3
فصل 3
اتسعت عينا إميلدا بدهشة وكأنها لم تستوعب الأمر،
ثم سرعان ما تشوهت ملامحها بذهول.
ثم توجهت إلى لوناريا بتوبيخٍ حاد دون أن تأخذ نفساً.
“تصبحين مستقلةً؟ ما هذا الكلام الآن؟ هل تقولين هذا وأنتِ في كامل وعيك؟
أو هل لأنني قلت لكِ شيئاً جعلكِ تتصرفين هكذا؟ هل قلتُ لكِ شيئًا لا ينبغي أن تقوله أمٌّ؟
يا إلهي، الآن لا أستطيع حتى الكلام.”
“إذا انخفضَ عدد الأفواهُ التي تأكل، ستتحسن أوضاعُ المعيشة، أليس كذلك؟
لا تتواصلي مغي بعد الآن، واعتبريني ابنةً غير موجودة.
لن أقدّم لكِ المال كما في السابق. فأنتِ غريبة الآن.”
لم تستطع إميلدا كتم حدة غضبها ورفعت صوتها بأقصى ما لديها ردًا على كلام لوناريا.
“ماذا؟ هل تهددينني الآن بالمال؟ حسنًا، اخرجي إذن! اتركي المنزل! سنموت جميعًا من الجوع بعد خروجكِ. وسأضطر لبيع كل مجوهراتي وفساتين لوبيليا العزيزة، وإلا سننتهي في الشارع، أليس كذلك؟ هل هذا ما تبتغينه؟ هل سعادتكِ تكمن في موتنا جميعًا؟ هاه؟”
نظرت لوناريا إلى إميلدا ببرود.
كانت تشبه لوبيليا بشعرها الفضي وعينيها البنفسجيتين،
لكن صراخها الهائج أزال أيَّ جمالٍ في مظهرها.
رغم الضائقة المالية التي مرت بها، لم تُظهر أيَّ لباقةٍ أو ذوق يليقُ ببارونة.
‘في الوقت الحالي، أصبحت البارونية مجرد لقبٍ شكلي لا قيمةَ له…’
قالت لوناريا بابتسامةٍ ساخرة،”إذن، اعتني بصحتكِ جيدًا. سأذهبُ الآن.”
بمجرد أن أعلنت لوناريا عن رغبتها في الرحيل دون تردد،
أمسكت إميلدا كتفها بابتسامة مصطنعة.
لكن شفتي إميلدا كانتا ترتجفان من الغضب.
“يا لونا، ما هذا الكلام؟ تركُ المنزل؟ كيف ستعيشين بمفردكِ وأنتِ لم تتزوجي بعد؟
كل هذا الكلام كان لمصلحتكِ. يبدو أن لديكِ الكثير من الاستياء،
لكن على الابنة تحمل هذا القدر من أجل والدتها، أليس كذلك؟
الجميع يعيشون بالطريقة نفسها، أنتِ لستِ الوحيدة. إضافة إلى ذلك،
كيف ستتزوجين خطيبكِ بدون مساعدة عائلتكِ؟”
ضحكت لوناريا بسخرية وهي تفكر بكلمة “على الابنة أن تتحمل” و”مساعدة عائلتكِ”.
إذاً، لماذا كانت لوبيليا، وهي ابنةٌ أيضًا،
تتلقى كل هذا الدلال والعناية وكأنَّها زهرةُ نادرة؟
في ذاكرتها، لم تتلقَ لوناريا أبدًا أيَّ امتيازاتٍ أو رعاية من والديها في حياتها.
كل ما هو ثمينٌ وجيد كان يعود دائمًا إلى لوبيليا المحبوبة.
اعتقدت لوناريا أنَّهُ إذا اجتهدت، فسيحبُّها أفرادُ أسرتها يومًا ما.
كان ذلك مجرد وهمٍ أدركته فقط بعد أن انتهت حياتها الأولى.
“لن أتزوج. سأفسخُ خطبتي قريبًا، لذا لا تصدمي عندما يحدث ذلك.”
بعد إنهاء حديثها، توجهت لوناريا بخطواتٍ سريعة إلى الدرج المؤدي إلى غرفتها.
صرخت إميلدا بعينين متسعتين،”ماذا قلتِ!؟”
في تلك اللحظة، سُمِعَ صوتُ لوبيليا من الغرفة قائلةً،”أمي….”
“نعم، عزيزتي.”
تركت إميلدا لوناريا، ودخلت الغرفة فور سماع صوت لوبيليا.
“يا إلهي، ماذا حدث هنا! لماذا الأرضية بهذه الحال؟ لوناريا!
هل حطمتِ مرآة لوبيليا؟ أيتها اللعينة، عودي فورًا!”
عادت لوناريا إلى غرفتها واستمرت في سماع صراخ إميلدا من الطابق السفلي،
لكنها لم تكترث وبدأت بحزم أمتعتها في حقيبةٍ قديمة مهترئة.
لم يكن لديها الكثير، لذا انتهت من جمع أمتعتها بسرعة.
ثم غادرت المنزل على الفور.
***
لم تلحقها زوجة أبيها.
ربما كانت مشغولة بخدمة لوبيليا التي تشكو من ألم في رأسها أو تطلب تدليكًا لساقيها.
أما والدها، فكان غارقاً في نومه بعد ليلة من السُكر، غافلًا عن الليل أو النهار.
كانت الشمسُ مشرقةً في الصباح الباكر.
كانت خطوات لوناريا خفيفة وهي تعبر بوابة المنزل،
بعدما أفرغت كل ما في قلبها من كلامِ كان مكبوتًا لفترةٍ طويلة.
حتى لو كان هذا مجرد حلم، لم تهتم، كانت تشعرُ بفرحةٍ عارمة.
ثم توقفت فجأةً في منتصف الطريق.
“إلى أين أذهب الآن؟”
كانت قد أعلنت استقلالها ببسالة، لكنها في الواقع لم تملك مكاناً تذهب إليه.
لم يكن لديها أيُّ صديقةٍ حتى.
كان والدها المتكبر يمنعها من الاختلاط بأيِّ شخصٍ يعتبره
أقل شأنًا كي لا يخدش صورته الاجتماعية.
كان أهل القرية طيبين معها، لكن ذلك كان مجاملة سطحية.
فكرههم لعائلتها منعهم من قبولها بينهم.
أما خيارُ البقاء في نزل، فلم يكن لديها فلسٌ واحد،
إذ كانت تسدد الديون فور حصولها على المال.
‘إذا لم يكن هناك خيار، فسأنام في الشارع…’
حتى لو عاشت في الإسطبل، فسيكون أفضلَ مما كانت عليه سابقًا.
قررت أن تجد مسكنًا مؤقتًا ببدء العمل في قصر السيدة العجوز، وتفكر في الأمور تدريجيًا.
في تلك اللحظة، سمعت من بعيد صوت حوافر الحصان تدق الأرض بقوة.
كان هناك شخصٌ قادم على حصان، مثيرًا الغبار أثناء دخوله من مدخل القرية.
كانت الأصوات تقترب من لوناريا شيئًا فشيئًا، حتى اقترب حصانان منها.
رفعت رأسها دون قصد ونظرت إلى الشخص الجالس على الحصان.
أصبحت عقارب الوقت وكأنها تتحرك ببطءٍ ساحر،
وكأن كل شيء تباطأ حينما التقت عيناها بعينيه.
تطاير شعره الأسود المموج في الهواء.
كانت عيناهُ الزرقاوان تتلألآن بروح مرحة كالصبيان،
لكنهما تحملان أيضًا برودةً غريبة. كان فمه مائلًا لأحد الجانبين كأنَّهُ يسخرُ منها،
وأمسك لجام الحصان بيدٍ أنيقة.
بالرغم من مرور الرجل بسرعة،
فقد استطاعت ملامحه الواضحة وطوله اللافت أن يجعلا صورته عالقةً
في ذهن لوناريا وهو يمر من جانبها ويختفي خلفها.
شعرت لوناريا بموجات خفيفة تتراقص في صدرها، ولم تتلاشَ تلك المشاعر بسهولة.
تنهدت لوناريا، بعدما حبست أنفاسها.
لقد عاد فرانسيس.
***
-دقّ دقّ دقّ دقّ.
صوت الحوافر القوية كان يهز الأرض الهادئة على أطراف الحقول.
بدأت الأزهار التي كانت نائمة طوال الليل تفتحُ بتلاتها ببطء، كأنها تستمع للصوت.
في ظل ضوء الصباح الباهت، كان هناك رجلان يمتطيان الخيل ويمضيان قدمًا.
كانا يرتديان زي المسافرين، ويبدو أنهما قادمان من خارج البلدة.
و كانت أكمام ثيابهما مبللة بندى الليل.
“لديّ طريقةٌ واحدةٌ في بالي.”
فتح راندولف، الرجل ذو الشعر البني الفاتح والعينين البنيتين الدافئتين، فمه.
بدا متحمسًا، وكأن فكرة الحديث كانت تلحّ عليه، وعيناه تشعان بالحماس.
“ما هي هذه الطريقة؟”
سألهُ الرجل الوسيم الذي كان يتقدم عليه بقليل، بنبرة لا تحتوي على أيِّ توقعاتٍ وغير مهتمة.
كانت عيناه مركّزة على الأمام فقط، بينما كان شعره الأسود المموج يتطاير مع الرياح.
“أقصد الطريقة التي تجعلُ عمتكَ تُسلّمكَ كنز العائلة!”
“حقًا؟ أتقول إنك تعرفُ كيف تجعل عمتي تمنحني كنزًا لم يتمكن حتى دوق لوتميريا
السابق من الحصول عليه طيلة حياته؟ وأعاني أنا أيضًا من الحصول عليه؟”
كان ردّ فرانسيس يبدو متكبرًا إلى حد ما إذا أُخِذَ من منظورٍ معين.
لكن راندولف، الذي كان منشغلًا بأفكاره، لم يعبأ كثيرًا بالنبرة، وبدأ يشرح فورًا.
“هل تتذكر؟ في المرة الماضية التي جئنا فيها،
رأينا شابةً جميلة ذات شعر فضي خلال الصلاة، تُدعى الآنسة لوبيليا.”
كانت هذه زيارتهما الثانية للبلدة. بعد فشلهما الذريع في الزيارة الأولى،
انتظرا نصف عام للعودة مرة أخرى.
“لا أذكر. لكن حفظكَ لاسمها يدلُّ على أنكَ أُعجِبتَ بها.
أخيرًا لديَّ ما أخبرُ به الكونتيسة.”
كان فرانسيس يمتلكُ ذاكرةً قوية بالفطرة. وعلى الرغم من نبرته،
إلا أنه كان يتذكر بوضوح حتى فستان الآنسة الذي كانت ترتديه.
لكن كان العبث مع الآخرين عادةً مألوفةً لديه.
“يا رجل، لا ينبغي لكَ قولُ ذلك! هذا الأمرُ ليس لعبةً بالنسبة لي،
فقد أتعرض للطلاق بسببكَ. أنا فقط أقول ما أخبرني به المُخبر،
وهو أن الآنسة لوبيليا لديها أختٌ غير شقيقة أقل جمالًا وأقل تعليمًا،
لكنها قد تكون المفتاح لنا.”
“أخيرًا ستدخلُ في صلب الموضوع، لقد أطلتَ المقدمة.”
“يا لكَ من رجلٍ قليل الصبر! بعد زيارتنا الأخيرة،
بدأت تلك الأختُ في العمل كخادمةٍ في قصر عمتكَ.”
كان لكلماته العفوية هذه وقعٌ كبير.
فرانسيس، الذي كان يبدو غير مهتم بالحديث، التفت فجأة ونظر إلى راندولف بعمق.
“كيف فعلت ذلك؟”
بعد أن حصل أخيرًا على ردّ الفعل المتوقع، ارتسمت على وجه رانولف ابتسامةٌ راضية.
“لا أعرف التفاصيل، ولكن…ما اسمها؟ لوناريا؟
أجل، الأخت الكبرى لوناريا ذهبت لعمتك تطلب توظيفها كخادمة لعدم وجود مَن يساعد.”
توقف راندولف عن الكلام للحظة ليضفي تأثيرًا دراميًا.
“ويبدو أن عمتكَ، بابتسامةٍ مفعمة بالمتعة، وافقت على توظيفها كخادمة!”
“عمتي؟”
عبسَ فرانسيس قليلاً.
“تبتسمُ بمتعةٍ؟ أهذا منطقي؟ يبدو الأمرُ وكأنَّهُ قصةٌ مرعبة. مجردُ تخيلِ ذلك مخيف.”
“حتى أنا أعتقدُ أن هناك بعضَ المبالغةِ في القصة،
لكن وجود الآنسة لوناريا في قصر عمتكَ معروفٌ بين أهل البلدة.”
“لكن عائلتها كانت تبدو ثريةً.”
كان فستان لوبيليا مصنوعًا من قماشٍ فاخر بتصميم عصري، و غير مألوفٍ في الأرياف.
كما أن القلادة الصغيرة التي كانت ترتديها للعبادة كانت تلمع حتى من بعيد.
“لذا الأخت الصغرى تعيش كفتاة أرستقراطية ثرية، بينما تعمل الأخت الكبرى كخادمة؟”
“لقد سمعتُ أن والدهما قام ببيع اللقب النبيل بسبب ديون القمار.
وتقول الشائعات أن لوناريا كانت تبحث عن عملٍ لسداد الديون،
لكن سمعةُ العائلة السيئة جعلت الناس في القرية يشمتون بها ويرفضون مساعدتها.
ولهذا، ذهبت أخيرًا إلى عمتكَ.”
“يبدو أن لقاءنا سيكون مثيرًا.”
“مع الآنسة لوبيليا؟”
“لا، مع شقيقتها الكبرى.”
ارتسمت ابتسامة غريبة على شفتي فرانسيس.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"