عادت إليسا بدورها إلى القاعدة البحرية بعد انتهاء الرحلة البحرية.
كان عليها تفقد حالة السفينة تينيسي التي أنهت مهمتها، ومراجعة التقارير التي وردت أثناء مشاركتها في الحفلة المقامة على متن السفينة.
وبينما كانت إليسا منهمكةً في إنجاز الأعمال المتراكمة، سُمع صوت طرقٍ على الباب.
“تفضل.”
“سيدتي الأدميرال، لقد فُتح السجن تحت الأرض.”
“لم أصدر أمرًا بذلك؟ من تجرأ على ارتكاب هذا التصرف الأهوج؟”
“الأمر هو أن نائب الأدميرال قام بفتح باب السجن تحت الأرض.”
“ومن الموجود في الداخل؟”
“لا نعلم. لم نتمكن من التحقق. نعتذر.”
فوضعت إليسا القلم على المكتب بقوة.
“سأذهب بنفسي.”
‘من الذي تجرأ على حبس شخصٍ هناك دون إذني؟’
هل يعاقب أحدًا من بحريتي؟
مهما كان أدريان أوبرون متهورًا، ومهما استهان بها، فلا يمكنه أن يخرق قوانين البحرية.
وإن كان يفعل ذلك فعلًا….
‘فالزواج وغيره إلى الجحيم، سأقتل أدريان بتهمة عصيان الأوامر.’
تحركت إليسا بخطواتٍ سريعة نحو السجن تحت الأرض. لكن عندما فتحت باب السجن، كان الشخص المرتجف من الخوف هو غارون هايسن.
فأدركت إليسا مجددًا كم كان إيمانها بأدريان أوبرون سطحيًا، وكادت تطلق ضحكةً ساخرة.
تجمد أدريان أوبرون في مكانه فور رؤيته إليسا، وهو لا يزال موجّهًا مسدسه نحو غارون.
بينما تقدمت إليسا نحوه متجاهلةً غارون هايسن الزاحف على أرض السجن القذرة واللزجة، واقتربت من أدريان المتصلب كالصخر.
“لماذا استدعيتَ غارون هايسن إلى البحرية؟ اشرح.”
“برأيكِ لماذا فعلتُ ذلك؟”
كان السجن مظلمًا جدًا لدرجةٍ يصعب معها رؤية تعابير أدريان، لكن صوته، وربما كان ذلك مجرد وهم، بدا مرتجفًا بالقلق.
‘بعد أن فتح باب السجن دون إذني، والآن يقلق؟’
كادت إليسا أن ترد عليه تلقائيًا بسؤالٍ ساخر، لكنها نظرت إلى غارون هايسن الملقى على الأرض في حالة يرثى لها.
فبدلًا من الصراخ، رفعت رأسها وحدقت في أدريان مباشرة، كما كانت تفعل الفتيات المعجبات به على متن السفينة السياحية.
“أليس من أجلي؟”
“هـ.…؟”
بان الارتباك في صوت أدريان. ومع تكيّف عيني إليسا مع الظلام، بدأت تلتقط ملامح وجهه.
بدا وكأنه لا يفهم الوضع. و وقف أدريان أمامها بوجهٍ نادرًا ما بدا عليه هذا القدر من الذهول.
أمسكت إليسا بيد أدريان. فارتعش أدريان بعنفٍ وكأنه صُعق بالكهرباء، لكنه لم يسحب يده.
وبينما كان ينظر إليها ببلادة، أدخلت إليسا أصابعها بين أصابعه وانتزعت المسدس من يده.
“هؤلاء الذين أهانوني ظهروا حتى هنا، أليس طبيعيًا أنكَ لم تستطع تجاهل الأمر؟”
“….أنتِ تصدقين ما قلتُه؟”
“.…؟ بالطبع أصدق.”
لم تعرف إليسا من أين جاء هذا الإيمان غير المنطقي، لكنها سايرت الجو.
‘ما الذي يتوهمه هذا الأحمق أدريان أوبرون الآن؟’
امتلأ وجه أدريان بالفرح، وكان وجهه الوحيد المتلألئ في ظلمة السجن الدامسة. فاقترب من إليسا خطوةً بعد أخرى.
لكن إليسا، حتى لو كان الأمر تمثيلًا، لم تعد ترغب بأي احتكاكٍ غير ضروريٍ معه. لقد ذاقت ما يكفي على متن السفينة، ولم يكن لديها أي نيةٍ لتكرار مثل هذا “الحادث”.
تراجعت نصف خطوةٍ دون أن يلاحظ أدريان، ووضعت يدها على كتفه، ثم ضغطت بذراعها لتمنعه من الاقتراب أكثر.
“لكن يا أدريان، لا حاجة لأن توسّخ يديكَ من أجلي.”
رفعت إليسا المسدس الذي انتزعته. ولأن إحدى يديها كانت تمنعه من الاقتراب، استخدمت يدًا واحدة لتفريغ كل الطلقات من المسدس المحشو، ثم رمت المسدس الآمن بعيدًا.
“أوغ.”
لم يتدحرج المسدس على الأرض، بل اصطدم بظهر غارون هايسن وارتد.
لكن أدريان تصرف وكأن غارون لم يعد مرئيًا ولا مسموعًا. و كان كل وعيه منصبًا على إليسا.
“أعلم. أعلم أنكِ تنجزين كل شيءٍ بإتقان دون الحاجة إلى تدخلي.”
“صحيح. لا داعي لأن تتعامل مع أمثال هؤلاء. اطرده فورًا خارج البحرية.”
“لكن إليسا، لم نقطع لسان هذا الوغد بعد.”
قال أدريان ذلك بوجهٍ لا يحمل أي انفعال.
“إيييك!”
ارتفع صوتٌ كهذا من عند قدميها. فألقت إليسا نظرةً سريعة وتجاهلت الأمر.
“لا يستحق ذلك أصلًا.”
شدّت إليسا الحبل الموجود داخل السجن، فدوى صوت الجرس في المكان. و عند سماعه، هرع معاون أدريان من الخارج.
وما إن رأى إليسا في الداخل حتى ارتجف جسده من الصدمة.
“إن وقفت الحراسة بهذا الشكل، فحتى طفلٌ سيتمكن من اختراق حدود البحرية.”
“أ، أعتذر!”
“أخرج هذا الشيء. خذه خارج القاعدة البحرية مباشرة. البحرية لا علاقة لها بالأمر. تأكد من ألا تحدث أي مشكلة، وتولى تنظيف العواقب كما يجب.”
“نعم. سألتزم بذلك.”
غادر معاون أدريان السجن تحت الأرض وهو يحمل غارون هايسن المنتحب على ظهره.
كان سيد أسرة هايسن تابعًا لدوقية أوبرون الكبرى. وعلى أي حال، مهما حدث لابنه، فإذا كان الطرف الآخر هو دوق أوبرون المستقبلي فلن يجرؤ على إثارة المشكلة بتهور.
ولعل أدريان أوبرون ارتكب مثل هذا الفعل داخل البحرية وهو واثقٌ من ذلك.
“لماذا لم تقطعي لسان غارون هايسن؟”
“لو كنت سأقطع ألسنة الناس كلما غضبت، لكنتُ قطعت لسانكَ أنت أولًا يا أدريان أوبرون. ولسانكَ ما زال سليمًا حتى الآن، فما السبب الذي يجعل لسان غارون هايسن وحده لا يبقى في مكانه؟”
“.……”
تجمد أدريان كالصخر أمام لذع كلمات إليسا. وحين اختفت العيون المراقبة، نظرت إليه إليسا ونقرت لسانها نقرة قصيرة.
“الآن قل السبب الحقيقي.”
“السبب الحقيقي؟”
“أقول لكَ، قل السبب الحقيقي الذي جعلكَ تجرّ ذلك الوغد إلى بحريتي.”
ظل أدريان صامتًا طويلًا، ومع ذلك كان ينظر إلى إليسا بعينين ممتلئتين بالكلام الذي يريد قوله. لكن إليسا لم تفهم لماذا ينظر إليها بتلك النظرة المختنقة.
“أهذا سؤالٌ صعب إلى هذا الحد؟”
“لقد قلتِ السبب بنفسكِ قبل قليل.”
“ماذا، ذلك الهراء عن أنكَ فعلت ذلك من أجلي؟ كان مجرد تمثيلٍ لأتظاهر بدور الخطيبة.”
“.……”
“ومن يتهم من أصلًا بإجادة التمثيل.”
خفض أدريان بصره إلى الأرض دون أن ينبس بكلمة، ثم انحنى والتقط المسدس والطلقات التي كانت إليسا قد رمتها.
كان أدريان أوبرون الوقح يحاول مغادرة السجن دون إجابة، فأمسكت إليسا بقفاه بقوة.
“ألا تعلم أن إدخال سجينٍ إلى غرفة التعذيب في السجن تحت الأرض دون تقريرٍ مسبق يعني أنكَ لن تفلت من الحبس التأديبي؟”
“أعلم.”
“إذًا أجب.”
“وأعلم أيضًا أن القائد العام ونائب القائد مستثنيان من هذا الميثاق.”
قال كلمته تلك وخرج أدريان من ممر السجن تحت الأرض، ثم أمسك بالباب الحديدي واستدار ناظرًا إلى الخلف.
“لن تخرجي؟”
“….تسك، ولماذا تعرف مثل هذه المراسيم العتيقة أصلًا؟”
“متى ستعترفين بحقيقة أنني نائب قائد البحرية؟”
“وهل كنتَ يومًا شخصًا يحتاج إلى اعترافي، يا أدريان أوبرون؟”
“نعم، هكذا تكون إليسا شوتر التي أعرفها.”
وبينما تبادلا هذه الجمل ذهابًا وإيابًا، كانا قد وصلا إلى نهاية ممر السجن تحت الأرض.
وما إن خرجا إلى السطح حتى ظهرت فرقة الحرس الملكي التي كانت قد نزلت إلى روسيريكا لمرافقة الملكة.
“جلالة الملكة ترغب في مقابلتكما. تفضلا معنا.”
وحين اقترب الحرس الملكي، تقدّم أدريان خطوةً إلى الأمام أمام إليسا، فحجب جسده نصفها، حتى إنها لم تتمكن من رؤية وجوههم جيدًا.
“ما الأمر؟”
“لا توجد تعليماتٌ أخرى سوى أن جلالة الملكة ترغب في مقابلتكما شخصيًا.”
قادهم الحرس الملكي إلى مكتب إليسا. و كانت الملكة في الداخل تصب الشاي في ثلاثة فناجين.
لكن تحت هذا المظهر المتكلف من الهدوء، كان كل من إليسا وأدريان يعلمان جيدًا أن الملكة تخفي انزعاجها.
“لا داعي لكل هذا التوتر. اجلسا.”
وما إن جلس الاثنان حتى فتحت الملكة فمها مباشرة.
“إنه عنيدٌ أكثر مما توقعت. سمعت أن شلريد محافظةٌ جدًا في العلاقات بين الرجال والنساء. فما مشكلة شولتز توغراهن بالضبط؟ تسك. حتى بعد أن رأى القبلة بينكما، يبدو أنه ما زال يطمع بكِ، يا أدميرال شوتر.”
“كـ، كُهك—”
وما إن خرجت كلمة “قبلة” الصريحة من فم الملكة، حتى اختنقت إليسا وهي تبتلع رشفة الشاي.
التعليقات لهذا الفصل " 29"