4
بينما كانت ليورينا تحاول استجماع أنفاسها بعد هروبها من جماعة الأسد الذهبي، دخلت غابة بالقرب من المنطقة، وحينها وقع نظرها على منظر مرعب يوقف قلبها.
الأشجار كانت أكبر وأعظم من أي شيء رأته، لكن ما جعل المشهد أقسى هو الجثث المتدلية منها، وصرخات الرياح التي كأنها أصوات الأرواح المحبوسة. في منتصف الغابة، ارتفعت شجرة ضخمة ومهيبة، مغطاة بجثث حيوانات، كانت هذه شجرة النسل الأصلي لعائلة آل نيرفيل، رمزًا لقسوة أجدادهم، وأشد الأشجار وحشية.
بدأت الظلال تتحرك ببطء، كأنها تتنفس. فجأة، خرج أحد الكائنات الغريبة نحو ليورينا، جسده ملتف بشكل غير طبيعي وعيناه تتوهجان بلون أحمر مخيف.
دق… دق… طق… طق…
لم يكن صوت الطرق على الشجرة أو الأرض، بل كان قلب ليورينا، النابض بالخوف والرعب، كأنه يحاول الهرب من صدرها.
حاولت التراجع، لكنها شعرت بأن الغابة تحاصرها. كل ظل يتحرك وكأنه يراقبها، وكل نفسٍ تأخذه الريح يهمس باسمها بصوت عميق ومرعب.
في تلك اللحظة، أدركت ليورينا أن هذا المكان ليس مجرد غابة، بل معقل لعنة آل نيرفيل الحقيقية، وأنها الآن على أعتاب مواجهة لم تكن تتخيلها…
قاطع تشتتها صوت عالٍ وبطيء:
تششش تششش تششش!!!!!
بدأ المخلوق يتحرك نحوها ببطء، وتغلفه طاقة سوداء شيطانية شريرة.
ليورينا كانت تظن أن ما تراه مجرد وهم، لكن إحساسها الداخلي أكد لها أن ما تراه حقيقي تمامًا.
الغابة كانت غريبة؛ أشياء مبعثرة ممتزجة بطريقة عجيبة تحيط بها من كل جانب. ضباب متطاير، أصوات خافتة، أشكال غير واضحة، وكل شيء يغلف المكان بطابع غامض ومهدد.
لم تدرك ليورينا الأمر حتى وصل الكائن إلى قدميها، وصوت مرعب نبع منه:
“غوووووووو”
وفجأة، أصبح المكان مظلماً بالنسبة لها، وكأنها أمام فراغ لا نهاية له.
“أ-… أين أنا؟” همست، وارتجفت.
صوت آخر مرعب وخشن بدأ بالصراخ، مما جعلها تلتفت ببطء لتجد نفس الكائن، لكنه أصبح أكثر سوادًا من الفراغ ذاته، جسده يحلّق بالظلام.
“أننن-… أنتتب-… قوباي… قباب…” حاول الكائن الكلام، لكن كلماته مشوهة.
ثم نطق بلغة قديمة غريبة:
“ᗩ̽ᚾ̽ᛃ̽ ᛋ̽ᛃ̽ᛞ̸ᚺ̽ ᛋ̽ᛚ̽ᗩ̽ᛚ̽ᚺ̽ ᗩ̽ᗰ̽ᗩ̽ᚱ̴ᛃ̽ ᗩ̽ᛚ̽ᚹ̽ᚺ̵ᛃ̽ᛞ̸ᚺ̽ ᗩ̽ᛚ̽ᛗ̽ᛏ̿ᛒ̾ᛩ̽ᛃ̽ᚺ̽ ᛋ̽ᚹ̽ᚠ̽ ᛏ̿ᚲ̽ᚹ̽ᚾ̽ᛃ̽ᚾ̽ ᛩ̽ᚱ̴ᛒ̾ᗩ̽ᚾ̽ᛃ̽”
ليورينا لم تفهم كل شيء، لكنها شعرت ببعض الكلمات مألوفة، وواحدة منها أثارت قلبها:
“ᛚ̽ᛃ̽ᚹ̽ᚱ̴ᛃ̽ᚾ̽ᗩᗩ̽”
“هـ-… هل نطق اسمي للتو؟!!” صرخت، وبدأ جسدها يرتجف، وكأن كل شيء حولها يتبخر.
رأت الكائن يبتسم ابتسامة خبيثة تكاد تشق وجهه، وفجأة، وجدت نفسها تنهض في الغابة، لكن الزمان أصبح غريبًا. الشمس كانت تغرب، بينما عند دخولها الغابة كان الوقت مساءً فقط.
عادت إلى المنزل، وسألت سيدريك بخوف:
“ما تاريخ اليوم؟”
أجاب بصوت غير مبالٍ:
“٢٨/١١”
كان اليوم الذي ذهبت فيه إلى الغابة في بداية نوفمبر، والآن أصبح آخر الشهر، وعيد ميلادها قد فات، ولم يسأل عنها أحد أو يبحث!
شعرت ليورينا بالألم الشديد؛ كادت تغيب عن القصر لشهر كامل، لكن لم يبالِ أحد بها…
استلقت ليورينا على سريرها، غارقة في أفكارها الثقيلة. شعور الوحدة ينهش قلبها؛ كم هو مؤلم أن تدرك أن لا أحد يهتم لوجودها. وفجأة، وجدت نفسها تفكر في مظهرها، كأن ذلك سيكون جوابًا لتساؤلاتها العميقة.
انعكست صورتها في زجاج النافذة المكسورة والمتسخة:
عينان بنيتان غامقتان، شعر بني داكن أملس، وبشرة بيضاء ناصعة. شكل بشري عادي، بل عادي أكثر مما ينبغي، لكنه مختلف… مختلف عن كل من ينتمي لعائلة آل نيرفيل. كان أفراد العائلة يملكون شعراً أسود أو أحمر متموجاً، وعيوناً سوداء أو حمراء، أما هي، فكانت استثناءً صارخًا، نشازًا لا يندمج.
وفي لحظة الصمت تلك، تسلل صوت خافت من أعماقها، همسًا مقاطعًا شكوكها:
“هذا ليس شكلكِ الحقيقي… أنتي لستِ بشرية عادية.”
تجمدت ليورينا، اتسعت عيناها رعبًا. بالنسبة لفتاة صغيرة لا تعرف سوى الألم والرفض، لم يكن للصوت سوى معنى واحد:
“أنا وحش… ولست بشرًا.”
شعرت ليورينا بالألم ينهش قلبها، واعتزمت بعزم طفلة صغيرة أن تجعل مظهرها يتوافق مع بقية أفراد العائلة، أن تصبح مثلهم، حتى ولو كلفها ذلك كل شيء…
بعد تفكير طويل عن ماهيتها، غطّت ليورينا في النوم بعد تعب شديد لا يُطاق. قبل أن تنتقل إلى سبات عميق، شعرت بشيء يتحرك في الغرفة. ظلّت عيناها شبه مفتوحتين، متأملة الظلال على الجدران، لكن التعب غلبها، وغطّت في سبات ثقيل، كأن العالم كله توقف حولها.
“هممم…” أصدرت ليورينا صوتًا خافتًا، كأن الحلم نفسه يهمس بها، دلالة على أنها تغوص في أعماق كابوس مزعج.
داخل عالمها الداخلي، وجدت نفسها في الفراغ الغامض ذاته الذي رأته سابقًا، لكن هذه المرة كان الفراغ أكثر قتامة وعمقًا، لا شيء سوى صدى خطواتها، وصوت تنفسها الممزوج بصدى مجهول. كل خطوة كانت كأنها تجرّها إلى هاوية لا نهاية لها، والهواء حولها يهمس باسمها بصوت خافت لكنه مشحون بالقوة، وكأن الفراغ نفسه يعترف بوجودها.
بدأت تمشي، أو شعرت بذلك على الأقل، لكن الأرض تحت قدميها لم تتحرك، والفراغ أمامها يمتد بلا حدود، تاركًا روحها عارية أمام المجهول. فجأة، سمعت طنين حاد يعتصر أذنيها، وكأن أصوات الفراغ كلها تتحد لتهاجم وعيها. غطّت ليورينا أذنيها، لكن الألم ازداد، شعور كالشرارة تمر عبر جسدها كله، وكأن كل خلية تصرخ.
“مـ-… ما هذا؟” همست ليورينا، لكن صوتها تلاشى في الفراغ الكبير، وكأن الهواء نفسه ابتلعه.
ثم جاء صوت آخر، غير بشري، صارخ وحاد، يمزّق صمت الفراغ. شعرت ليورينا بألم رهيب، كأن روحها تُسحب من جسدها. ارتسمت أمام عينيها صور خاطفة: جدران القصر، وجه جايني، ضحكات جماعة الأسد الذهبي، كل شيء يمتزج في لحظة من الرعب الخالص، وكأن ذكرياتها كلها تحاصرها في زمن واحد.
تراجعت روحيًا، رغبتها الوحيدة كانت الهروب، لكن الفراغ لا يترك مكانًا للهروب. فجأة، لمست يديها شيئًا باردًا، ملمس غريب، كأنه مادة شبه حية تتلوى بين أصابعها، تلمحها بعينيها: وميض بنفسجي خاطف، لم تستطع تفسيره، لكنه أعطاها شعورًا غامضًا بأن شيئًا مرعبًا وقويًا يراقبها من الداخل والخارج.
نهضت فجأة، مفزوعة، متسائلة: “ما هذا الصوت الذي يكاد يسلب روحي؟” حاولت تهدئة نفسها، وطمأنت نفسها أنه مجرد حلم… لكنها شعرت أن هناك شيئًا حقيقيًا يقترب من عالمها، من داخل الغرفة.
وفجأة، عاد الصوت، وهذه المرة لم يكن في الحلم، بل في الواقع. النافذة المكسورة في المخزن أطلقت أصوات الريح، والصباح بدأ يتسلل عبر الشقوق، لكنه لم يبعث الدفء، بل زاد الغرفة برودة وغموضًا. ليورينا تزحف على الأرض من شدة الألم، تحاول الوصول إلى الباب. يداها تتعثران بالأرض الباردة، قلبها ينبض بسرعة، وكل عضلة في جسدها تصرخ.
عندما اقتربت من الباب، اكتشفت أنه مقفل بإحكام. حاولت فتحه، ضغطت بكل قوتها، لكنها شعرت بأن قواها تخور مع كل ثانية تمر، وكأن شيئًا ما يسحب منها القوة والحركة.
سقطت أخيرًا على الأرض، فاقدة للوعي، والضجيج الغامض يعلو حولها. صوت الصراخ المجهول أصبح أقوى، وكأن الغرفة بأكملها تتنفس، تهتز، وتتجهم على وجودها.
لكن وسط هذه اللحظة المرعبة، شعرت بشيء آخر ينبض داخلها: قوة غامضة وسرية، لم تعرفها من قبل، شعور غريب بالقوة التي تتراءى في وميض خاطف من عينها، تتوهج ألوانها بين البنفسجي والأسود، وكأن الكون كله يختزل في روحها.
وفجأة، همس شيء عميق داخل رأسها، وكأنه صوت من داخل روحها نفسها، لم يخرج من أي فم:
“كدتِ تموتين… أنتِ مدينة لي، ليورينا…”
سمعت ليورينا تلك الكلمات، لكنها بدأت تفقد وعيها تمامًا، تاركة جسدها في سكون مخيف، بينما الفراغ والظلال تبتسم بصمت، وكأنها كانت على أعتاب شيء أكبر، شيء سيغير كل ما تعرفه عن نفسها وعن العالم.
قالت ليورينا قبل أن يغمرها الظلام وتفقد وعيها بالكامل:
“لن أبقى ضعيفة بعد الآن… وسأرد ديني لكِ…”
بهذه الكلمات، خرجت شخصيتها الحقيقية إلى السطح، الشخصية الفعلية لليورينا التي لا تشبه ما اعتاد الناس رؤيته منها. قررت أن تصمد مهما كان الثمن، وأن تترك شخصيتها القديمة النائمة تبتلعها بالكامل.
رغم صغر سنها، بدا واضحًا أنها تمتلك نضجًا يفوق عمرها، وفهمًا مبكرًا لقوة الذات والصمود أمام ما سيأتي. كان
ت تلك اللحظة نقطة التحول الحقيقية في حياتها، بداية ولادة ليورينا التي لن يمكن لأي شيء أن يكسرها بعد الآن.
Chapters
Comments
- 5 - وسط الظلال كسرت القيود منذ 8 ساعات
- 4 - عناق الظلال - بداية الانكسار منذ 8 ساعات
- 3 - بين الأمل واليأس - دماء حارقة منذ 8 ساعات
- 2 - أولى الضربات منذ 8 ساعات
- 1 - بداية العاصفة منذ 4 ساعات
- 0 - قائمة الشخصيات منذ 4 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 4"