رفعتُ نظري إلى ذلك الوجه الوسيم ، و فكّرتُ في صمت.
‘صحيح أنّه رجلٌ مزعجٌ و مذنبٌ بطبعه ، لكنّه في النهاية رئيسي الذي سأعمل معه مدى الحياة ، و عليّ أن أتكيف معه ، أليس كذلك؟’
تذكّرتُ الحديث الذي دار بيني و بين الأستاذ دنكان البارحة.
‘أشكرك جزيل الشكر على عرضك مرة أخرى ، لكنّي أودّ البقاء في برج السحر لوقتٍ طويلٍ جدًّا’
قررتُ في النهاية ألّا ألتحق بالأكاديمية الملكية للعلوم.
بصراحة ، فكّرتُ بالأمر بجديةٍ للحظةٍ قصيرة.
‘أحيانًا يقلقني أن قلبي لن يحتمل العمل بجوار الدوق طويلًا’
قبل أن أُدرك مشاعري ، لم أكن ألاحظ ذلك.
لكن بعد أن وعيتُ بها ، صارت كلّ إيماءةٍ أو كلمةٍ عابرةٍ من كايين تُربكني و تُثير قلبي.
حاولتُ التصرّف على طبيعتي ، لكنني كلّما وقفتُ أمامه ، كان وجهي و صوتي يتصلّبان بلا إرادة.
رغم هذه الآثار الجانبية … ما زلتُ أشعر بالشيء ذاته.
‘أنا أحبّ برج السحر’
منذ طفولتي و أنا أحلم بأن أُصبح ساحرة.
و حين شُخِّصتُ بعد الحادث بفقدان قوّتي السحرية ، كان ذلك من أكثر لحظات حياتي حزنًا.
‘و فوق ذلك ، أنا أحبّ كايين أيضًا’
و لم أقصد هنا الحبّ بمعناه العاطفيّ فحسب.
فما زال كايين قدوتي ، و رئيسي الذي أُكنّ له الاحترام.
صحيح أنّه قد يحدث بين حينٍ و آخر أن يخفق قلبي لمجرّد أن أشتمّ عطره مثل تلك المرّة ، لكن …
‘آه ، و ماذا في ذلك؟’
لقد وقعتُ في الحبّ بالفعل.
إن أنكرتُ هذا الشعور ، فربما ينمو بعنادٍ أشدّ.
إذًا ، لا داعي لأن أسحقه أو أقتله.
سأدع الأمر يمضي كما هو ، و أتعايش معه.
مع مرور الوقت ، سيخفّ هذا الإحساس و يذبل من تلقاء نفسه.
‘لهذا السبب ، كفى تصرّفًا ببرودٍ مصطنع و كأنني أضع بيننا مسافة’
أخذتُ أُراجع تصرّفي في الأيام الأخيرة حين كنتُ جامدة و متحفّظة أمام كايين.
أما تلك الليالي التي أركل فيها الغطاء خجلًا ، فهي شأنٌ آخر.
لكن في العمل ، عليّ أن أبدو طبيعية.
يجب ألّا أترك لمشاعري أن تتحوّل إلى سلوك!
تنفّستُ بعمقٍ ثم رفعتُ نظري مجددًا إلى كايين.
“إذًا ، لا داعي للقلق”
“… ماذا؟”
“أنت قلق لأنّني لو دخلتُ الحفل مع سموّ وليّ العهد ، رأس حزب وليّ العهد و نهايته ، فستُثار الأحاديث ، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ بوجهٍ مشرق و أكملت: “كنتُ أقصد أن أطمئنك ، لأنني سأتصرّف بحكمة و لن أُعطي أحدًا فرصةً للثرثرة”
***
بعد أن غادرت فريجيا ، ظلّ كايين واقفًا في الغرفة الخالية دون أن يتحرّك.
‘كنتُ أقصد أن أطمئنك ، لأنني سأتصرّف بحكمة و لن أُعطي أحدًا فرصةً للثرثرة’
وجهها المبتسم و هي تقول ذلك بقي عالقًا أمام عينيه ، كأنّ أشعة الشمس قد انسكبت عليه.
لم يفارقه المشهد حتى بعد أن أغمض عينيه.
كان كايين يعرف تمامًا أنه تصرّف بعنادٍ و غرابة.
فمن حقّ فريجيا أن تختار من تشاء شريكًا لها.
لكن مجرّد تخيّل يد أحدهم ، لا سيّما وليّ العهد ، تُمسك بيدها تحت ذريعة المرافقة ، كان يجعله يغلي من الداخل.
تلك المشاعر الجامحة التي تمزّق أحشاءه لم تكن سوى غيرةٍ و امتلاكٍ بحت.
رغبةٌ عارمةٌ جعلته نفسه يشعر بالارتباك و الاشمئزاز من ذاته.
لقد صار أشبه بطفلٍ يبكي بفظاعة لأنّ أحدهم سلبه دميته المفضّلة.
و مع ذلك …
رغم كلّ شيء ، ابتسمت له فريجيا.
“…….”
قبل قليلٍ فقط كان في مزاجٍ سيّء لدرجة أنّه أراد قلبَ كلّ شيء رأسًا على عقب.
لكن بابتسامةٍ واحدةٍ منها ، تحوّل إلى كلبٍ أُعيد شده بلجامه.
يا للسخرية من نفسه.
“اللعنة … ما هذا بحقّ الجحيم …”
تسرّبت من بين شفتيه كلماتٌ متهكّمةٌ مبحوحة.
“لقد صرتُ أحمقًا كاملًا”
مشاعرُه الغريبة و العنيفة كانت تتسع بمرور الوقت ، بدل أن تهدأ و تخفت.
***
و مضى الزمن حتى حلّ يومُ حفل التأسيس.
و مع قدوم أكبر احتفالٍ في العاصمة ، تدفّقت العربات الفاخرة من كلّ صوب ، فامتلأ الميدان الأوّل في القصر الإمبراطوري بالازدحام.
نزلت فتياتُ النبلاء الصغيرات من العربات بتوتّرٍ ظاهر على وجوههنّ.
و على شرفات الطابق الثاني ، راقبت سيداتُ الطبقة الراقية المشهد و تبادلن الأحاديث.
“يبدو أنهنّ الفتيات اللواتي يقدمن أول ظهورٍ رسميّ لهنّ هذا العام. انظروا إلى وجوههنّ المرتبكة ، كم هنّ لطيفات”
“من تظنّون ستحظى هذا العام بشرف التقديم من قِبل جلالة الإمبراطورة؟”
“عادةً ما تكون الفتاة التي تُتَوَّج بلقب ‘زهرة العام’ في الأكاديمية هي من تنال هذا الشرف. و لم يحدث استثناءٌ لذلك قطّ ، أليس كذلك؟”
أشارت إحدى السيدات بمروحتها إلى مكانٍ ما.
“أوه ، ها هي تأتي. ‘زهرة العام’ ، أليست الآنسة لورينا بيلمونت؟”
“حقًّا ، إنها جميلة”
“لكن … بيلمونت؟ هل يوجد مثل هذا اللقب في سجلّ النبلاء؟”
“سمعتُ أنها من العامة”
“يا إلهي!”
“صحيح أنّ جلالتها لا تُمانع في تقديم فتاةٍ من عامة الشعب ، لكن أليس على العامة أن يدخلوا القصر فقط بدعوةٍ من أحد النبلاء؟”
“أظنّني سمعتُ أنها على علاقةٍ عاطفية مع ابن عائلة روهايم ، أليس كذلك؟ لكن أليس ابن الماركيز تحت التحقيق الآن؟”
فقد كان ابن ماركيز روهايم الوحيد قد ضُبط يستخدم السحر الأسود في حفلٍ خيريّ ، و الجميع في المجتمع المخمليّ يعرف ذلك.
و في تلك اللحظة ، كأنّ المشهد قد رُتّب مسبقًا ، ظهر شابٌّ وسيمٌ يتّجه نحو لورينا بخطواتٍ مهذّبة.
كان مكسوًّا من رأسه إلى أخمص قدميه باللون الفيروزيّ الفاخر. فإتّسعت أعين السيدات دهشة.
“يا للعجب ، كلّ هذا اللون الفيروزي؟! هذا صباغٌ باهظ الثمن!”
إذ إنّ الأقمشة الفيروزية كانت رمزًا للثراء في الإمبراطورية ، لأنّ الصبغة المستخدمة في تلوينها تُستورد بكمياتٍ ضئيلة من أقاصي الشرق.
نظرت إحدى السيدات إليه و أومأت بمعرفةٍ فخمة.
“يبدو أنه نجلُ الكونت فيتسروي”
فالكونت فيتسروي كان يُعرف بلقب “ملك التجارة” ، من أثرى أثرياء العاصمة.
“آه ، هذا يفسّر الأمر إذن”
هزّت السيدات رؤوسهنّ موافقات.
و تحت أنظار الجميع ، وقف نجل الكونت فيتسروي أمام لورينا ، و انحنى بأدبٍ جمّ.
“لورينا العزيزة”
فمدّت يدها إليه برضى.
“يشرفني أن أكون مرافِقك هذا اليوم”
نظرت لورينا إلى الشاب الذي رفع يدها ليقبّلها ، و ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ فاتنةٌ ساحرة.
***
“الآنسة لورينا ، ألا تشعرين بالعطش؟”
“آه ، نعم ، قليلًا فقط …”
“سأجلب لكِ عصير الليمون فورًا”
تابعت لورينا بنظراتٍ راضية ظهرَ الشاب ماركو ، نجل الكونت فيتسروي ، و هو يبتعد لإحضار الشراب.
منذ سقوط فيليكس ، لم تتلقَّ لورينا أي دعوةٍ لحضور حفلات المجتمع الراقي لفترةٍ طويلة.
لكن قبل شهرٍ فقط ، حصلت أخيرًا على دعوةٍ لإحدى الحفلات المرموقة.
استغلّت كلّ معارفها و مهاراتها في جمع المعلومات لتتحرّى عن الحاضرين ، فعرفت أنّ ابن الكونت فيتسروي سيكون من بينهم.
و منذ ذلك الحين ، بدأت بالتحقيق الدقيق حوله: ما نوع تسريحة الشعر التي يحبّها ، أسلوب الحديث الذي يفضّله ، و ذوقه في الأزياء.
لو أنّها استخدمت هذا الجهد في الدراسة ، لكانت تفوّقت في الأكاديمية دون الحاجة إلى مساعدة فريجيا.
و في يوم الحفل ، ظهرت أمام ماركو فتاةٌ تُعدّ من أجمل فتيات العاصمة ، تتصرّف و تبتسم تمامًا كما يحبّ ، فوقع في شباكها دون مقاومة.
‘سهل جدًّا’
ابتسمت لورينا خلف مروحتها.
منذ أن تخلّت عن فيليكس ، صارت الحياة تسير بسلاسةٍ مدهشة.
‘كنتُ يجب أن أقطع الحبل البالي باكرًا’
لقد كادت أن تُسحب معه إلى القاع لولا أنّها أفلتت في الوقت المناسب.
استمتعت لورينا بنظرات الإعجاب المحيطة بها.
كانت معتادةً على أن تكون مركز الاهتمام ، و ها هي تعود إلى مكانها الطبيعي.
“… هُف”
كان من الصعب قليلًا التنفس بسبب الحزام المشدود حول خصرها ، لكن الأمر يستحقّ.
‘اليوم ، جلالتُها الإمبراطورة ستُقدّمني بنفسها’
فهي “زهرة العام” لهذا الموسم بعد كلّ شيء.
و من بعدها ، لن تمتدّ أمامها سوى دروب المجد و الازدهار.
حين تُصبح السيدة الأولى في العاصمة و تُسيطر على المجتمع المخمليّ ، لن يجرؤ آل فيتسروي على النظر إليها كعاميةٍ بعد الآن.
و حين تتزوّج من ماركو و تُصبح كونتيسة فيتسروي ، ستعيش حياةً مترفةً دون أن تبلّل أصابعها بقطرة ماء.
‘و من الذي يحتاج إلى العمل أصلًا؟’
ابتسمت لورينا بخبث و هي تستحضر صورة فريجيا في ذهنها.
كانت زميلةٌ لها من برج السحر قد همست لها بأنّ فريجيا وضعت اسمها بنفسها في جدول المناوبة يوم الحفل.
حتى في مثل هذا اليوم تعمل؟ يا لها من حياةٍ تعيسة لامرأةٍ تُدعى “سيدة”!
على الأقل ، لن ترى وجه فريجيا اليوم ، و هذا وحده كفيلٌ بأن يُريح صدرها.
‘بطلة هذا اليوم … هي أنا’
التعليقات لهذا الفصل " 82"