تبدّلَ تعبيرُ المذيعِ الذي كان يُمعنُ النظرَ في الغرضِ المعروض إلى ملامحِ ارتباكٍ واضحٍ.
“همم؟ رسالةٌ صغيرة؟ هاها ، هل كتبتِ فيها معلوماتٍ شخصيّة؟ هذا مخالفٌ للقواعدِ ، تعلمين؟”
قالَها بنبرةٍ مازحةٍ ، لكنّهُ ما إن فتحَ الورقةَ و قرأَ ما فيها حتّى تجمّدَ في مكانِه.
“آه ، هذا … حكايةٌ خرافيّة؟ أمْ لغز؟”
حكاية؟ لغز؟
ظهرتِ الدهشةُ على وجوهِ الحاضرين.
“حسنًا ، سأقرأُ ما فيها كما هو: كانَت هناك خمسةُ أرانبٍ تعيشُ في حقلِ جزرٍ دائريّ.
و في كلّ صباحٍ ، كانت الأرانبُ تتحرّكُ بزاوية π راديان باتجاهِ عقاربِ الساعة ، تاركةً كلُّ أرنبٍ منها أثرَ خطوةٍ واحدةٍ خلفَه.
و بعد مرورِ ستمئةِ يومٍ ، قرّرت الأرانبُ أن تزرعَ عددًا من الجزرِ يساوي العددَ الصحيحَ الذي يُعطيهُ اللوغاريتمُ الطبيعيُّ لمجموعِ آثارِ أقدامِها.
ثمّ شعرتْ بالجوع ، فأكلتْ كلّ الجزرِ و لم تُبقِ سوى الباقي من القسمةِ على عددِ الأرانب.
فكم عددُ الجزرِ التي ستزرعُها الأرانبُ اليوم؟”
“…….”
“…….”
سادَ الصمتُ أرجاءَ القاعة.
نظرَ الناسُ إلى بعضهم بوجوهٍ حائرةٍ و هم يتهامسون.
“ما الذي كانَ هذا للتوّ؟ هل كانت لغةً أجنبيّة؟”
“أظنّني سمعتُ بعضَ كلماتٍ قديمةٍ في الوسط …”
“هوووه ، أن تضعَ سيّدةٌ لغزًا على ورقةٍ كغرضٍ في المزاد؟ يا لها من فكرةٍ غريبة!”
“حقًّا ، فكرةٌ مبتكرة!”
و في الوقتِ نفسهِ ، كانت لونا تلمعُ عيناها و هي تلتفتُ نحو فريجيا.
“آه! فريجيا ، لا تقولي إنّكِ أنتِ …”
“نعم ، لقد غيّرتُ قليلًا في صيغةِ معادلةِ الدورانِ السحريّ”
“واااو! تشبيهُكِ بالأرانبِ و الجزرِ لطيفٌ و ممتعٌ للغاية!”
‘ما الذي تهذي به هاتان الحمقاءان؟’
فكّرت لورينا و قد تجعّدَ وجهُها من الغضب.
قالت فريجيا بابتسامةٍ راضيةٍ: “الإجابةُ هي ثلاثة. لذا سأنتظرُ في الشرفةِ رقم 3 في قاعةِ ترينيتي ، لأنّها ترمزُ إلى الرقمِ 3”
صفّقت لونا بحرارةٍ.
“واااه ، كم هو رومانسيّ!”
رومانسيّ؟
‘هل جُنّتا؟’
غريبتانِ تتصرّفانِ تصرّفَ المجانينِ أمامَ الناس!
تشنّجَ وجهُ لورينا ثمّ ابتسمتْ ابتسامةً صغيرةً ساخرةً و هي تلتفتُ نحوهما.
“يا له من تفكيرٍ لطيفٍ حقًّا. لكن ، فريجيا … ألا يجدرُ بكِ أن تقلقي أوّلًا إنْ كانَ أحدٌ سيزايدُ على غرضِك؟”
توقّفَت فريجيا و لونا و حدّقتا فيها بصمت ، بينما تابعت لورينا بابتسامةٍ حزينةٍ مصطنعةٍ: “أعني ، بقيّةُ السيّداتِ قدّمنَ مناديلَ مطرّزةً بأيديهنّ أو مرايا ثمينةً لهنّ ذكرياتٌ معها … أما أنتِ ، فمجردُ ورقةٍ كتبتِ عليها بعضَ الكلمات. أليسَ هذا … قليلَ الذوقِ بعض الشيء؟”
مالت برأسها قليلًا و أردفتْ: “كيف أقولها … تبدينَ كأنكِ غريبةُ الأطوار؟ لا تسيئي الفهم ، أنا أقولُ هذا لأنّي قلقةٌ عليكِ فقط”
في الماضي ، كان زملاؤهنّ في الأكاديميّة سيسارعونَ لمساندةِ لورينا و السخريةِ من فريجيا ، لكنّهم الآن اكتفوا بالنظرِ إليهما بفضولٍ لا أكثر.
أزعجها ذلك ، لكنها تماسكتْ. فحين تصيرُ زوجةَ الكونت اشلاب فيتسروي ، سيغيّرُ هؤلاء مواقفَهم فورًا.
غير أنّ جوابَ فريجيا كانَ أبعدَ ما توقّعته.
“أبدو غريبةَ الأطوار؟ حسنًا ، هذا جيّد”
“ماذا؟”
“لقد كنتِ تقولينَ ذلك عني دومًا ، لذا أردتُ أن أضعَ لغزًا يشتريه شخصٌ يشبهني في التفكير”
تجمّدَ وجهُ لورينا من الغضب.
“حقًّا؟ لكن إن لم يوجدْ شخصٌ غريبٌ مثلكِ هنا ، ماذا ستفعلين إن لم يزايد أحد؟ آسفةٌ ، فريجيا ، لكن …”
قالتْ و هي تلوّحُ بتعاطفٍ زائفٍ: “بصراحة ، من سيُضيّعُ مالهُ على شيءٍ سخيفٍ كهذا؟ أخشى أن يُعرضَ غرضُكِ ولا يشتريه أحد ، فتُصابينَ بخيبةِ أمل”
“إن لم يُشترَ ، فلا بأس. سأعودُ إلى البيتِ دون أن أرقص”
“لن ترقصي؟”
قهقهتْ لورينا بدهشةٍ مصطنعة.
“تتفاخرينَ كثيرًا. أتنوينَ العودةَ دون أن ترقصي مع أحد؟ ألا تدركينَ كم هو مُهينٌ أن تظلّي واقفةً بلا شريكٍ؟”
“حقًّا؟ لكن ألم تكوني أنتِ من قال دومًا …”
رفعت فريجيا حاجبيها و قالت: “إنّ الظهورَ في يومِ التأسيسِ و التعريفَ بكِ من قِبلِ جلالةِ الإمبراطورةِ هو أعظمُ شرفٍ تنالهُ أيّ سيّدة ، و أنّ الطريقَ أمامها بعد ذلك سيكونُ مفروشًا بالزهور؟ يومٌ واحدٌ بلا رقصةٍ لن يُغيّرَ شيئًا ، أليس كذلك؟”
“……!”
كانت تلك كلماتِ لورينا نفسِها.
و طبعًا ، في الماضي قالتها بثقةٍ تامّةٍ لأنها ظنّت أنّ الزهورَ ستُفرشُ تحتَ قدميها هي لا غير.
تطلّعت فريجيا إليها بعينينِ هادئتين ثمّ هزّت كتفيها بخفّة.
“على كلٍّ ، لا بأس إن لم يُشترَ غرضي. لا أريدُ أن أرقصَ مع رجلٍ لا يفهمُني أصلًا”
تلوّنتْ ملامحُ لورينا بالغيظ.
فريجيا كانت دائمًا هكذا منذُ الطفولة.
لم تهتمّ يومًا بالدمى الفاخرةِ أو بمكانتها كابنةِ أحدِ النبلاءِ.
كانت دائمًا تتصرّفُ كأنّها لا تحتاجُ شيئًا ، و كأنّ كلّ ما تحلمُ به لورينا تافهٌ لا قيمةَ له.
‘لكنّكِ في النهايةِ مثلي تمامًا ، أليس كذلك؟’
و لهذا السببِ انتزعتِ لقبَ آل فيوليت لنفسكِ حتى لو كانَ الثمنُ التخلّصَ من عمّكِ بالدمِ.
الآن تتظاهرينَ باللامبالاة ، لكن حين لا يزايدُ أحدٌ على غرضِكِ ، لن تتمكّني من إخفاءِ شعورِكِ بالمهانة.
‘و حتى لو شارك أحدٌ ، فلن يتجاوزَ سعرُهُ سعري على أيّ حال’
كانت غارقةً في أفكارها حين دوّى صوتُ المذيع المرتبك في القاعة: “500 ألفَ قطعةِ ذهب!”
عمّ الصمتُ القاعةَ بأكملِها.
‘… ماذا؟’
لم تصدّقْ أذنيها.
و بعد لحظةِ ذهولٍ ، بدأ الهمسُ يدبُّ بينَ السيداتِ في غرفةِ الانتظار.
“ما الذي قاله للتوّ؟”
“هل قالَ 500 ألفًا؟”
“لم أكن أتوهّمُ ، أليس كذلك؟”
‘هذا مستحيل!’
تشنّجتْ قبضتُها و هي ترتجفُ من الغضب.
أيّ أحمقٍ أنفقَ هذا المبلغَ الطائلَ على ورقةٍ غريبةٍ كهذه؟
‘إنّها خمسةُ أضعافِ سعرِ غرضي!’
جالت بنظراتها وراء الستارِ تبحثُ عن صاحبِ الصوت ، و ما إنْ وقعَ بصرُها عليه حتى انحبسَ أنفاسُها.
التعليقات لهذا الفصل " 85"