“كعكة كريب بطبقات من كريمة الشوكولاتة والفانيليا، مع مربّى توتٍ حلو المذاق فوقها!”
ما إن فرغت من طبق الحساء تمامًا، حتى بدأ الخدم في تقديم أطباق جديدة، واحدًا تلو الآخر.
وكأنّ الطعام الذي تناولته في القصر الجبليّ لم يكن سوى تجربة بسيطة، مقارنةً بهذا الوليمة العظيمة.
كانت شوكة مييلا تتحرّك بلا توقّف.
‘أوووه، يبدو أنّني سأبدأ في انتظار الغداء كلّ يوم!’
أنهت وجبتها وهي في قمّة الرضا، ولمّا همّت بالعودة إلى غرفتها، توقّفت فجأة عند باب غرفة الطعام وقد بدا على وجهها شيء من الصدمة، وكأنّها أدركت شيئًا للتوّ.
“مصيبة.”
“أيّ مصيبة؟”
سألها إيستين بوجهٍ متعجّب، فردّت مييلا وهي تمتم لنفسها، مصدومة من ذاكرَتها الضعيفة:
“…لقد نسيتُ طريق العودة إلى غرفتي.”
“كنتُ أتوقّع هذا، ولهذا أعددت شيئًا لكِ مسبقًا. هاكِ، خذي. هذه خريطة دليليّة للقصر.”
فتّش إيستين في جيبه ثمّ أخرج لفافة صغيرة من الورق مطويّة بعناية.
“خريطة دليليّة؟ مثل الخريطة العاديّة؟”
“فهمتِ تمامًا. إنّها رسمة توضح كيفيّة ترتيب الغرف في داخل المبنى.”
حتى الممرّات التي تؤدّي إلى الأماكن السريّة داخل القصر كانت مُشارًا إليها.
أي أنّ هذه الخريطة لم تكن شيئًا يُعطى لأيٍّ كان.
لكن مييلا الآن خطيبته، وبعد عدّة سنوات ستصبح زوجة وريث الدّوقيّة.
لذا فهي عمليًّا أصبحت من أفراد عائلة فالوار.
“لكن… لا أستطيع فهمها. لا أستطيع التمييز بين ما هو ما…”
قالت مييلا ذلك بعد أن رمقت الخريطة طويلًا بعينين مثقلتين، ثمّ أزاحت رأسها بالنّفي.
لقد بدت تركيبة الطّوابق معقّدة بشكلٍ يذكّر بالمتاهة، وما إن ركّزت بصرها لمدّة طويلة، حتّى بدأت الدّنيا تدور أمام عينيها.
“لا بأس، أنا هنا.”
طمأنها إيستين. لكن حين نطق بتلك الكلمات، شعر أنّها قد تكون جُملة غير مسؤولة.
فهو سيحاول البقاء إلى جانبها دائمًا، لكنّ الواقع لا يسمح بذلك كلّ يوم.
ربّما جعْلها تعتمد عليه بالكامل لم يكن لطفًا، بل أنانيّة مقنّعة.
‘ما هي أفضل طريقة لمساعدتها؟’
أراد أن يُساعد مييلا لتتأقلم مع هذا القصر. أرادها أن ترتاح حتى في غيابه.
وبعد تفكير، أمسك إيستين بيدها وبدأ يقودها إلى مكانٍ ما.
“إلى أين نحن ذاهبان؟”
“سأُريك القصر بنفسي. فمن الأفضل أن تتجوّلي فيه بنفسك بدلًا من الاكتفاء بالنّظر إلى خريطة.”
وهكذا بدأت نُزهتهما داخل القصر.
خشية أن تفقد أثره وتضلّ طريقها، أمسكت مييلا بيده بقوّة. وكان هناك كثيرٌ من العيون تراقبهما باهتمام.
“يا رفاقَ، انظروا إلى هناك!”
“أوه، إنّه السيّد الصّغير! إنّه يتمشّى مع السيّدة الصغيرة.”
كان صبيّ صغير يقود فتاة ذات ملامح حائرة. نظرت إليهما إحدى الخادمات وهمست بلا وعي:
“يبدوان كأخ وأخت مُتفاهمين.”
فصاحت بها خادمة أخرى وهي تصرّ على كتم فمها:
“هيه! لا تتفوّهي بكلامٍ كهذا! السيّد الصّغير يكره ذلك. أعني، لا يحب أن يُقال إنّه ‘مثل الأخ الأصغر’.”
“حقًا؟!”
ولحسن الحظ، لم تصل تلك الهمسات إلى مسامع إيستين. فقد كانت كلّ حواسه منصبّة على مييلا فقط.
“إن ذهبتِ بهذا الاتجاه، ستصلين إلى مكتب والدي.
أردتُ أن أُريك إيّاه، لكنّه مغلق على الأرجح لأنّ والدي ليس في القصر حاليًّا.”
وأشار إيستين بعينيه نحو باب المغلق، وواصل التقدّم دون أن يطيل الوقوف في مكانٍ واحد، بسبب كِبر حجم القصر.
“هنا المكتبة. تحتوي على عشرات الآلاف من الكتب.
وإذا رغبتِ في قراءة أيّ منها، فما عليكِ سوى إخبار الخادم المسؤول.”
هزّت مييلا رأسها فهمًا، ثم تذكّرت فجأة:
“آه، صحيح! لكن، أنا لا أعرف القراءة…”
“…صحيح، نسيتُ ذلك.”
تغيّر وجه إيستين حين أدركَ زلّته، لكنه سرعان ما تدارك الموقف قائلًا:
“لا بأس، سأحرص على توظيف معلّمة خاصّة لكِ قريبًا.
ستتعلّمين القراءة وبعض الأساسيات والآداب أيضًا.”
“حقًا؟ يعني سأتمكّن من قراءة الروايات أيضًا؟”
كان يتوقّع منها أن ترفض أو تتذمّر من فكرة الدراسة، لكن ردّ فعلها جاء على عكس توقّعاته.
“بالطبع.”
“واو، هذا يُحمّسني كثيرًا! سأقرأ كتابًا جديدًا كلّ يوم!”
ابتسمت مييلا بسعادة. لقد كان ذلك طموحًا جميلًا منها.
“هاه…! آه، لكنّنا نضيع الوقت الآن.
هيا بنا نُكمل الجولة، وإلّا فلن نتمكّن من رؤية نصف القصر حتى!”
ضحك إيستين دون قصد، ثم تابع خطاه متظاهرًا بالجدّية.
“هنا الحديقة. حديقة أماميّة تحديدًا.”
“تشبه المتاهة! قد أضيع فيها إن مشيتُ وحدي!”
كانت مييلا تُقلّب بصرها في الأرجاء، وقد تغيّرت ملامح وجهها بين الدّهشة والإعجاب وبعض الخوف.
فاقترب منها إيستين وهمس بهدوءٍ في أذنها:
“في الحقيقة، أنا أيضًا ضعت هنا ذات مرّة. حين كنت أصغر سنًّا.”
لكن مييلا لم تستطع أن تتخيّل إيستين أصغر من عمره الحالي.
“…حين كنتَ رضيعًا؟ في مرحلة المشي المتعثّر؟”
“لم أكن بذلك الصّغر. لكن على أيّ حال، كوني حذرة.”
أومأ إيستين برأسه نافيًا بابتسامة.
“يوجد حديقة خلفيّة أيضًا.
هناك بيت زجاجيّ تحتفظ فيه أمّي بالنّباتات الّتي تُحبّها.
يتمّ التحكّم فيه بالسّحر، لذا يكون دافئًا في الشّتاء وباردًا في الصّيف.”
“واو، يبدو رائعًا! أودّ الذهاب إليه!”
“لكن لا يمكنكِ دخوله دون إذن أمّي. جرّبي أن تطلبي منها بنفسك لاحقًا.”
“أ… أطلب منها أنا؟”
رغم أنّها قد عانقتها من قبل، وبكتا معًا، لا تزال مييلا تجد ريجينا مخيفة بعض الشيء.
ربّما بسبب تلك الهالة الباردة الّتي تحيط بها.
لكن في نظر إيستين، كانت أمّه قد بدأت بالفعل تُبدي اهتمامًا واضحًا بمييلا.
“نعم. أعتقد أنّها ستوافق بسهولة. وربّما تُرافقك بنفسها في جولة داخل البيت الزجاجي.”
“هُـم… حسنًا، سأحاولُ طلب ذلك.”
تردّدت قليلًا، لكنّها وافقت في النهاية وأومأت برأسها.
“جيّد. والدتي تُحبّ من يتحلّى بالشّجاعة. حسنًا، لِنَذهب إلى ساحة التّدريب في الجهة الأخرى.”
“ساحة تدريب؟ ما الّذي يُفعل هناك؟”
“هي المكان الذي يتدرّب فيه فرسان العائلة على فنون القتال.”
لو لم يكن قد وقع تحت تأثير تلك اللعنة، لكان إيستين أيضًا من بينهم حاليًا، يتدرّب على بناء جسده.
والآن، بعد أن استعاد صحّته، فقد حان الوقت ليبدأ بتعلّم السّيف. فذلك من أساسيات النبلاء في الإمبراطورية.
‘وفوق كلّ شيء، أريد أن أُحمي مييلا.’
لقد امتلك الآن سببًا حقيقيًّا ليُصبح أقوى. لكنّه لم يستطع البوح به بصوتٍ عالٍ بسبب الخجل.
“إذًا، لنذهب… أُوه؟”
وبينما همّ بمواصلة السّير، ظهرت عربة قادمة نحو البوّابة الأماميّة للقصر.
كانت العربة تبدو فخمة وذات طابع مهيب مقارنةً ببقيّة العربات.
التعليقات لهذا الفصل " 33"