الفصل 34

في الأصل، لم تكن ليريوفي تخوض معركة نفسيّة مع الفتى، فما هذا الشعور بأنّها خسرت دون أن تكسب شيئًا؟

بل، ما هذه الوضعيّة الغريبة التي تجد نفسها فيها تتبادل أحاديث تافهة مع شخص ينبغي أن تكون حذرة منه؟

أمسكت ليريوفي رأسها التي بدأ يؤلمها، وسألته دون تفكير:

“أنتَ… لِمَ أتيتَ إلى هنا اليوم؟”

كان الفتى لا يزال يحمل تعبيرًا مرحًا، وضحك بخفّة كأنّ بقايا المزاج الجيّد لا تزال عالقةً فيه.

“أليس ذلك واضحًا؟ لأنّكِ هنا.”

“لا، أقصد، لِمَ بالضبط أنا…؟”

“أردتُ رؤيتكِ، هذا كلّ شيء. هل أحتاج إلى سبب آخر؟”

شعرت ليريوفي أنّها فقدت قدرتها على الكلام مرّات عديدة اليوم.

لو سمعت هذا الكلام في ظرف آخر، لربّما أساءت فهمه، لكن هذا لم يكن بأيّ حال اعترافًا رومانسيًّا.

لم يبدُ على الفتى أيّ نيّة من هذا القبيل.

لم يكونا أصدقاء قدامى، ولا حتّى مجرّد معارف. بل كانا أقرب إلى أعداء حاولا قتل بعضهما في لقائهما الأوّل.

ومع ذلك، ربّما كان السبب الذي جاء من أجله هو…

-“فلتعشي، إذًا.”

“سأراقب كيف تكافحين في هذا الوحل القذر.”

هل حقًّا جاء ليشاهد معاناتها؟

كان من المريح أنّه لا ينوي قتلها، لكن إذا كانت تخميناتها صحيحة، فلديه ذوقٌ سيّء للغاية لا يمكن وصفه إلّا بالمروع.

-رفرفة.

لكن، في لحظة غفلة من ليريوفي، لاحظت فراشة بدأت تلتصق بأختها خلسة.

على الرغم من أنّها لم تشعر بنيّة قتل كما في السابق، إلّا أنّ ليريوفي شدّت أسنانها ونفضتها بقسوة.

لكن الفراشات، بعد أن فقدت وجهتها، بدأت تحلّق نحو ليريوفي هذه المرّة.

كادت ليريوفي أن تضربها بعنف، لكنّها فكّرت أنّه من الأفضل أن تلتصق بها بدلاً من أختها، فتركتها.

ومع ذلك، بدا الفتى راضيًا بشكل غريب عن هذا المشهد.

“هل أعجبكِ ذلك؟ حسنًا، سأترك واحدةً بجانبكِ أيضًا.”

“ماذا؟ من قال إنّني أحبّ هذا…؟”

“لقد أصبحتُ فضوليًّا.”

-هووو!

فجأة، بدأت ريح تدور حول الفتى. تطايرت خصلات شعر ليريوفي وأطراف ملابسها معها.

“أثبتي لي. إلى أيّ مدى يمكنكِ الذهاب وأنتِ تحملين أختكِ المهترئة تلك.”

التفّ سرب الفراشات السوداء حول جسد الفتى كإعصار.

وفي الوقت نفسه، علق همس مشؤوم في أذنيها كوشم.

“في رأيي، لن تتمكّني حتّى من مغادرة هذه الغابة.”

ومع ظلّ أسود خافت كبقايا صورة، اختفى الفتى من أمام عيني ليريوفي مرّة أخرى.

لكن كلامه المشؤوم ظلّ عالقًا في أذنيها، مما جعل قلبها أثقل قليلاً.

* * *

-هووو!

ظهر فيلكياس من بين الريح السوداء.

عندها، انحنى السحرة المارّون بسرعة في إشارة خضوع.

في الواقع، كلّ ما يمكن أن يقولوا إنّهم “رأوه” كان شعره الفضّيّ اللامع وعباءته الزرقاء الداكنة، لكن خفض رؤوسهم أمام وجود يثير القشعريرة بمجرّد ظهوره كان أمرًا طبيعيًّا.

لم يكن ذلك مقتصرًا على فيلكياس فقط، بل إنّ الفتيان والفتيات العشرة الذين اختارهم سيّد البرج السحريّ كانوا جميعًا يمتلكون هالة ساحقة.

لهذا السبب، لم يرَ السحرة الدنيويّون الذين يتنقّلون في المناطق الخارجيّة للبرج الشماليّ وجوه من يحملون لقب بيليغوت عن قرب.

وكان هذا أيضًا سبب قدرة فيلكياس على التجوّل في المناطق الخارجيّة بسهولة بهويّة إيفانجيلين، فقط بتغيير لون شعره وعينيه دون عناء.

كما اعتاد دائمًا، لم يمنح فيلكياس هؤلاء الأشخاص نظرة، وسار بخطوات تنضح بالبرودة.

كما لو أنّ النور يُبتلع بالظلام، تحوّل شعره اللامع إلى الأسود تدريجيًّا مع كلّ خطوة.

عندما عبر بوّابة سوداء في الهواء، عادت عيناه الحمراوان إلى لونهما الأصليّ المتألّق.

عندما اختفت حتّى الظلال الزرقاء الداكنة التي كانت تتبعه كظلّ، كان فيلكياس يقف بالفعل في وسط غرفة مليئة بالهواء البارد.

“مانوك.”

-كررر!

عند نداء فيلكياس القصير، دوّى زئير غاضب يخدش الأذنين.

أمام ظلّ الفتى على الأرض، ظهر ظلّ وحش هائل يبدو أكبر بعشر مرّات.

اندفع الوحش نحوه، فاتحًا فكّيه المملوءين بالأنياب الحادّة، كأنّه سيبتلعه.

نظر فيلكياس إلى الوحش دون أن يرمش.

كان الوحش يثير الشفقة والإعجاب في آنٍ معًا، وهو يحاول مهاجمته بعنف رغم حبسه خلف قضبان غير مرئيّة.

لو عرف أحد أنّ فيلكياس أدخل مخلوقًا ملوّثًا من الأراضي المقدّسة إلى البرج السحريّ، لثار الكثيرون، لكن هذا المكان كان حصنًا لا يمكن لنملة أن تقترب منه دون إذنه، فلا مشكلة.

نظرته الذهبيّة الباردة، التي لا تكشف عن أفكاره، راقبت الوحش العنيف الذي لم يهدأ لفترة.

عندما هدأت حركته أخيرًا، مدّ فيلكياس يده نحوه.

“مانوك.”

-كرر!

“يدك.”

لكن الوحش، كما لو كان ينتظر، عضّ ذراع فيلكياس التي اقتربت من القضبان.

ثار الوحش وتسبّب في جلبة.

لكن في اللحظة التالية، اختفى كلّ شيء كان يلوّث الأرض دون أثر.

“أحمق.”

-كر، كرر؟

“هذا ليس للأكل.”

كذلك، عادت ذراع فيلكياس إلى حالتها الأصليّة النظيفة.

ضرب رأس الوحش المرتبك بأطراف أصابعه بخفّة.

-طق!

“أنتَ غبيّ بالنسبة لمخلوق بهذا المزاج السيّء.”

على عكس حركته الخفيفة، كانت القوّة السحريّة التي ضرب بها الوحش قاسية.

ارتطم الوحش بالقضبان وهو يزأر بعد أن طار للخلف.

لكنّه اكتفى بالتحديق في فيلكياس بعيون مشقوقة الحدقة بحذر، دون أن يهاجمه مجدّدًا.

على الرغم من نظرته العنيفة، كان واضحًا أنّ قوّته قد خفت مقارنةً بالبداية.

شعر فيلكياس، الذي فقد اهتمامه بالوحش مبكرًا عن المعتاد بالملل، فرمى له طعامًا واستدار.

سماع صوت الوحش وهو يلتهم الطعام جعل مزاجه يغرق في الملل أكثر.

كلّ ما أثار اهتمامه حتّى الآن أصبح مملًّا بسرعة، وهذا الوحش لن يكون استثناءً.

لكن، بينما كان يسير نحو غرفة نومه بوجه ممل، توقّفت خطوات فيلكياس فجأة، كأنّ شيئًا أمسك به.

عندما التفت، أصبح الشكل الذي كان يلوح في زاوية عينيه أثناء سيره واضحًا في عينيه.

آه، صحيح.

كان هناك شيء واحد لا يزال موجودًا.

فتاة مثيرة للاهتمام وممتعة وجدها في مكان غير متوقّع.

لقد اضطرّ لاتّخاذ عدّة إجراءات لنقل هذه الصورة من رواق الطابق الثمانين إلى جدار غرفة نومه، لكن ذلك لم يكن صعبًا بالنسبة إليه.

ربّما لأنّ أحدًا في البرج السحريّ لم يقم بمثل هذا الفعل من قبل، لم تكن هناك تدابير دفاعيّة بعد.

ومن كان ليتصوّر أن يسرق أحدٌ صورةً جديدةً تمامًا، وليست حتّى صورة أحد الورثة؟

فمن يستطيع رؤية صور الطابق الثمانين يعرف جيّدًا ما تعنيه صورة جديدة معلّقة في الرواق.

عادةً، إذا ظهر منافس جديد بينما لا يزال الوريث الحاليّ على قيد الحياة، فإنّ الردّ الطبيعيّ هو القضاء على صاحب الصورة بسرعة وطمس الأمر كأنّه لم يحدث.

كما كان ينوي فيلكياس في الأصل.

‘الموتى لا يتكلّمون، ولا يستطيعون تحدّي السلطة.’

جلس فيلكياس على طاولة صغيرة في ركن الغرفة، متأمّلاً الصورة التي تزيّن الحائط المقابل.

مال برأسه إلى اليسار، ثمّ إلى اليمين. تحرّك شعره الأسود مع حركته، مضطربًا.

قارن بين الصورة التي أمامه ووجه محفور في ذهنه، وتمتم لنفسه دون وعي:

“هي في الواقع أجمل بكثير.”