معلمي قد جُنّ [ الفصل 53 ]
حدّق جايد في الزهرة لبرهة، ثم حوّل نظره ببطء نحو مييل.
وما إن التقت عيناه بها، حتى انفرجت ملامحه المتصلبة على الفور.
لم يستطع أن يشيح بنظره عن مييل التي كانت تحدّق به بعينين مشرقتين.
كان الجو في الحديقة السحرية، المتوشحة بظلال الغسق، كفيلاً بتحريك مشاعر أيٍّ كان.
‘ لكن… هل الأمر مجرد أجواء؟‘
تساءل جايد في نفسه.
لم يكن الجو ولا الظرف وحدهما من جعل قلبه يخفق بذلك الشكل المحموم.
جعل يتأمل وجه مييل بدقة بعينيه الحمراوين العميقتين، حاجباها المرسومان، رموشها الكثيفة التي تظلل عينيها الذهبيتين الحالِمتين، انحناءة أنفها الرقيق، شفتيها الورديتين دائمًا، وبشرتها الناعمة الشاحبة.
وبدون أن يشعر، رفع يده نحوها… لكنه تدارك نفسه وخفضها سريعًا.
“… معلمي؟“
نادته مييل وقد استشعرت غرابة في نظراته الطويلة.
فبادر جايد بردٍّ وكأن شيئًا لم يكن:
“ آه، خُيّل إليّ أن هناك شيئًا على وجهك، لكن يبدو أنني كنت مخطئًا.”
أدار وجهه عنها ليخفي اضطراب ملامحه ونبض قلبه المتسارع.
‘ لقد كنت على وشك لمسها…’
كاد أن يمد يده لوجه مييل، ولحسن الحظ تراجع في اللحظة الأخيرة.
“ على كل حال، عودي إلى غرفتك واستريحي يا مييل. سننطلق إلى الحدود الشمالية صباح الغد.”
أمالت مييل رأسها باستغراب.
‘ هل كان يمزح؟‘
“ سأذهب إلى الحدود أيضًا؟“
لم تكن مييل قد تعلمت تعاويذ متقدمة بعد، ولم تكن تظن أنها ستكون ذات فائدة حقيقية هناك.
“نعم .”
التفت إليها مجددًا، وكانت نظراته قد استعادت جديتها.
“ سأتوجه بنفسي إلى الحدود الشمالية، وأنتِ ستأتين معي. شاهدي وتعلّمي. رؤية السحر واسع النطاق تختلف تمامًا عن سماعه أو دراسته.”
ترددت مييل.
هل كانت بحاجة فعلًا لتعلّم هذا النوع من السحر؟
‘ ليس وكأنني أنوي أن أصبح ساحرة كبرى.’
لكن… من بوسعه معارضة أمر معلمها؟ فما كان منها إلا أن أومأت بطاعة:
“…حسنًا .”
“ جيد. إذن ارتاحي الليلة.”
وما إن غادرت، حتى قبض جايد على قبضته بإحكام، دون وعي.
كنت أظن طوال الوقت أن مييل وحدها من تحمل مشاعر تجاهي.
كان يعتقد أنها مجرد مشاعر من طرف واحد، رغم علمه بما تحمله في قلبها.
لكن الآن…
قلبه ينبض مجددًا بجنون.
كانت مييل دائمًا جميلة ولطيفة، لكن في هذه الليلة تحديدًا، باتت تشكّل خطرًا حقيقيًا على هدوئه المعتاد.
‘ اللعنة… عليّ الاعتراف بالحقيقة.’
لقد وقع في حبها… حبًا عميقًا.
لكن المشكلة الحقيقية لم تكن في مشاعره.
بل في سوء فهمه الكبير—
إذ كان يعتقد أن مييل تكن له إعجابًا بلا أمل، لا يتعدى كونه شعورًا من طرف واحد.
“تثاؤب …”
أطلقت مييل تثاؤبًا عاليًا وهي تغادر الحديقة السحرية عائدة إلى غرفتها.
“ مييل! أين كنتِ؟!”
بمجرد دخولها، دوّى صوت كوسيليكو. ورفرفت أجنحة الطائر الصغير الذي كان مسترخيًا داخل الغرفة سابقًا.
“ كوكو؟ استيقظت؟“
“ طبعًا! اختفيتِ فجأة ولم أستطع رؤيتك! أقلقتني كثيرًا!”
“ آه، كنتُ فقط أتحدث مع شخص ما.”
ابتسمت مييل بلطف وهي ترد عليه، ثم دخلت الحمّام لتغتسل بسرعة.
“ ما الذي يحدث؟!”
رفرف كوسيليكو بجناحيه وحطّ على كتف مييل مستفسر.
“ ولي العهد مرّ بالمكان قبل قليل. يبدو أن هناك ازديادًا مفاجئًا في نشاط الوحوش على الحدود.”
“؟ “
“ قالوا إن عددها ارتفع بنسبة تتراوح بين 1.5 إلى 1.7 عن المعتاد.”
قالت مييل وهي تجلس على سريرها.
فتغيرت ملامح كوسيليكو إلى الجديّة.
“ كل هذا العدد؟“
“ أجل… الوحوش ليست مجرد مخلوقات تتغذى على المانا. على حسب علمي فهي تنشأ من السحر الفاسد…”
تمتمت مييل بما تعرفه عن الوحوش، بينما قفز كوسليكو من كتفها واستقر على حجرها.
“ صحيح. لكن تعلمين… أصل الوحوش كلّه بدأ من ساحر واحد.”
اتسعت عينا مييل بدهشة من لهجة كوسيليكو الجادة.
ظنت أنها أخطأت الفهم.
“ ماذا؟ ساحر؟ هل تقصدين أن ساحرًا هو من خلق الوحوش؟“
سألته مرة أخرى مذهولة، فأومأ كوسثليكو بإيجاب حازم.
“ نعم. تقنيًا، الوحوش هي ثمرة سحر الظلام.”
“ سحر الظلام…”
كان من أقوى أنواع السحر، لكنه يستنزف حياة مستخدمه.
هذه هي سِمته الأساسية.
وكان من بين تعاويذه ما يُستخدم مباشرة على الكائنات الحية.
“ إذا كانت الوحوش ناتجة عن سحر الظلام… أعتقد أنني بدأت أفهم.”
أومأت مييل ببطء، مستوعبة ما سمعته.
تمدّد كوسيليكو على حجرها.
“ لكنني لا أعرف أصل الوحوش بدقة. كل ما أعلمه أنها نشأت من هذا النوع من السحر.”
“فهمت …”
“ في الواقع، قلة قليلة من السحرة يعرفون هذه المعلومة. إنها قصة قديمة جدًا.”
قال وهو يومئ بنعاس، يحدّق ببطء من مكانه على حجر مييل.
“ ربما لا يعلم بها سوى عدد محدود من برج السحر القديم. يااااه…”
فرفعت مييل الطائر الصغير بكلتا يديها، وتمددت على السرير، ثم وضعته برفق بجوار وسادتها.
“ تصبح على خير يا كوكو.”
***
في صباح اليوم التالي، استيقظت مييل باكرًا وبدأت استعداداتها بنشاط.
غسلت وجهها، ثم قصدت قاعة الطعام وتناولت فطورًا دسمًا أعدّه طهاة البرج.
وبعدها عادت إلى غرفتها ورفعت كوسيليكو إلى كتفها.
“ ستأتي معي أيضًا، كوكو؟“
“ بالطبع! لا يمكنني ترك ابنة لِياد تسافر وحدها.”
“ لكن المعلم قادم أيضًا.”
“ مع ذلك، أريد أن أبقى إلى جانبك~!”
ضحكت مييل بخفّة على رده الجريء.
ثم مرّ خاطر على بالها:
‘ مؤخرًا، أصبحت أبتسم بصدق كثيرًا.’
ففي الآونة الأخيرة، كانت منشغلة بإنجاز المهمّات، ولم تكن تجد وقتًا للضحك.
بالطبع، الأمر لم يكن كذلك حين كانت تعيش مع والدها.
‘ كنت أظنّني شخصًا بارد المشاعر…’
لكن بعد أن قضت وقتًا مع هؤلاء الناس، تبيّن لها أن ذلك لم يكن صحيحًا.
“ مييل. لننطلق. حان وقت التوجه نحو الحدود الشمالية.”
جاء صوت جايد من خارج الغرفة.
غادرت مييل على الفور، وعندما وصلت إلى بوابة البرج، كان العديد من السحرة الماهرين قد تجمّعوا بالفعل.
وكانت سيلا أول من اقترب منها.
“ مييل! أنتِ أيضًا قادمة؟ أين تم تعيينكِ؟“
“ سيلا، أنا ذاهبة للشمال مع المعلم.”
“ أوه صحيح، مع سيد البرج.”
وبينما كانتا تتحدثان، خرج جايد من البرج.
“ الجميع هنا. نفذوا تعليماتكم وتوجهوا حسب الخطة.”
أصدر أوامره المعتادة بملامحه الجادة.
فأوامر جايد في البرج لا تُرد.
“ أمرك، سيد البرج!”
انحنى السحرة، وبدؤوا في ركوب العربات المُجهّزة.
ثم اتجه جايد نحو مييل، التي بقيت واقفة بمفردها.
وما إن رآها، حتى اختفت ملامحه الباردة، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“ هيا بنا يا مييل.”
قادها نحو العربة الخاصة بسيد البرج، نفس العربة التي استخدماها في رحلاتهم سابقة.
واستقلاها معًا.
وفي تلك اللحظة، أطلّ كوسيليكو من مخبئها.
قطّب جايد حاجبيه قليلًا وهو يرى الطائر الوقح، لكن ما إن وقعت عيناه على مييل، حتى لان مزاجه.
“ أأنتِ آخذة هذا الطائر معكِ أيضًا يا مييل؟“
سألها، فأومأت برأسها.
“ أجل. كوكو لم يرد أن يبتعد عني.”
“ همف. سواء التصقتُ بمييل أو لم أفعل، ما شأنك أنت أيها الرجل الذي لا يعرف إلا الطعام؟“
“…معلمي .”
نادته مييل فجأة.
فارتسمت على شفتيه ابتسامة طبيعية.
“ نعم يا مييل؟“
“ هل… تعرف شيئًا عن أصل الوحوش؟“
عند سؤالها، دفع جايد خصلة من شعره إلى الخلف، ثم أجاب:
“…لا . لا أعرف .”
_____
ترجمة : سنو
فتحت جروب تيليجرام يضم هذه الرواية PDF وأقسام طلبات لرواياتي ومستقبلاً نسوي فعاليات وهيك قسم للسواليف عن الروايات ويمديكم ماتسولفون وبس تقرأون ♥️ .
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك : https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 53"