و بما أنّه شاهد كلّ واحدة منهنّ تعيش قصة حبٍّ و تتزوّج عن حبّ ، فقد كان يفاخر دومًا بأنّ لديه حدسًا ممتازًا في أمور العواطف.
و عندما تذكّر نظرات فريجيا التي كانت تلقيها على كايين بين الحين و الآخر ، فكّر: ‘كانت بالتأكيد نظراتٍ ليست محض احترامٍ فحسب …’
لا شكّ أنّ ثمّة شيء انحرف تمامًا عن مساره.
نظر آرون بحيرةٍ نحو كايين ، لكنّه سرعان ما حبس أنفاسه.
‘هاه!’
كان كايين يحدّق في الفراغ بعينين قاتلتين ، كجنرالٍ يستعدّ لقطع رأس عدوّه.
مرعب.
رغِب آرون في الفرار فورًا ، لكنّه استجمع شجاعته و تكلّم: “آه ، سيدي؟”
“ماذا. الآن مجددًا؟”
“حسنًا ، إن حاولنا تحليل وضعك الحالي بموضوعيّة …”
تابع آرون كلامه بحذرٍ شديد: “لقد تقدّمت بطلب زواجٍ من الآنسة فريجيا ، ثم …”
“…….”
“رُفضتَ ، أليس كذلك؟”
“…….”
برز عِرقٌ على جبين كايين.
فسارع آرون يتابع: “ثمّ إنّكَ لا تريد أن تتزوّج الآنسة فريجيا من رجلٍ آخر ، أليس كذلك؟”
“أيّ رجلٍ يجرؤ على أخذ سكرتيرتي؟”
زمجر كايين بصوتٍ خافتٍ أجشّ و هو يرفع حاجبيه بعدائيّة ، فتذكّر آرون صورة الوحش الذي يحرس فريسته بعينين متحفّزتين.
‘أيّ مديرٍ في الدنيا ينظر إلى سكرتيرته بتلك الطريقة؟’
ابتلع آرون ريقه ، ثمّ بدأ يتكلّم ببطءٍ كما لو أنّه يعلّم طفلًا الحروف: “في هذه الحالة … ربما عليك تجربة طريقةٍ أخرى”
فتح كايين عينيه بشكّ ، لكنّه أومأ ببطءٍ في النهاية.
“… صحيح. طريقةٌ أخرى”
وافق بسهولةٍ غير متوقّعة.
كاد آرون أن يتنفّس الصعداء ، حين سمع صوت كايين الجادّ يقول: “كم ستكلّف؟”
“لا ، ليس هذا النوع من الطرائق!”
تنهّد آرون بمرارة.
يا إلهي ، ما العمل مع هذا السيّد الذي لا يعرف شيئًا عن العاطفة؟
“هاه … لو أحضرتَ كلّ ذهب العالم ، فلن تُحلّ هذه المشكلة بالمال يا سيدي”
“ماذا؟”
رمقه كايين بنظرةٍ متحفّظة.
زفر آرون و قال: “رهاني أنّكَ ذهبتَ إليها فجأةً و قلتَ: ‘سأتزوّجكِ. متى يناسبكِ التاريخ؟’ ، صحيح؟”
تجمّد وجه كايين لحظةً.
‘أصبتُ في الصميم إذًا. ظننتُ أنّها مبالغة ، لكن يبدو أنّها الحقيقة’
تنهّد آرون داخله و هو يلعن نفسه خمس مئة ألف مرّة.
هناك مثلٌ يقول: “كلمةٌ واحدة قد تساوي مليون قطعة ذهب”
لكن بعد اليوم ، أراد آرون أن يضيف: “و كلمةٌ واحدة قد تدمّر عرضَ زواجٍ كاملًا”
من وجهة نظره ، لم تكن فريجيا خالية القلب تجاه كايين تمامًا.
و لو أنّ كايين تقدّم إليها بطريقةٍ رومانسيّةٍ عاديّة ، لربّما كانوا الآن يبحثون عن قاعة الزفاف.
‘يبدو أنّه يحتاج فقط إلى تغيير الأسلوب …’
لو كان الأمر مجرّد قصّة حبٍّ لغيره ، لاكتفى بالمشاهدة و تناول المقرمشات من بعيد.
لكن لو سارت الأمور على نحوٍ سيّء و تزوّجت فريجيا فعلًا من رجلٍ آخر ، فسيضطرّ هو لمواجهة نسخةٍ مظلمةٍ أضعاف ما هي عليه من كايين الآن.
‘لا … لا أستطيع تحمّل ذلك’
هذه مسألة حياةٍ أو موتٍ بالنسبة له.
ابتلع ريقه و قال: “اسمعني جيّدًا ، سيدي. لقد تقدمت إليها بطريقةٍ متعجرفةٍ و أدرتها كأمرٍ سلطوي ، و لهذا رُفِضتَ. إذًا ، عليكَ الآن أن تغيّر أسلوبكَ تمامًا”
“كفّ عن الثرثرة ، و ادخل في صلب الموضوع”
“أقصد … استخدم سحرَ جاذبيتك!”
قال آرون بحماسة: “عليكَ أن تُلين قلبها برفق!”
“… برفق؟”
“نعم! ابتسم أحيانًا ، تحدث إليها بلُطف ، امدحها أكثر ، و اقضِ بعض الوقت معها على انفراد!”
“…….”
استمع كايين لحديث آرون بإنصاتٍ غير متوقّع.
شعر آرون بإشارةٍ إيجابيّة. ربما سيتمكّن من تصحيح سلوك سيّده ، بل و ربما إصلاح العلاقة قريبًا.
“لكن … ماذا دار بالضبط بينكما البارحة؟ أظنّ أنّ هناك سببًا جعل الآنسة فريجيا ترفض القرار بهذه القوّة”
“… ذلك هو …”
اسودّ وجه كايين فجأة ، فتلألأت عينا آرون فضولًا.
‘ما الأمر؟ يبدو أنّ هناك ما لم يخبرني به بعد’
عندها—
طَرق— طَرق—
ارتفع صوتُ الطرق على الباب ، فالتفت الرجلان معًا نحوه.
‘آه ، حان وقت حضور الآنسة فريجيا إلى العمل’
نظر آرون إلى كايين ، فرأى أنّ وجهه تجمّد فجأة ، ثمّ التقط ملفًّا و أخذ يتظاهر بأنّه يدرسه بجدّيّة.
‘هه’
كتم آرون ضحكته بصمت.
حتى كايين ، ذلك البارد الصارم ، ليس بمنأى عن اضطراب القلب.
قال آرون بصوتٍ مرح: “تفضلي بالدخول ، آنسة فريجيا. الباب مفتوح”
انفتح الباب برفق ، و ظهرت خلفه ملامح مألوفة.
كانت فريجيا مرتّبة المظهر كالعادة ، بسيطة الملبس.
لكن—
‘… هاه؟’
شعر آرون بشيءٍ غريبٍ جدًّا.
انحنت فريجيا بأدب.
“مرحبًا ، يا دوق. مرحبًا ، سيّدي”
كان صوتها مؤدّبًا تمامًا ، لكنّه باردٌ رسميّ إلى حدٍّ مذهل.
عيناها الخضراوان المنخفضتان كانتا خاليتين من العاطفة ، و شفاهها لم تَحْوِ أيّ أثرٍ لابتسامة.
ارتجفت عينا آرون كما لو أنّ زلزالًا ضربهما.
‘ما … ما هذا؟’
فريجيا اليوم مختلفةٌ تمامًا عن المعتاد.
أو بالأحرى—
‘إنها غاضبة؟!’
يا سيدي ، ماذا فعلتَ البارحة بحقّ السماء!
صرخ آرون في داخله بلا صوت.
و يبدو أنّ كايين أدرك بدوره الجوّ المشحون ، فقد تجمّد وجهه أكثر.
قالت فريجيا بنبرةٍ ثابتة: “من أين أبدأ مهامي اليوم؟”
“… هذا الملف. تفضّلي”
“نعم ، فهمت”
تناولت الملفّ من يده بلا تعبير ، و استدارت نحو مكتبها و جلست.
صرير—صرير—
و ساد الصمت في المكتب ، لا يُسمع سوى صوت القلم و هو يخطّ الحبر على الورق.
‘لا … لا أستطيع التنفّس …’
شعر آرون بأنّ الجوّ يختنق من التوتّر ، كأنّ حرارة الغرفة انخفضت خمس درجاتٍ دفعةً واحدة.
“إذًا ، أنا … أتذكّر أنّ لديّ أمرًا عاجلًا!”
هرب آرون من المكتب كما لو كان يفرّ من ساحة معركة.
***
كان وقت الانصراف ، و الجميع يغادر برج السحر بسعادة.
بعد أن ودّعت زملاءها ، انعطفت فريجيا إلى زقاقٍ خالٍ.
ثمّ جلست على الأرض مسنِدةً ظهرها إلى الجدار ، و دفنت وجهها في كفّيها.
“هاه …”
منذ أن غادر كايين بالأمس ، ظلّت واقفة في بهو المبنى تفكّر طويلًا.
لماذا تشعر بهذا السوء؟ لماذا هذا الحزن الثقيل؟
‘أنتَ … تُحبّني …؟’
‘و ما أهمية ذلك؟ هل يجب أن يكون الأمر كذلك؟’
في اللحظة التي سمعت فيها تلك الإجابة ، شعرت كأنّ قلبها سقط إلى قاعٍ سحيق.
و سرعان ما وجدت التفسير: ‘ربّما … فقط ربّما ، أنا أحبّ الدوق قليلًا ، قليلًا جدًّا …!’
كلّ ما في الأمر أنّها لم تدرك ذلك.
كانت نبضات قلبها تتسارع أحيانًا عندما تلتقي عيناها بعينيه ، لكنّها ظنّت أنّ السبب مجرّد وجهه الوسيم.
‘ظننتُ أني فقط ضعيفة أمام الوجوه الجميلة …!’
و حين أدركت مشاعرها ، لم تستطع الذهاب إلى موعدها المحدّد مع هنري.
شعرت أنّ ذلك سيكون خاليًا من الاحترام.
اعتذرت لهنري و لونا بلُطف ، لكن بما أنّها ألغت الموعد في يومه ذاته ، فهما حتمًا غاضبان الآن.
“آه …”
انزلقت فريجيا ببطءٍ على الجدار و جلست ، و ابتسامةٌ يائسة تعلو شفتيها.
التعليقات لهذا الفصل " 75"