كانت الطيور النّادرة ذات الرّيش الأزرق ، و التي قد يساوي الواحد منها ملايين الذهب ، تزقزق محلّقة فوق طاولة شاي ما بعد الظّهر في دفيئة القصر الإمبراطوريّ.
كانت الإمبراطورة تجلس في منتصف الطّاولة المفروشة بمفرش أبيض ناصع ، و قد رفعت شعرها البنّيّ الأنيق إلى أعلى و ارتدت فستانًا ذهبيًّا.
كان عقدٌ نفيس يساوي شراء قلعة كاملة يزيّن عظمة ترقوتها البارزة.
“إنّه شاي تالينس جُلِبَ من تشين خلف البحر. لونُ مائه الذّهبيّ المشرق و مذاقه الحلو رائعان. ما رأيك ، يا صاحب السّموّ؟”
“حتى لو بدا الشّيء فخمًا ، فإنّ المواشي في النهاية تبقى مواشي”
و بجوار الإمبراطورة كان سيدريك يجلس مرتديًا بزّة الأمير.
كانت عيناه الحمراء الباردة متوجّهتين نحو إفريلين الجالسة بعيدًا عنه.
كانت إفريلين ترتدي فستانًا رماديًّا بسيطًا ، و شَعرُها الذّهبيُّ كالخيوط كان ينساب برفق حين رفعت فنجانها.
“الشّاي ، ما هو إلّا ماءٌ مُنقوعٌ فيه نبات ، مهما بدا فاخرًا”
ارتعش حاجبا الإمبراطورة قليلًا لكون ابنها لم يقدّر ضيافتها النّفيسة ، لكنّها من ذلك النّوع الذي يوافق على أيّ قول يقوله ابنها ، و لو قال إنّ السّمّ مفيد للصّحة.
ثمّ ابتسمت ابتسامة مُشرقة و هزّت رأسها.
رفع سيدريك فنجانه ببطء من دون أن يُبعِد عينيه عن إفريلين.
و أثناء إمالته كأس الشّاي للشّرب تحرّكت تفّاحة آدم لديه صعودًا و هبوطًا مرّات عدّة.
“لكن لا أنكر أنّ الرّائحة تعجبني كثيرًا”
“جرّب هذا أيضًا ، إنّه البسكويت المرافق للشّاي ، و يُقال إنّه يلائم شاي تالينس تمامًا”
و مثل كلّ مرّة ، لم ترفع إفريلين نظرها نحو حديث الأمّ و ابنها ، و اكتفت بشرب الشّاي.
كان الشّاي الأخير الذي تمّ نقعه بإفراط مريرًا قليلًا ، لكن كان فيه عبيرٌ مميّز.
“يا صاحبة السّموّ الأميرة”
جاء صوت الإمبراطورة فجأة.
كان أسلوبها باردًا منخفضًا على خلاف نبرتها المبتهجة حين تخاطب ابنها.
“لونكِ لا يبدو جيّدًا. و لهذا السّبب لا يلتفت إليكِ الدّوق ، أليس كذلك؟”
وضعت إفريلين الفنجان بهدوء و نظرت إلى الإمبراطورة.
كانت العينان الحمراوان اللتان شاركتا اللون نفسه مع سيدريك مليئتين بازدراء لا ينتهي.
“جاذبيّة المرأة تأتي من بشرتها ، ألا تبدو كأنّها جثّة؟”
ارتسمت ابتسامة سخرية عميقة على شفتي الإمبراطورة و هي تتحدّث بوضوح بحيث يسمع الأمير كلّ كلمة.
لم يردّ سيدريك على كلام الإمبراطورة ، بل اكتفى بالنّظر البارد نحو إفريلين.
رفعت الإمبراطورة ذقنها قليلًا و تابعت: “ما دام جسمها لا يُعوَّل عليه ، فلا بدّ من تغليفه جيّدًا قبل أن نُرسلها”
ثمّ لمّحت بعينيها لإحدى الوصيفات ، فخرجت الوصيفة من الدّفيئة و جلبت أحدهم.
كانت امرأةً تعمل رئيسةً للخياطين في غرفة ملابس القصر ، مسؤولة عن تفصيل البزّات و الفساتين.
انحنت بعمق لتحيّي الإمبراطورة.
أومأت لها الإمبراطورة عائدةً بالتحيّة ، ثمّ قالت لإفريلين: “سنقيس مقاسات فستان الزّفاف ، فقومي”
ارتجفت أصابع إفريلين قليلًا ، و رفعت حاجبيها بخفّة و هي تسأل: “هنا ، يا صاحبة الجلالة؟”
“نعم ، أهناك ما يزعجكِ؟”
ردّت الإمبراطورة ببرود.
كان من المعروف أنّ تفاصيل جسد امرأة بالغة تُعدّ أمورًا حسّاسة ، و أنّ أخذ القياسات يجب أن يتمّ بسرّيّة.
حتى في محالّ الثّياب الخاصّة بالعوامّ ، توجد غرف منفصلة لقياس المقاسات ، و كذلك الأمر عند تفصيل الدّروع للجنود.
أمّا أن تُقاس المقاسات هكذا في دفيئة مفتوحة بلا ساتر ولا حجاب ، فهذا أمر غير مقبول.
و خاصةً بوجود رجل مثل سيدريك ، و لو كان من العائلة نفسها.
‘هذه المرأة لا تعتزم أصلاً معاملة إفريلين كإنسانة’
و بما أنّ الإمبراطورة كانت في ذكرياتها دائمة التّعبير عن ازدرائها بكلّ طريقة ممكنة ، فليس الأمر مُفاجئًا.
وقفت إفريلين من مقعدها و تقدّمت نحو الخيّاطة.
شعرت بنظرة سيدريك الباردة على مؤخرة رأسها و كأنّه يشاهد مسرحيّة.
“ارفعي ذراعيكِ ، من فضلكِ”
وقفت إفريلين في مواجهة الأمّ و ابنها ، و لم يكن بينهما سوى ستّ خطوات تقريبًا.
رفعت إفريلين يديها ، فبدأت الخيّاطة بقياس مقاساتها بشريط القياس الخاصّ بها.
“…….”
رفع سيدريك فنجان الشّاي الذي امتلأ من جديد بالشّاي السّاخن.
و بينما يتذوّقه ، لم يبعد عينيه عن إفريلين.
التفّ شريط القياس حول خصر إفريلين ، و تمتمت الخيّاطة بلا مبالاة: “٢٢ بوصة”
و بتضييق الفستان الرّقيق فوق جسدها ظهر خط خصرها النّحيل بشكل أوضح.
ثمّ وقفت الخيّاطة مستقيمة و رفعت الشريط نحو صدرها.
شعرت إفريلين برغبة في نزع عيني سيدريك اللتين تحدّقان بها دون حياء.
فليس قياس المقاسات أمرًا جديدًا عليها من أيّام درعها العسكريّ ، لكنّ هذا النّوع من النّظر لم تعتده.
قاست الخيّاطة بدقّة من أبرز مواضع الانحناء في صدرها مرورًا بظهرها.
“…….”
تحرّكت تفّاحة آدم لدى سيدريك ببطء صعودًا و نزولًا و هو يشرب الشّاي.
كانت عيناه الحمراوان في ملامحه الباردة تنظران إليها بنظرة أشدّ إلحاحًا و قذارة من نظرة الماشية ، ففهمت إفريلين شيئًا إضافيًّا عن هذا الرّجل ، أحد من يجب أن تنتقم منهم.
لو لم تُربَّ إفريلين كابنة لعائلة مارشيليس ، لكانت فريسة هذا الرّجل.
و كان سبب النفور الملتوي الذي يُظهره تجاهها أنّها كانت سمًّا يفتح شهيّته لكن لا يجوز له الرّغبة فيه.
و عندما تمتمت الخيّاطة بمقاس صدرها و دوّنته ، ارتجفت الحمرة القانية في عيني سيدريك و ارتفع جانب شفتيه.
“جسدٌ بلا قيمة و منحنيات سوقيّة. تمامًا مثل أمّها”
جاء صوت الإمبراطورة و هي تنقر بلسانها ، تصف أمّ إفريلين.
و بعدما انتهت الخيّاطة من قياس المقاسات و انحنت و غادرت ، جلست إفريلين في مكانها.
هل كان هذا هو الإذلال الذي اعتادته دائمًا؟
<أن أُسقِط الإمبراطوريّة القذرة ، آل مارشيليس. هذا ما أريده. لقد فقدتُ الكثير ، تمامًا مثلكِ>
بدأت تفهم قليلًا سبب اليأس الذي امتلأت به عينا إفريلين البنفسجيّتان و هي تحدّق بها في الزّنزانة.
“تعلم يا صاحب السّموّ ، عن الأميرة رواترا من غالت. تلك التي جاءت كرهينة ، ثمّ سمعت بنبأ سقوط بلادها ، فانتحرت”
رفعت الإمبراطورة ذقنها قليلًا و حدّقت في إفريلين و تابعت: “تلك العاهرة التي أغوت رجلًا متزوّجًا بلا خجل”
و توقّف حتّى صوت الطّيور ، و هبط سكون كثيف.
كانت إمبراطوريّة بيلنوا تتّبع نظام الزّوجة الواحدة ، و كان الزّنا أمرًا معيبًا يخالف الدّين.
و رغم وجود الخائنين في كلّ مكان ، فقد كانت الإمبراطورة ترى أنّ إنجاب الإمبراطور طفلةً غير شرعيّة أمرٌ مشين للغاية.
لكن ما دام الإمبراطور قد اعترف بإفريلين كأميرة ، و لم يعد بإمكانها إخفاء ذلك ، كانت تستدعيها إلى مجالسها و تشتم أمّها مع سيّدات النبلاء لتُنفّس غضبها.
و إن كان ذلك أقلّ حدوثًا أمام سيدريك.
“أميرنا ذكيّ للغاية ، لكنّي أحذّرك على أيّ حال. النساء بلا أخلاق اللواتي يُغوين الرّجال كالأفاعي بأجسادهنّ الدّنيئة … كالّتي تُسمّى رواترا”
“إن كانت المرأة التي تُغوي رجلًا متزوّجًا تُسمّى عاهرة دنيئة—”
فتحت إفريلين فمها بصوت هادئ.
و لطالما تجاهلت كلّ ما تقوله الإمبراطورة دون ردّ ، لكنّها شعرت أنّ كلمة واحدة لا بأس بها.
“—فماذا نسمّي الرّجل الذي يعتدي على امرأة و هو متزوّج ، يا صاحبة الجلالة؟”
كانت أمّ إفريلين ، في ذكريات ابنتها ، لا تحبّ الإمبراطور قطّ ، بل كانت تكرهُه و تخشاه.
و لم تنظر إلى ابنتها يومًا لأنّ لون شعرها يشبه لون شعره.
لم تعترف بها أصلًا.
و بذلك لا بدّ أنّ الحقيقة هي أنّ الإمبراطور اغتصب تلك الأميرة الغريبة التي جاءت رهينة.
و هذا أمر تعرفه الإمبراطورة يقينًا.
فما كانت لتصفع رواترا دون أن تسمع القصة كاملة.
“……!”
تجمّد حاجبا الإمبراطورة من سؤال إفريلين الوادع.
و قد انطفأت بهجة الإمبراطورة التي كانت تتسلّى بإهانة رواترا بعدما عادت ذكراها عند قياس مقاسات إفريلين.
أمّا سيدريك ، فقد ارتفع جانب فمه ببطء و هو يحدّق بإفريلين بعيون أكثر احمرارًا.
“أنتِ … ماذا قلتِ للتوّ …؟”
تشوّه وجه الإمبراطورة ، و قد انكسرت سكينتها.
لكن إفريلين ، أو بالأحرى دافني الكامنة في أعماقها ، كانت صاحبة شخصية صلبة لا تلين.
و كانت دائمًا تتجرّأ على قول كلمة حقّ حتى لو عوقبت.
و هذه الصّفة بالذّات هي ما جعلت رجال فرقة الأفعى السّوداء يخلصون لها بلا حدود.
“أعتذر إن كنتُ قد أزعجتُكِ. لقد سألتُ بدافع الفضول فحسب”
و كان قول كلمتها ثمّ الاعتذار الصّوريّ بعدها مباشرةً إحدى عادات إفريلين القديمة.
فهي في الحقيقة لم تكن آسفة إطلاقًا ، بل كانت تشعر بالارتياح.
‘قلتُ كلمةً بدلًا منكِ يا إفريلين’
كانت الإمبراطورة ــ بدلًا من مواجهة زوجها ــ قد صبّت كراهيتها على رواترا الضّعيفة.
كراهية مبتذلة و مُقزّزة لدرجة القيء.
و من خلالها ظلّت تعذّب إفريلين سنوات طويلة ، تلقّنها العجز ، و تغرس فيها الذّنب ، و تحطّم احترامها لذاتِها.
‘امرأة شيطانيّة’
ألم يكن غريبًا أن تكون أمّ سيدريك ، المجرم منزوع الإنسانيّة.
وقفت إفريلين بخفّة و على شفتيها ابتسامة.
“سأعود الآن. استأذنكِ ، يا صاحبة الجلالة”
“اصمتي! أتظنّين أنّك ستعودين بسلام بعد قول مثل هذا الهراء تحت سقفي؟”
كادت الإمبراطورة تهجم على شعر إفريلين ، لكنّ سيدريك الذي كان يبتسم بخفّة فتح فمه فجأة ليمنع أمّه.
“دَعيها ، يا أمّي”
“لكن يا صاحب السّموّ!”
تجاهل سيدريك كلامها ، و حدّق بإفريلين بعينيه الحمراوين الآمرة و قال: “اخرجي من هنا”
‘عجبًا ، هذا المجنون يساعد أحيانًا’ ، فكّرت إفريلين و هي تستدير مبتعدة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"