كانت ليورينا في الخامسة من عمرها، عمر طفولي بريء لم يعرف إلا القليل عن القسوة الحقيقية في العالم. لم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها ليورينا للمعاملة القاسية من أفراد عائلة آل نيرفيل، لكن هذه المرة كانت بلا شك الأقسى على الإطلاق. وبرغم ذلك، لم يكن أمامها إلا الصمت والخوف… وما سيأتي في المستقبل كان أكثر قسوة وأشد وقعًا على قلبها الصغير.
الشتاء في القرية لم يكن مجرد موسم، بل كان عاصفة من المشاعر، زائر ثقيل يترك أثره في كل شيء. السماء ملبدة بالغيوم الرمادية، والمطر يهطل بغزارة على الأسطح الطينية ويملأ الأزقة بالمياه والوحل. الأرض أصبحت بحيرة من الطين اللزج، كل خطوة تُصدر صوت “تشب تشب” كأنها تحذر من الانزلاق.
الأطفال خرجوا بعد أن هدأ المطر قليلًا، وجوههم متوهجة بالحماسة، أيديهم الصغيرة ممتلئة بالطين، يلتقطون الكتل الرطبة ويلعبون بها كأنها كنوز ثمينة. القرية نادرًا ما تشهد أمطارًا كهذه، لذا كان المشهد يشبه مهرجانًا صغيرًا من الفوضى البريئة.
ليورينا ركضت وسط الفوضى بفرح الطفولة، شعور لا يعرفه قلبها كثيرًا، وجهها يلمع بابتسامة نقية رغم البرد، وثوبها البسيط تلطخ سريعًا بالطين. شعرت بحرية نادرة، لم تدرك أن هذه اللحظة السعيدة ستتحول إلى ذكرى سوداء محفورة في أعماقها إلى الأبد.
زلة صغيرة على الطين اللزج أسقطتها أرضًا. جسدها الصغير ارتطم بالأرض، والطين غطى شعرها، وجهها، ويديها. حاولت النهوض بخجل، ضحكت في نفسها بصوت خافت، محاولة تجاهل برودة الشتاء المبتلة. لكنها لم تعرف أن سقوطها سيُقرأ بشكل مختلف عند الآخرين.
“ليورينا، هل أنت بخير؟!” صرخت نيلا، الأخت الوسطى لعائلة آل نيرفيل، وركضت نحوها بقلق صادق.
“هاهاهاها!” ارتفعت أصواتهم وكأنهم أمام مسرحية هزلية، قلب ليورينا ضاق، لم تفهم. كل ما فعلته أنها وقعت، فلماذا أصبح الجميع أعداء؟
وسط هذه الفوضى، ارتفع صوت غليظ: “اصمتوا!!!”
انقشع الصخب، وعمّ الصمت لوهلة.
خطوات ثقيلة، بطيئة، اقتربت. الأرض نفسها بدت وكأنها ترتجف مع كل خطوة. لم ترَ وجه الشخص بوضوح، فالطين دخل عينيها، لكنها شعرت بالرهبة.
ثم أحست بيد قاسية تمسك ملابسها، ترفعها عن الأرض بعنف، صدرها الصغير كاد يختنق.
“لِما فعلت ذلك؟!! هل تودين الموت؟”
صوت خشن، ممتلئ بالغضب والاحتقار، كل نغمة منه كالرعد في قلبها الصغير.
فتحت عينيها بصعوبة لترى أمامها وجهًا قاسيًا، عيونًا باردة، ابتسامة ساخرة. كان إلكساندر، الابن الأكبر، وتوأم آمون، ابن آيمي. حضور إلكساندر كان معروفًا في كل مكان، حضوره يكفي لشلّ القلوب قبل العيون.
لم تفهم ليورينا معنى كلماته. “الموت؟ ما الموت؟” تساءلت في داخلها، براءة الطفلة تصطدم بالقسوة لأول مرة بهذا الشكل.
“مـ-… ماذا فعلت؟ أوفعلت لك شيئًا يغضبك؟ أ-… أنا آسفة…” قالت بصوت مرتجف، بالكاد خرج من شفتيها.
ضحك إلكساندر. ضحكة بلا دفء، مليئة بالتهكم والشماتة. أمل ضعيف لمع في قلب ليورينا بأن ربما سيسامحها، لكنه تلاشى سريعًا.
بووووممممم!!!
ضربة قوية على رأسها جعلت الدنيا تسود في عينيها. الأرض دارت، جسدها ارتعش، قلبها يختنق من الفزع.
“أتسأليني عما فعلتِه وأنت قد رميتني بالطين؟!!” صرخ كالرعد، مكسورًا أي شعور بالأمان داخلها.
في داخلها، ارتفع صوت آخر، لم يكن صوتها، بل كيان غامض: “أتفعل كل هذا لأنني رميتك بالطين دون قصد؟!!”
لكن الصوت لم يجد طريقًا للخروج. القيود كانت أقوى: الطاعة، الخوف، الضعف.
إلكساندر لم يكتفِ، تركها لكنه أمر الآخرين: “اضربوها!”
وانهالت الصفعات، الدفعات، الركلات.
نيلا وستيلا، اللتان أمسكتا يدها قبل قليل، لم تتحركا. وقفتا تتفرجان بصمت، بعينين مترددتين، بلا فعل.
وبعد أن أشبعوا ضعفها ضربًا، تركوها ملقاة في الوحل، جسدها الصغير يختنق، قلبها محطم.
أخذتها نيلا وستيلا أخيرًا إلى المنزل. توقعت كلمة مواساة، حضنًا، أو على الأقل دفء من جايني، زوجة ڤالار، أمها المفترضة. لكن ما استقبلته لم يكن إلا صفعة أخرى: “اذهبي ونظفي نفسك يا قذرة!”
تركوا لها الحمام البارد، جسدها يرتجف، يدها المرتعشة تحاول صب الماء على شعرها. لم تعرف كيف تنظف نفسها، لا تعرف استخدام الشامبو أو الصابون. الرغوة دخلت عينيها، أنفها، وحتى فمها، جعلتها تبكي بصمت.
خرجت بعد محاولات طويلة، جسدها لا يزال مغطى ببقايا الطين، شعرها متكتل، ورائحة غريبة من خلط المواد دون فهم.
التقت بعين صوفيا، الابنة الكبرى. لم يظهر في وجهها أي شفقة، بل اشمئزاز صريح. أمسكت ليورينا بقسوة، حممتها وهي تصرخ عليها، تضربها، كأنها تعاقب جرذًا اقتحم منزلها.
قلب ليورينا تمزق… خذلان، ألم، صدمة، قرف… كل شيء اجتمع بداخلها.
التعليقات لهذا الفصل " 2"