02. كل التاريخ يبدأ في مأدبة الليل (8)
قبل أربعة أيام، في حديقة منتصف الليل، عندما التقيته صدفة، كان يقف تحت سماء الليل، يكشف عن ملامحه الوسيمة المذهلة دون أي تحفظ.
كانت الأميرة يوري والأمير رويانت شخصيات جميلة للغاية، لكن الأمير ريموند كان يتألق بينهما بضوء أكثر إبهارًا وتميّزًا.
ربما لأنه صفّف خصلات شعره الأمامية إلى الخلف قليلًا مثل الأمير آلين ، مما جعل ملامحه الرائعة تبرز أكثر.
كنتُ أقترب منه وأنا أنظر إليه بإعجاب، عندما استدار نحوي فجأة والتقى نظرنا مباشرة.
في لحظة، اختفت الابتسامة الهادئة التي كانت تعلو وجهه.
كان التغيير واضحًا للغاية، حتى أنني ظننتُ للحظة أنني ربما أخطأت بحقه في شيء ما.
هل كان لقاؤنا في الحديقة تلك الليلة مزعجًا له إلى هذه الدرجة؟ تساءلتُ وأنا في حيرة من أمري.
لكن، ربما كان ذلك وهمًا، إذ سرعان ما استعاد ابتسامته المعتادة وتحدث إليّ بلطف:
“كانت يوري تتباهى منذ أيام أنكِ ستكونين الأجمل في الحفل، آنسة هيذر، ويبدو أن كل كلامها كان صحيحًا.”
“همف! أختي جميلة أصلًا، لكنني جعلتها تبدو أجمل بقليل من العناية!”
“اختي الكبيرة هي الأجمل!”
استجابت الأميرة يوري والأمير آلين لمديح الأمير ريموند بحماس أكبر مني، وهما يهزان أكتافهما بفخر.
بدا الأخت والأخ لطيفين وهما يضعان أيديهما على خصريهما ويرفعان أنفيهما نحو السماء، فلم أستطع إلا أن أبتسم.
غطيتُ فمي بظهر يدي وأنا أضحك بهدوء، عندما شعرتُ بظل يمر فوق رأسي.
“حسنًا، إذن.”
رفعتُ رأسي لأجد الأمير ريموند قد اقترب مني خطوة واحدة، واضعًا يده اليسرى على صدره ومادًا يده اليمنى نحوي.
كما لو كان يطلب من سيدة يعجب بها أن ترقص معه في قاعة الرقص.
“سيدتي، هل تمنحينني شرف مرافقتكِ؟”
ثم حدّق بي بوجه جاد خالٍ من أي مزاح، منتظرًا ردّي.
وأنا أواجه الأمير ريموند ، اجتاحني فجأة شعور بالقلق والتوتر بشأن المكان الذي سأذهب إليه الآن.
لا أريد الذهاب.
كررتُ هذه الكلمات في ذهني مرات عديدة، راغبة في سحب يدي إلى الخلف.
لكن أن أقول إنني لا أستطيع الذهاب بعد كل هذا سيكون ظلمًا كبيرًا للأميرة يوري التي بذلت كل هذا الجهد من أجلي.
كان يجب أن أتحدث منذ البداية لو أردتُ قول شيء.
الآن، من أجلها، كنتُ أقف على طريق لا يمكنني التراجع عنه.
بينما كانت كل الأنظار متجهة نحوي، رسمتُ ابتسامة متكلفة ووضعتُ يدي فوق يده.
“… نعم، بكل سرور.”
* * *
نظرات، نظرات، نظرات، نظرات…
نظرات لا نهائية تتعلق بي.
حاولتُ تجاهلها وأنا أرطب حلقي برشفة من عصير الفواكه في كأسي.
منذ أن دخلتُ قاعة الحفل برفقة الأمير ريموند ، كنتُ أتجاهل النظرات العنيدة التي تلاحقني.
شعرتُ بتغيّر أجواء القاعة بمجرد دخولنا، كان ذلك واضحًا في كل جسدي.
كانت الاستجابة مختلفة تمامًا عن تلك التي رافقت دخول الأميرة يوري، أو الأمير آلين ، أو الأمير رويانت .
عندما دخل الأشقاء الثلاثة، كان الجو مليئًا بالترحيب الحار بهم، لكن عندما ظهرتُ أنا مع الأمير ريموند ، وُجهت إليّ نظرات عدائية صريحة.
كان ذلك بسبب وجودي، أنا التي لا أصلح أبدًا لمثل هذا المكان المخصص للنبلاء من رتبة كونت وما فوق.
نظرات باردة مليئة بالاستياء وجهت إليّ من الجميع، رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا.
اختنقت أنفاسي أمام تلك النظرات الممزوجة بالتساؤل عن كيف تجرأت مثلي على دخول عالمهم.
كما توقعتُ، لم يكن جمالي أو مظهري يهمّهم على الإطلاق.
ما كان يهمّ هو من أي عائلة أنحدر، وكيف تجرأت على إغواء الأمير ريموند لأقف في هذا المكان.
بعض النبلاء المسنين، الذين كانوا يرغبون في تزويج بناتهم بالأمير ريموند ، أرسلوا إليّ نظرات وكأنهم يريدون ابتلاعي، متجنبين عيني الأمير.
بل إن بعضهم تحدث إليّ بنبرة توحي بأنه يمكنه التخلص مني بسهولة، مما أثار قشعريرتي.
معظمهم بدا يعتقد أنه، مهما كان نزوة الأمير ريموند التي جعلتني إلى جانبه، فإنها لن تدوم طويلًا.
كان هناك من أثار اسم الدوق ريتشارد أديل بسخرية، وكانوا كثيرين.
على الرغم من أن كل هذا كان ضمن توقعاتي، إلا أن الابتسام والتظاهر بعدم الاكتراث كان أمرًا شاقًا.
بالطبع، لم يكن هناك أحمق يُظهر عداءه لي صراحة بينما الأمير ريموند إلى جانبي.
كان الأمير ريموند من أكثر الشخصيات شعبية بين النبلاء، وكان الناس يتزاحمون حوله لكسب وده.
حاول الأمير ريموند والأميرة يوري الاعتناء بي وسط هذا الزحام، لكنني بدأتُ أباعد بيني وبينهما عمدًا حتى انفصلتُ عنهما تدريجيًا.
ادّعيتُ أنني بحاجة إلى استراحة قصيرة، فهربتُ إلى الشرفة القريبة، وهناك بدأ النبلاء الذين كانوا يراقبونني يقتربون ويحادثونني.
لم أحصل على لحظة راحة إلا عندما بدأ عدد النبلاء الذين يتحدثون إليّ يقل تدريجيًا.
رشفتُ جرعة أخرى من عصير الفواكه وأطلقتُ تنهيدة طويلة.
كنتُ ممتنة على الأقل لأن الاسم الذي كنتُ أسمعه بين الحين والآخر من أفواه النبلاء لم يكن موجودًا في قاعة الحفل اليوم.
كنتُ الآن أقف في زاوية بعيدة عن أعين الناس، أتأمل القاعة من الداخل.
مع ظهور الإمبراطور والإمبراطورة، ازدادت أجواء الحفل حيوية، ثم ظهرت القديسة التي جاءت من الأراضي المقدسة للاحتفال بعيد التأسيس.
بفضل ذلك، تحررتُ أخيرًا من انتباه النبلاء، فاسترخيتُ واتكأتُ على الحائط.
في منتصف الحفل، كان هناك ضجيج قصير بين النبلاء عندما اختفت القديسة فجأة، لكن ذلك لم يعنني على الإطلاق.
“متعبة.”
أعرف ما الذي توقعته الأميرة يوري عندما أعدتني بهذه العناية وأحضرتني إلى هنا.
لكن مجرد الوصول إلى هنا وفقًا لإرادتها كان شاقًا بما فيه الكفاية بالنسبة لي.
لم يكن بمقدوري بذل المزيد من الجهد أو التفكير في شيء آخر.
في تلك اللحظة، لمحتُ الأمير ريموند في وسط القاعة، لا يزال محاطًا بالنبلاء وهو ينظر حوله.
‘هل سمو الأمير يبحث عن القديسة أيضًا؟’
ظننتُ أنه، مثل بقية النبلاء، يبحث عن القديسة، فوجدتُ نفسي أنظر حولي دون وعي.
تذكرتُ ملامح القديسة ذات الشعر الفضي والعينين الزرقاوين، وتتبعتُ الحضور بعينيّ، ثم نظرتُ للأسفل نحو الشرفة دون تفكير.
فجأة، مرّ شعر أسود داكن كالليل أمام عينيّ.
حتى من هذه المسافة، عرفته على الفور.
كان هو.
في تلك اللحظة التي رأيتُ فيها ظهره وهو يسير بسرعة كمن يبحث عن أحدهم،
طق!
تحرك جسدي قبل عقلي.
أغلقتُ أذنيّ عن صوت قلبي الذي كان يصرخ “لا تفعلي، توقفي الآن”.
حتى عندما استعاد عقلي وعيه، كان الأمر نفسه.
لم يكن هناك وقت للتوقف، كنتُ أركض نحوه بالفعل.
* * *
شعرتُ بالنظرات تتجه نحوي وأنا أسير بسرعة، كأنني أركض، نحو مدخل القاعة.
تذمر النبلاء الذين اصطدمتُ بهم، وشعرتُ بأصابعهم تشير إليّ من الخلف دون أن ألتفت.
في الأحوال العادية، كنتُ سأتوقف وأعتذر على الفور، لكنني الآن لم أكن في حالة تسمح بذلك.
كنتُ أتبع أثره الذي لمحته للحظة ثم اختفى، أسير وأسير.
“أختي! أختي كلير!”
سمعتُ صوت الأميرة يوري عابرًا، لكنني تجاهلته وحدّقتُ إلى الأمام فقط.
عندما اقتربتُ من مدخل القاعة، كنتُ تقريبًا أركض.
شعرتُ أن تلك اللحظات القصيرة كانت طويلة جدًا.
خفتُ أن يكون قد اختفى في تلك اللحظة القصيرة.
خفتُ أن يكون قد ذهب إلى مكان لا أستطيع الوصول إليه.
خفتُ ألا أتمكن من إخباره بأي شيء على الإطلاق.
“آنسة هيذر.”
كنتُ على وشك تخطي المدخل.
خطوة واحدة أخرى، وكنتُ سأغادر القاعة.
لكن ذلك لم يحدث.
شعرتُ بيدي اليسرى تُمسك، ثم ذراع تلف حول خصري كأنها تحجب طريقي.
في لحظة، أُمسك بي ولم أستطع التقدم ولو خطوة واحدة.
حاولتُ المضي قدمًا متجاهلة ذلك، لكنني لم أستطع التحرك.
رفعتُ عينيّ بنظرة مليئة باللوم دون وعي، فالتقيتُ بعينين ذهبيتين غارقتين في الظلام.
“لا يمكنكِ مغادرة القاعة وترك خطيبكِ هكذا.”
بدا وكأنه ابتسم قليلًا في نهاية جملته، لكن تعبيره بدا أكثر برودة.
وهو يحدّق بي بعينيه الباردتين، استعدتُ وعيي أخيرًا.
شعرتُ وكأن دلوًا من الماء البارد سُكب فوقي من رأسي إلى أخمص قدميّ.
ماذا كنتُ على وشك فعله؟
“هل كنتِ ذاهبة إلى ذلك الرجل؟”
ابتسم هذه المرة، وهو يغمض عينيه ببطء.
“إذن، لا يمكنني ترككِ تذهبين.”
من بعيد، قد يبدو الأمر وكأنني ركضتُ إليه وتعلقتُ به، وهو يتحدث إليّ بلطف مبتسمًا.
رفع الأمير ريموند رأسه مبتسمًا، وألقى نظرة سريعة حوله.
“بسبب صراخ يوري، كل أنظار النبلاء في القاعة موجهة إلينا الآن. وأكثر من أي شخص آخر، يوري تراقبنا.”
ثم عاد إليّ بألطف ابتسامة في العالم، وهمس:
“في هذا الموقف، لا يمكنني السماح لكِ بالذهاب إليه.”
أمام تلك الابتسامة، حدّقتُ في عينيه الذهبيتين بوجه أحمق.
حتى بدون تلك النظرات الباردة أو التلميحات اللاذعة في كلامه، كنتُ أعرف أكثر من أي شخص آخر الخطأ الفادح الذي كدتُ أرتكبه.
لم أستطع حتى قول “أنا آسفة”.
كنتُ أعرف لماذا أحضرتني الأميرة يوري إلى هنا، ولماذا يشارك الأمير ريموند في هذه المسرحية السخيفة، وكنتُ أتذكر بوضوح اتفاقي مع الإمبراطورة كارولينا.
ما الذي كنتُ أفكر فيه لأركض إليه؟ أمام كل هؤلاء الناس؟
لستِ بوعيكِ، كلير هيذر.
لو لم يوقفني الأمير ريموند ، ماذا كان سيحدث؟
شعرتُ بقشعريرة تسري في رقبتي، فأطرقتُ رأسي بسرعة لتجنب نظرته.
في الوقت نفسه، شعرتُ برجليّ تفقدان قوتهما، فتعثرتُ، لكن ذراعه التي كانت تحيط بخصري شدّت قبضتها.
نظر إليّ بهدوء وأنا شاحبة الوجه، ثم خرجت تنهيدة خفيفة من شفتيه.
بسبب شعوري بالذنب، تقلّص جسدي حتى من صوت تلك التنهيدة القصيرة.
لم أجرؤ على رفع عينيّ إليه، فأطرقتُ رأسي متكئة على صدره.
التعليقات لهذا الفصل " 26"