدة أنيقة المظهر تبتسم لها.
قالت بنبرة ودودة:
“إن لم يكن في الأمر إزعاج… هل لي أن أجلس بجوارك؟”
أفسحت أليكسا المكان وهي تومئ برأسها:
“بالطبع، تفضلي.”
“شكراً لك. اسمي ماكنزي هاردينغ.”
“أليكسا وينتربورن، تشرفت بمعرفتك يا آنسة هاردينغ.”
جرى التعارف بينهما بسلاسة، دون ذلك الجو المليء بالقياسات الطبقية الذي يخنق عادةً اللقاءات الأولى.
ابتسمت ماكنزي بصدق:
“يا لروعة هذا اللقاء، آنسة وينتربورن. أنا أيضاً سعيدة للغاية بلقائك.”
وما إن سمعت كل منهما اسم الأخرى حتى أدركتا: إنهما تنتميان إلى ذات الطبقة “الغريبة” عن النبلاء.
فـ”هاردينغ” تمتلك خط السكك الحديدية الذي يربط المناجم الشمالية بالمدينة الصناعية روزنير، أما “وينتربورن” فهي صاحبة شركة “إلفورد للصلب” ومتاجر “إيبرهارت” الكبرى.
بالنسبة إلى طبقة النبلاء، لم تكن هاتان العائلتان سوى غزاة وطامعين.
ولهذا السبب بالتحديد، شعرت أليكسا منذ الوهلة الأولى بألفة عجيبة تجاه ماكنزي. مثلها، اختارت الابتعاد عن صخب الصالون لتذوب في ركن تغطيه اللوحات، حيث يمكنها أن تقلل من حضورها.
قالت ماكنزي وهي تلمع بعينيها بخفة:
“يا لها من صدفة سعيدة أن أفرّ من مراقبة المرافِقة إلى هنا… وأجد أخيراً شخصاً أشعر أنني أستطيع التحدث معه بارتياح.”
ثم غمزت بعفوية.
سألتها أليكسا:
“هل حضرتِ برفقة عائلتكِ يا آنسة هاردينغ؟”
“جئت مع عمتي. إنها من عضوات صالون الكونتيسة. ولهذا نحظى بدعوات متكررة لهذه التجمعات الرفيعة.”
وسرعان ما انطلقت بينهما محادثة سهلة، تكسوها الراحة لعلمهما أن أياً منهما لن يسعى إلى النيل من خلفية الأخرى.
قالت أليكسا بعد لحظة:
“هل تستمتعين بمشاهدة المباريات الرياضية؟ سمعت أن بطولة الركبي الشهيرة ستقام قريباً.”
كان السؤال على ما يبدو ماكنزي تنتظره. صفقَت بيديها بخفة، ثم أرسلت نظرة سريعة إلى الصالون، كمن يوشك أن يفشي سراً:
“بالطبع! لكنني أفضل كرة القدم. فشركة القطارات التي يملكها والدي لديها فريق كرة قدم خاص.”
“فريق كرة قدم؟”
“نعم، فريق مميز بالفعل. ربما لأنني منذ صغري كنت أرافق والدي في رحلات بالقطار عبر البلاد، بحثاً عن لاعبين بارعين. لذلك كرة القدم أقرب إلى قلبي بكثير.”
أجابت أليكسا بابتسامة متأملة:
“رحلات لاكتشاف المواهب؟ لابد أنها كانت ممتعة. أما أنا، فلم أشاهد مباراة كرة قدم بعد. حضرت مباريات الركبي فقط، بسبب أخي.”
“أخوك… آه، لا بد أن تقصدين دومينيك وينتربورن الشهير! هل هو أيضاً من خريجي جامعة فيربورن؟ أخي كذلك من فيربورن. وبما أن أعمارهم متقاربة، فربما قد تعارفا قبلنا.”
كانت جامعتي “فيليك” و”فيربورن” تعدان القمتين الأكاديميتين في روزنير. الأولى عريقة بالسمعة والنبل، والثانية تمثل الابتكار والتقدم، وتُخرّج أبناء الطبقة الرأسمالية الصاعدة. أما مباريات الركبي والتجديف بينهما، فقد غدت ساحات تنافس مشتعلة توازي الحروب، وتتصدر دائماً قائمة المناسبات الاجتماعية الكبرى.
قالت أليكسا بمكر خفيف:
“إذن، آنسة هاردينغ، لا شك أنك ستحضرين هذا العام بطولة الركبي. فالإخوة لا يستطيعون ترك شقيقاتهم بعيداً عن هذه الأجواء.”
ضحكت ماكنزي ضحكة صافية:
“صحيح! هكذا هم الإخوة الأكبر سناً دوماً. العام الماضي لم أحضر لأنني كنت مسافرة إلى العالم الجديد، لكن هذه السنة… لا مفر من أن ألوّح بالعلم الأزرق في المدرجات، وإلا سأجرح مشاعرهم.”
“ما رأيك أن نشجع معاً من مقاعد مشجعي فيربورن؟”
“اقتراح رائع! على فكرة، ستقام قريباً مباراة ودية بين فريقنا وفريق آخر. ستكون أيضاً أول مباراة تُفتتح في ملعبنا الجديد.”
بدت متحمسة وهي تتابع:
“إن كان وقتك يسمح، تعالي مع أخيك. سأرسل لكما تذاكر المقصورة الشرفية.”
ترددت أليكسا قليلاً:
“لكن… هل من المناسب أن تعطيني تذاكر لمباراة مهمة كهذه؟”
ضحكت ماكنزي برفق:
“صدقيني، لو علم والدي أنني جلبت وريثة وينتربورن إلى الملعب، سيعتبر ذلك إنجازاً يستحق مكافأة! لطالما تحسّر على أن أصغر بناته لم تجد صديقة مناسبة بعد.”
“إن كان الأمر كذلك، فسأقبلها بسرور. فقط تذكري أن دومينيك قد لا يستطيع الحضور بسبب أعمال الشركة.”
“بالطبع.”
بعد قليل، ظهر خادم عند باب الغرفة، يخبرهما أن مرافقاتهما تبحثان عنهما. تنهدت الفتاتان معاً تنهيدة خفيفة، ثم نهضتا.
قالت أليكسا قبل أن تفترقا:
“في لقائنا القادم، ناديني فقط أليكسا.”
أجابت ماكنزي بابتسامة واسعة:
“وأنتِ أيضاً، قولي لي ماكنزي.”
تبادلت أعينهما نظرة متعاطفة قبل أن تنضما إلى حشد السيدات. وبذلك، تيقنت أليكسا أنها وجدت في ماكنزي صديقة مبهجة يمكن أن تأنس بها.
—
عادت أليكسا من جلسة الشاي عند زوجة البارون وهي منهكة، حتى إنها تجاوزت العشاء.
كان من الجيد أن تخرج من ذلك اللقاء بصداقتها الجديدة مع ماكنزي. لكن وقع كلمات الضيوف الآخرين، أسئلتهم المبطّنة وتعليقاتهم الممزوجة بالسخرية، ترك فيها جروحاً خفية.
الطائر حين يرحل، لا يترك سوى ريشة في مكانه. ولمن لم يحب وجوده، تصبح تلك الريشة دليلاً مزعجاً على تحدٍّ أو انحراف.
إيزابيلا كانت الطائر الذي رحل بعيداً بلا عودة. وأليكسا لم تكن سوى تلك الريشة التي خلّفتها وراءها.
أرادت السيدات النبيلات أن تراها تحرق بنفسها أثر والدتها. بذلن جهدهن ليستدرجنها للاعتراف بأن طلاق إيزابيلا كان خطأ فادحاً، وأن زواجها الثاني من رجل أعمال من العامة كان أكثر الأخطاء شناعة.
وقضت أليكسا ساعات بعد الظهر في صدّ هجومهن اللغوي المتقن، فلم يكن غريباً أن تعود منهكة. تمددت على الأريكة بجوار النافذة، تحدّق في زخارف السقف بلا تركيز.
هل سيقودني تكرار هذه المراسم يوماً إلى زوج جيد؟
لم يأتِها سوى شكوك لا تنتهي.
بعد قليل، طرق أحدهم الباب. رتبت طرف ثوبها ونهضت إلى صالونها الصغير المتصل بغرفتها. كان الواقف هناك هاريسون، بملابس توحي أنه عاد للتو من العمل.
قال بنبرة هادئة:
“هل لي ببضع كلمات؟”
استقبلته أليكسا بابتسامة، فدخل لكنه رفض الجلوس. استند إلى عصاه، واضعاً يديه فوق مقبضها.
“سمعت أنك حضرتِ جلسة الشاي لدى البارونة. أولغا أخبرتني كيف واجهتِ أسئلة تلك السيدات برباطة جأش.”
قالت أليكسا بخجل:
“يسرّني أن عمتي رأت الأمر هكذا. في داخلي، شعرت أنني لم أكن بالقدر الكافي من النضج.”
أجابها بهدوء:
“البعض مثل السيدة بونيس لا تعيبهم قلة التطلعات بل فرطها. إن استطعتِ أن ترضي معاييرها، فاعلمي أنك لم ترتكبي خطأ.”
ابتسمت أليكسا ابتسامة مترددة، ثم حدثته عن صديقتها الجديدة:
“تعرفت اليوم إلى الآنسة ماكنزي هاردينغ.”
“هاردينغ؟ تقصدين عائلة السكك الحديدية؟”
ربّت هاريسون على لحيته القصيرة بتأمل.
“نعم. وهي الابنة الصغرى. دعتني إلى مباراة لفريقهم، وقالت إنها ستقيم في ملعبهم الجديد.”
قال مبتسماً:
“عائلة هاردينغ عُرفت بالاندفاع السريع، لكنهم لا يعرفون الحقد. مباراة كرة قدم، إذن؟”
“نعم. ستكون أول مباراة تُفتتح في الملعب. وسنحتاج إلى القطار للوصول. إن سمحت لي بالذهاب…”
“لا بأس. خاصة أنها بادرت بدعوتك بنفسها. قالت إنها سترسل تذاكر؟”
“أجل. وحتى لدومينيك إن استطاع الحضور. لقد بدت طيبة جداً.”
ضحك هاريسون:
“أبوها أشد حرصاً، ما كان ليتنازل عن تذكرة مجانية يوماً. لو امتلأت الدنيا برجال مثله، لأقفلت متاجر العاصمة خلال عام واحد! لكن ابنته أوسع كرماً، على ما يبدو. على كل حال، سرني أنك وجدت صديقة تفهمك.”
“أشكرك.”
ارتسمت على وجه أليكسا ابتسامة رقيقة. وحين رأى هاريسون ذلك، اطمأن قلبه وهمّ بالمغادرة. لكنه تذكر شيئاً وهو يخطو خارجاً، فالتفت قائلاً:
“اقترب افتتاح المبنى الجديد لمتاجر إبيرهارت. أريد أن أزين قاعة الاستراحة للسيدات والرجال بروعة تليق بهم. إن كان لديك وقت، فلنذهب معاً لاختيار بعض اللوحات.”
قالت بصفاء:
“في أي وقت تشاء.”
اكتفى بإيماءة راضية، وتمنى لها راحة هانئة قبل أن يغادر. أغلقت أليكسا الباب بهدوء، بعد أن غاب صوته في أروقة المنزل.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 15"