كان أدريان يواصل البحث عن إليسا التي خرجت مسرعةً من الغرفة بعد شجارها معه.
و ظل يتوه في قاعة الحفل ويدور فيها مرةً بعد مرة بعدما كان قد طافها عدة دوراتٍ بالفعل.
وفي أثناء ذلك كان يصدّ بإصرارٍ السيدات الشابات اللواتي يتوسلن إليه لرقصةٍ واحدة، وأبناء النبلاء المتلهفين لالتقاط أي فتاتٍ من النفوذ، ومع هذا ظلوا يتشبثون به بإلحاح.
أما الشخص الذي يبحث عنه حقًا فلم يرَ حتى طرف فستانه.
والسبب الذي منعه من مغادرة قاعة الحفل رغم أنه تفقدها مرارًا، هو يقينه بأنه إن ترك إليسا الآن فستقضي ليلتها بأكملها تستمتع في مكانٍ لا يكون هو فيه.
وكان من الواضح أن أدريان أوبرون سيُترك وحيدًا ينتظر من لن تأتي. لذا بدا له هذا الخيار أهون الشرين.
ثم، وكأن شدة توقه قد وصلت، ظهرت إليسا في قاعة الحفل بعد قليل. غير أن هناك من سبق إلى الوقوف إلى جوارها.
ريا ميتيلّا. ابنة البارون المدللة التي أنهت لتوها حفل ظهورها الاجتماعي. ما الذي يجمعها بإليسا؟
ظل يراقب حديثهما طويلًا محاولًا فهم الأمر، لكنه لم يخرج إلا بحقيقةٍ واحدة: أنها تحب إليسا حبًا شديدًا وتتبعها بإخلاص، وبقدر ذلك تكن له كراهيةً مقيتة.
كان بوسعه أن يتحمل هذا. بل وكان يستطيع تحمل تلك التكهنات السخيفة بأن إليسا قد تضطر إلى التنحي عن منصبها كأدميرال للبحرية إن تزوجته.
لكن ما لم يستطع احتماله هو منظرها وهي تتذرع بصغر سنها وطيشها لتندس في حضن إليسا. حتى لو كان الطرف الآخر من الجنس نفسه.
تقدم أدريان بسرعة. وبشق الأنفس، وقبل أن تلامسها تمامًا، تمكن من إبعادها.
غير أن ريا ميتيلّا، وقد أمسك أدريان بكتفيها، راحت على العكس تحذره وتقاوم محاولةً حماية إليسا.
“لن أسمح لأيٍ كان بأن يأخذ أدميرالتنا! ابتعد عنها فورًا!”
عندها هز أدريان رأسه ساخرًا وأطلق زفرةً طويلة.
“يبدو أن المنافسين كُثر.”
“ماذا قلتَ الآن؟”
العينان اللتان كانتا تنثنيان بابتسامةٍ مشرقة أمام إليسا، تحولتَا إلى مثلثين حادين ما إن نظرتا إلى أدريان.
“إن لم تسمعي فلا بأس. على أي حال، يبدو أن جولة البوكر على طاولة البارون ميتيلّا أوشكت على الانتهاء. أليس من الأفضل أن تصعدي إلى المقصورة قبل أن يُكشف أمركِ وأنتِ ثملة؟”
“آه! لا، هذا لا يصح. يا أدميرالتنا، سأسبقكِ إذاً! أنا آسفة!”
ألقت الآنسة ميتيلّا تحيتها على إليسا وحدها متجاهلةً أدريان تمامًا، ثم اختفت مسرعةً من قاعة الحفل.
وبينما كان أدريان يتنفس الصعداء بعد أن أبعد الآنسة ميتيلّا عن جانب إليسا، شعر بشيءٍ من النفور وعدم الارتياح.
كان الأمر غريبًا على غير العادة. فإليسا، في الأحوال الطبيعية، كانت ستنفجر غضبًا لحظة اختفاء الآنسة ميتيلّا، متسائلة عن سبب تدخله. لكنها اليوم كانت هادئةً على نحوٍ مريب.
وقفت باستقامةٍ تليق بالبحرية، غير أن عينيها كانتا شاردتين بلا تركيز.
لم يكن من المعقول أن تثمل إليسا لمجرد بعض النبيذ. ومع ذلك، وبرغم هذا الشك، أسندها أدريان إلى صدره.
كان واضحًا أنها ثملة. فهي لم تكن لتستند إليه دون مقاومة. فشدّ أدريان على أسنانه من الداخل وهو يشعر بحرارة جسدها اللين بين ذراعيه.
“ماذا كنتِ تفعلين قبل أن تلتقي بالآنسة ميتيلّا؟”
“كنا نلهو.”
“مع من؟”
“مع إينوك، ونيكسون، وغارون.”
كان إيقاع كلماتها أبطأ بكثيرٍ من المعتاد. لكن أدريان لم يكن في حالةٍ تسمح له بملاحظة هذا التغير.
فمنذ أن خرج اسم إينوك من فمها وقد تصلب وجهه، وحين ذُكر اسم غارون تسللت إلى ملامحه نار الغضب.
تخيل أدريان ما الذي يمكن أن يكون أولئك الحمقى قد قالوه لها مرةً أخرى، وشعر بدوارٍ خفيف من شدة الغيظ.
إينوك فيتزجيرالد كان مفهومًا. رغم كرهه للاعتراف بذلك، إلا أنه كان واحدًا من قلةٍ من خريجي الأكاديمية العسكرية الذين تثق بهم إليسا.
وخلال الفترة التي غاب فيها أدريان عن جانبها، كان إينوك هو من ملأ ذلك الفراغ. وهذا وحده كافٍ ليطحن أسنانه حنقًا.
لكن ما الذي جاء باسم غارون هايسن أيضًا؟
“وماذا كنتِ تفعلين معهم؟”
عصر أدريان صوته عصرًا وهو يكبح غضبه المتأجج.
لكن لم يأتِه رد.
حين نظر إلى الأسفل، كانت إليسا قد تراخت تمامًا بين ذراعيه. فحملها أدريان بحذر.
“إليسا، هل تستطيعين المشي؟”
كان سؤالًا وقحًا بعض الشيء وهو يحمل جسدها كاملًا، ومع ذلك لم تصدر عنها أي إجابة. و جفونها المغلقة بإحكام لم تبدِ أي نيةٍ للانفتاح.
كانت وضعيتها تشبه تمامًا ما كانت عليه في قاعة الحفل قبل قليل، لكن رد فعلها اختلف كليًا.
اختفى مشهدها وهي تصرخ في وجهه مطالبةً إياه بإنزالها، وحل محله الآن جسدٌ نائم بين ذراعيه يتنفس بعمق.
و لم يكن أمام أدريان إلا أن يكتشف بنفسه ما الذي كانت إليسا تفعله مع إينوك وغارون ونيكسون أولئك الضباط البحريين.
لكن قبل كل شيء، كان عليه أن ينقل إليسا إلى مكانٍ آمن. فلم يكن يرغب أبدًا في أن يراها الآخرون وهي على هذه الحال من العجز.
***
أخذها أدريان مباشرةً إلى المقصورة و وضعها على السرير.
و لولا الاحمرار الخفيف حول أذنيها، لما خُيّل لأحدٍ أنها ثملة، فقد كان وجهها صافياً هادئًا.
ظل يحدق في ملامحها النائمة طويلًا. كان يدرك جيدًا أنه إن لم يكن الوقت وقت نوم، فلن تتاح له مثل هذه الفرصة.
صم تقلبت إليسا وهي تتمتم بتبرمٍ خفيف، فجمع أدريان بحذر خصلات شعرها الأحمر التي كانت تدغدغ عنقها وصدرها، وأبعدها جانبًا.
عندها فقط بدا وجهها أكثر ارتياحًا.
“إليسا.”
“هممم.”
حتى هذا الرد اللطيف على ندائه، لم يكن ليناله إلا وهي نائمة. وربما لن يناله أبدًا.
ومع ذلك، كان لا بد أن يكون ذلك كافيًا.
‘لكن، اسمعي….’
“إليسا، هل نسيتِ كل شيءٍ حقًا؟ هل لم يبقَ لي في ذاكرتكِ سوى ذلك المشهد البشع؟”
تمتم بملامح مشوهة يعتصرها الألم، وفي المقابل كانت شفتا إليسا ترتفعان بهدوء، دون أدنى تجعدٍ بين حاجبيها، بملامح غارقة في السكينة.
“تلك الوعود التي تبادلناها قبل ذلك، أحقًا لا تتذكرين منها شيئًا؟”
ورغم تعبيره المعذب، مدّ أدريان يده وربّت على جبينها المستدير، كأنه لا يطيق صبرًا إن لم يلمسها. ومع ذلك لم تستيقظ.
انزلقت أصابعه من على خدها الناعم حتى لامست شفتيها الحمراوين. ثم نهض أدريان من السرير على الفور.
لم يكن قد نوى أصلًا أن يبيت في هذا المكان ولو ليلة واحدة. فما دام هو هنا، فلن تنام إليسا هنا أبدًا.
***
أغلق أدريان باب الغرفة بأقصى ما يستطيع من هدوء. فلم يشأ أن تستيقظ إليسا.
رغم أنه لم يمكث هناك إلا قليلًا، شعر وكأن رائحة السيجار قد علقت بملابسه، فاستبد به ضيقٌ شديد. و قادته قدماه تلقائيًا نحو السطح، فقد أراد أن يبدد هذه الرائحة بالهواء.
لكن حين وصل أدريان، كان هناك شخصٌ آخر حاضر. شخصٌ لم يكن يريد لقاءه أبدًا.
وقد كان على وشك أن يستدير ويغادر قبل أن يُلحظ وجوده.
“يا سيد أوبرون الصغير، لِمَ الرحيل دون كلمة؟”
“يا ملك شولريد، لم أرد أن أُقحم نفسي في وقت جلالتكَ الهادئ.”
“إقحام؟ كلا، ليس كذلك. تعال إلى هنا.”
وعند كلمات شولتز توغراهان، لم يجد أدريان بدًا من التقدم إلى السطح.
“ما الذي أخرجكَ في هذا الوقت من الليل؟”
“بدت إليسا مرهقةً فغلبها النوم باكرًا. أما أنا فخرجت قليلًا لأستنشق بعض الهواء.”
“أيعقل أن أدميرالًا تطارد القراصنة في عرض البحر يرهقها مجرد حفلٍ على متن سفينة؟”
“كما تعلم، نحن العسكريين نجد قاعات الحفلات الاجتماعية أشد إنهاكًا من ساحات القتال. من الطبيعي أن تتعب.”
كانت إجابات أدريان تنساب بسلاسةٍ تامة، كأن لسانه مدهونٌ بالزبد.
فحدّق فيه شولتز توغراهان مليًا، ثم طرح سؤالًا جديدًا.
“هل تحب الأدميرال شوتر حبًا صادقًا، يا سيد أوبرون؟”
فهم أدريان نية السؤال في الحال. كان سؤالًا خبيثًا، كأنه يقول أنه يعلم كل شيءٍ عن سوء العلاقة بينه وبين إليسا.
لذا ابتسم أدريان وكأنه لا يدرك شيئًا.
“لو لم يكن حبًا، فلماذا أبقى إلى جوارها وأعدها بالزواج؟”
“إن كنتَ تحبها حقًا، أليس الأولى أن ترسلها إلى شولريد؟”
“وهل يوجد رجلٌ يقف متفرجًا بينما المرأة التي يحبها تتبع رجلًا آخر إلى بلدٍ أجنبي؟”
حتى تلك اللحظة كان وجه أدريان محتفظًا بهدوئه. ولمَ لا؟ فإليسا لم تكن ترغب بالبقاء إلى جانبه، لكنها كانت تكره وطأة أرض شولريد أكثر من ذلك.
ولهذا لم يكن ادعاء خطوبتها بأمرٍ ملكي أو قسرًا إلا تمثيلًا لا غير.
لكن ما إن سمع كلمات شولتز توغراهان التالية، حتى عجز عن إخفاء تعابيره.
“لكن إن بقيت إلى جواركَ، فلن تكون سوى ابنة عاهرة أغوت دوقًا مستقبلياً بجسدها.”
“كيف يتفوه ملك دولةٍ بمثل هذا الكلام السوقي—”
“أليست هذه حال اللقيط في سيفيا؟ هي نفسها تدرك ذلك أكثر من أي أحد. وحين لا تكون حاضرًا، فالكل يتحدث عنها بهذه الطريقة.”
ما إن انتهى شولتز توغراهان من كلامه، حتى تشقق القناع الزجاجي الأملس الذي كان يرتديه أدريان أوبرون.
“….…”
“لكن إن جاءت إلى شولريد، أضمن لكَ أنها ستُعامل كملكةٍ نبيلة وافدةٍ من الخارج. ففي شولريد لا وجود لمفهوم الإبن غير الشرعي. ابن الملك هو ابن الملك، وابنة النبيل هي ابنة النبيل، لا أكثر.”
“….…”
“فكّر مليًا. إن كنت تحبها حقًا، فأي قرارٍ يجب أن تتخذه؟”
قال شولتز توغراهان ذلك ثم استدار مبتعدًا. وبعد أن ابتعد قليلًا، راقب أدريان أوبرون المتجمد في مكانه برهة، ثم تمتم بلغة شولريد.
“مثيرٌ للاهتمام. أدريان أوبرون يبدو صادقاً.”
أن يرى وريث فرسان شمال سيفيا، الذين لا يقلون بأسًا عن فرسان الإمبراطورية، يرتسم على وجهه مثل هذا التعبير بسبب امرأةٍ واحدة ذات شعر أحمر.
أثار ذلك فضوله لمعرفة أي شخصٍ تكون هذه المرأة.
__________________
حلو رايع فنتاااااااستككك
حسبت ادريان بيجيه فلاش باك وش قالها صدق ونسته خير ليه بس قاعد يشكي انها نست طيب ذكرنا معك😭
المهم ادريان ان كانك رجال تمسك في اليسا الحين شولتز ذاه يسوي كذا وهو ماحبها كيف لا حبها عاد!
التعليقات لهذا الفصل " 25"