6
كما هو حال الكثير من المحاربين ، كان لدى دافني أيضًا طائر مخصّص لحمْل الرّسائل.
كانت قد عثرت على فرخ صغير حديث الولادة في عشّ للغربان فقد أمّه ، فاعتنت به بصدق حتّى كَبِر ، و منحته اسم “سكارليت”.
سكارليت ، الأصغر حجمًا من الغربان الأخرى لكنّ ريشه لامع ، كان سريعًا جدًّا و ذكيًّا و مخلصًا.
كان طائرًا يُنفِّذ مهامه بإتقان شديد.
و كان من السّهل على إفريلين أن تُعلِم سكارليت أنّها لا تزال على قيد الحياة.
فييك— فييك— ، كان صفير شفتيها أعلى نبرةً من صوتها الحقيقي لكنّ الإيقاع المميّز بقي كما هو.
و كما توقّعت ، هبط سكارليت على حافة النّافذة يخفق بجناحيه و هو يحدّق بها بثبات.
“إنّها أنا ، دافني”
و كأنّه فهم الكلام ، فأطلق سكارليت صرخة “كاااخ—” ، و كانت تلك الاستجابة باعثة على السّرور الشّديد.
الآن ، صار سكارليت هو عائلتها الوحيدة.
مدّت إصبعها لتلامس ريش سكارليت بخفّة دون أن تلمسه تمامًا ، ثمّ مزّقت قطعة من الورق و بدأت تكتب رسالة.
كانت تلك رسالة موجّهة إلى جيرارد فالينتين ، نائب قائد “الأفعى السّوداء”.
أولئك التابعون الأعزّاء الّذين ارتبطت بهم لأكثر من عشر سنوات كأنّهم جزء من جسدها نفسه ، كان يؤرقها دائمًا أنّها لم تستطع ترك رسالة وداع لهم.
[إلى نائب القائد و أفراد الأفعى السّوداء.
إن وصلت هذه الرّسالة إلى أيديكم ، فحتْمًا أكون قد عدتُ إلى تُراب الأصل.
لا أنوي تقديم أعذارٍ لكم.
فقط … سيكشف الحقُّ يومًا ما عن وجهه الحقيقيّ بنفسه ،
و لن تحتاجوا إلى رفع سيوفكم من أجله.
أعتزّ بأنّني كنتُ أجنحتكم ، و بأنّكم كنتم جسدي.
و الآن ، ستستطيعون المُضيّ قُدمًا من دوني.
لا تُحدّدوا السّيوف ، ولا تُحرقوا أنفسكم بالغضب.
كلوا … و اضحكوا … و عيشوا حياتكم.]
بعد أن أصبحت دافني أغراف متّهمة بالخيانة ، لا شكّ أنّ “الأفعى السّوداء” تمّ تفكيكها ، و أنّ أفرادها تفرّقوا.
لم تكن تحتاج إلى انتقام لهم. فقط أن يعيشوا حياتهم.
و لأنّ هذا يكفي لتوصيل مقصدها ، ربطت إفريلين الرّسالة في قدم سكارليت و أرسلته.
و بعد أيّام ، حين عاد سكارليت ، فتحت الرّسالة المعلّقة بساقه فظهر خَطّ جيرارد فالينتين النّظيف المرتّب.
[أرغب في لقاء من نقل إليّ وصيّة القائدة]
كانت الكتابة ملخّصة بعجلة ، لكنّ الورقة كانت مطويّة بعناية كما لو أنّ صاحبها كبَتَ مشاعره ليطويها معها.
ابتسمت إفريلين بسخرية خفيفة ثمّ مزّقت الرّسالة.
هنا ينتهي أثر دافني أغراف ، ولا نية لها في التحدّث مع تابع سابق.
الانتقام شأنها وحدها. و لن تجرّهم إلى الوحل.
“سكارليت ، تعال كلّ يوم و خذ النّفايات”
ربّتت بخفّة على رأس سكارليت الصّغير و ابتسمت ابتسامة باهتة.
من الآن فصاعدًا ، سيتولّى سكارليت التخلّص من بقايا الطّعام المسموم.
و بديهيٌّ أنّه ، خلافًا لطائر سيدريك الأحمق ، لن يأكلها ، بل سيُخفيها داخل بطانة القماش ثمّ يدفنها في مكان بعيد لا يُكشف.
و بما أنّ هناك جنودًا يراقبونها ، استحالة أن تمتنع تمامًا عن تناول الطّعام المسموم ، لكنّه لا ينتظر عادةً حتّى تنهي دافني وجبتها.
“كاااخ-“
و مع ردّ سكارليت الذكي ، ازدادت ابتسامتها عمقًا.
‘مجرّد تقليل كمّيّة السّم المُتناوَلة كان كافيًا لإبطاء انهيار الجسد.’
**
في شرفةٍ مطلّة في أحد حانات المنطقة النّشطة ، كان ثلاثة رجال يتناقلون قراءة رسالة القائدة دافني.
الشّاب ذو الصّديري الجلديّ البني كان يُدعى جيرارد فالينتين ، و كان يومًا نائب قائد “الأفعى السّوداء” و الآن جنديًا على وشك إنهاء خدمته. أمّا الاثنان الآخران فكانا يخدمان في كتيبة الحراسة الغربيّة للعاصمة.
“إنّه بالفعل خَطّ القائدة”
مدّ يده يلمس الكتابة.
إنّها تحمل تلك الحيويّة و القوّة الّتي تميّزها دائمًا.
“اللعنة …”
الرّجل الآخر ضرب الطّاولة بقبضته بخفّة ، و عيناه تتلألآن بالغضب العميق ، و يده المرتجفة تقول ما لا يقوله لسانه.
“تقول مصادر من القصر الإمبراطوري إنّ جثمان القائدة حُرِق قبل أسبوع”
عضّوا أسنانهم بعنف على كلام جيرارد.
“هذا مستحيل … القائدة خائنة؟”
حين أُخذت ، كانوا لا يزالون يأملون أن تتبيّن براءتها و تُفرَج.
فهي أكثر من قدّم ولاءً للإمبراطوريّة ، و أكثر من ضحّى.
لكن ما عاد إليهم لم يكن إلّا خبر موتها و وصيّتها. بلا أيّ معنى.
“سمعتُ إشاعة خطيرة”
“إشاعة؟”
خفض جيرارد صوته.
فبيتُه ، عائلة “ويلز” ، من أكبر التّجّار و يتداولون أخبار العاصمة و الإمبراطوريّة.
“يُقال إنّهم يجمعون مجرمين محكومين بأحكام مؤبّدة أو أكثر … ليقيموا صيدًا بشريًّا للتّسلية. الإمبراطور ، و بعض كبار النّبلاء … سرًا”
على كلام نائب القائد ، لم يستطع الرّجلان كبح غضبهما.
“هل هذا شيء يفعله إنسان؟”
“حقًّا … حتى لو كانوا مجرمين ، فذلك مخالف للقانون. لو كان صحيحًا ، ستحدث فوضى عظيمة”
تعدّ الكنيسة حياة الإنسان مقدّسة.
و حتى تنفيذ الإعدام يخضع لإجراءات إنسانيّة. صيد بشري؟ مستحيل.
“لو أنّ القائدة كانت ضحيّة لذلك … فلن أبقى ساكنًا”
“اهدأ أوّلًا ، أنا أيضًا أتحقّق من التّفاصيل. لكن ما يهمّنا هو …”
كان في الرّسالة الّتي أعادها جيرارد وصيّة تشبه دافني تمامًا: ألا يعلّقوا حياتهم على الانتقام ، بل يعيشوا.
“… معرفة الحقيقة … و محاسبة من اقترفها”
أفراد “الأفعى السّوداء” ليسوا من النّوع الّذي يلتزم بالأوامر.
ولا جيرارد نفسه كان يختلف كثيرًا.
“سنُكمِل التّحقيق مع آخر من التقاها ، الكونت أغراف”
“حسنًا. أمّا أنا فسأبحث عمّن أوصل الرّسالة. لم يصل ردّ ، لكن يبدو أنّه روّض سكارليت ، فلا بدّ أن له صلة بالقائد”
و تبادلوا النّظر بعيون حازمة ، ثمّ وقفوا.
لكن لمّا همّوا بالدّوران ، استوقفهم منظر رجلٍ دخل الحانة.
“… إنّه …”
كان ذا شعر أسود ، و خطّ فكّ حادّ ، و أنف مرتفع ، و عينين زرقاوين نافذتين لدرجة بثّ الاختناق.
تزيّن بزّته السّوداء العديد من الأوسمة ، و على خصره مسدّس ذو سبطانة راقية يكشف ثلثها تقريبًا.
طوله يتجاوز ستّ أقدام بسهولة ، و عرض كتفيه يجعله يبدو كفارس مدرّع.
و الّذين يتبعونه كانوا من أصحاب أكبر خمس شركات في العاصمة.
“إدوين كرويل بلايز ، دوق الشّمال”
لأنّه في ساحة الحرب دائمًا يرتدي خوذة ، لم يتعرّف إليه سوا جيرارد بفضل يقظته.
و حين شعر الرجل بنظراتهم ، طرفوا بأعينهم و انحنوا قليلًا احترامًا ، فلا داعي لجلب الانتباه.
ثمّ دخل هو و التجّار إلى غرفة في الدّاخل ، و غادر الثلاثة الحانة.
و في طقسٍ جميل لدرجة السّخط ، رفعوا رؤوسهم نحو سرب طيور مهاجرة.
يتذكّرون القائدة الرّاحلة.
دافني أغراف … كانت أقوى و أعظم فارس عرفوه.
**
حين يمرّ المرء في الممرّ المُخصّص للضّيوف المميّزين ، يصل إلى شرفة مستقلّة هادئة.
جلس إدوين كرويل بلايز في المقعد الرّئيس ، ثمّ جلس التّجّار الثّلاثة.
و من بين كبار النّبلاء ، كان دوق بلايز أحد أصعبهم في التّعامل ، فارتسم توتّر طفيف على ظهورهم.
أحد التّجّار الأكبر سنًّا حاول تلطيف الأجواء فضحك و قال: “سمعنا أنّك ستتزوّج قريبًا من سموّ الأميرة ، مبارك لك يا صاحب السّعادة”
“أجل ، مبارك مرّة أخرى”
و انضمّ الآخرون بالتّهاني.
كانت الأميرة ابنة غير معروفة الملامح و الاسم تقريبًا ، لكنّها تبقى الأميرة الوحيدة لبيلنوا.
و سلالة مارشيليس تُعدّ هديّة بشريّة عظيمة يمنحها الإمبراطور لمن يشاء من خاصّته.
“يقولون إنّ جلالتها فائقة الجمال …”
“المظاهر لا قيمة لها”
انطلق من شفتي إدوين صوت بارد كعاصفة شتاء ، جعل الحاجبين المرفوعين لدى التّجّار يجمُدان.
مدّ أصابعه الطّويلة القويّة يلمس بها سبطانة مسدّسه بلطف ، ثمّ أمسكه.
و صوّبه نحو السّماء البعيدة.
طاخ—!
ارتجف التّجّار و اتّسعت أعينهم.
و بعينين تضيقان كعيني وحش ، ظلّ يُحدّق طويلًا في السّماء قبل أن تتحرّك شفتاه: “أخطأتُ الهدف”
لا يعرفون ما الّذي حاول إصابته ، لكنّ نبرة صوته العميقة الخشنة المشبعة بالأسى أثارت خوفًا فطريًّا.
رجلٌ يبدو أنّه سيصطاد شيئًا آخر لو فشل في صيد الطّيور.
أنزل عيناه الباردتين نحو التّجّار و تكلّم بصوت جليديّ: “فلنبدأ الحديث”
التعليقات لهذا الفصل " 6"