1
طاخ—!
عند سماع صوت البندقيّة الذي دوّى على بُعد شبرٍ واحد ، التصقت دافني بالأرض بين الأدغال أكثر فأكثر.
كانت امرأةً ذات خبرة ، خاضت عددًا لا يُحصى من المعارك و خرجت منها منتصرة ، لذا كانت تعرف جيّدًا كيف تُنظّم أنفاسها و تُخفي أيّ أثرٍ لها في مثل هذا الوضع.
“كياااااك!”
ثمّ ظهرَت فتاةٌ تركض خارجةً من بين الشجيرات و هي تصرخ.
كانت الطفلة ترتدي فستانًا مهترئًا ، و صرختها المذعورة خرجت من وجهٍ شاحبٍ تمامًا.
‘بتصرّفها هذا ستجعل ملاحقتها أسهل فقط’
قبضت دافني قبضتها بشدّة مع تصلّب حاجبيها ، لكنّها لم تتحرّك.
و سرعان ما دوّى صوت “طاخ—” آخر ، و سقطت الطفلة على الأرض مصحوبةً بصرخة احتضار.
ظهر أنّ صدرها قد اختُرِق مباشرة ، إذ احمرّ ظهرها على شكل دائرة.
“يبدو أنّ مهارة الصيد لدى السيّد بيشوب (معناه الفيل بالشطرنج) تنمو يومًا بعد يوم”
انطلق تصفيقٌ صاخب من كلّ الجهات.
توجّهت عينا دافني ، المختبئتان خلف شعرها الأسود الطويل ، نحو الصيّادين.
الصيّادون الأربعة ، الذين يصطادون المذنبين من القصر الإمبراطوري ، كانوا جميعًا رجالًا ، و يرتدون أقنعةً تُجسّد أهمّ قطع الشطرنج.
الملك ، الفيل ، القلعة ، و الحصان.
أما العشرات الذين يرتدون أقنعة البيدق ، فلا يشاركون في الصيد ، بل يساعدون هؤلاء الأربعة فقط.
“السلاح الّذي ينتزع الحياة في لحظة هو بحقّ رحمةٌ إلهيّة ، على الرغم من أنّ الإحساس به لا يزال ناقصًا”
كان المتكلّم هو الرجل ذو قناع الفيل ، و هو نفسه من أطلق النار على الفتاة.
“بما أنّ ثلاثةً فقط بقوا على قيد الحياة ، فستنتهي عمليّة الصيـ …”
و لم يُكمل جملته قبل أن يتردّد صوت “طاخ—” من مكانٍ بعيد.
“آه ، يا للأسف. لقد أصبحوا اثنين فقط. أيّ جبانٍ هو الذي مات يا ترى؟”
و وضع يده على جبهة قناعه كما لو أنّه يعاني من صداع.
خفق قلب دافني بشدّة أكبر.
كان هؤلاء الأشخاص ، الّذين يُحتمل أنّهم من العائلة الإمبراطورية أو من كبار النبلاء ، يستمتعون بهذه “اللعبة” التي يصطادون فيها البشر من بين المذنبين.
يطلقون أكثر من عشرين مذنبًا ، و يستمرّون في صيدهم و قتلهم حتى يبقى ثلاثة فقط.
و السبب في وضع قاعدة “ثلاثة ناجين” هو أنّ مشاهدة المذنبين و هم يكافحون للبقاء على قيد الحياة حتى النهاية هو ما يجعل الصيد ممتعًا بالنسبة إليهم.
و دافني ، مع والدها ، نجحا في البقاء على قيد الحياة خمس مرّاتٍ من قبل في هذا الصيد البشريّ البشع.
“يقول السيّد روك إنه من الأفضل أن نُبقي شخصًا واحدًا فقط هذه المرّة”
“فلنسأل الملك عن رأيه”
ارتعشت قبضة دافني المرتجفة حين سمعت حديث بيشوب مع مساعديه ذوي أقنعة البيدق.
ثمّ وصل صوتٌ قاسٍ بعد لحظات.
“يقول بأن نفعل ذلك”
و بينما قلبها ينبض كطبول الحرب ، التصقت دافني بالأرض أكثر.
والدها لا بدّ أنّه ما يزال على قيد الحياة ، و هي كذلك ، ممّا يعني أنّ أحدهما سيكون الضحية التالية.
كانت ترغب بالصراخ عليهم: كيف تُغيّرون القواعد كما يحلو لكم؟ لكنّها تعرف جيّدًا أنّها ليست سوى فريسة تُحتسب بها نقاط لعبتهم.
والدها ، الكونت لايت أغريف ، الذي كان يومًا ما أحد نبلاء الإمبراطورية ، و هي نفسها ، دافني ، قائدة فرقة “الأفعى السوداء” النخبوية ، لم يكونا سوى حشراتٍ في نظرهم يستحقّان السحق.
تساك—تساك—
بينما كان بيشوب يفتّش المنطقة حاملاً البندقية ، سُمِعَت خطواتٌ تقترب من دافني.
تجمّد دمها.
ظهر أمامها الرجل ذو قناع الحصان: النايت.
كتفاه العريضان و طوله البارز ، و شعره الأسود الذي يلوح عبر القماش الملقى فوق رأسه ، كأنّ رائحة الدم تخرج منه.
و خلافًا للآخرين ، كان يشارك في اللعبة بين حينٍ و آخر ، و قد قتل في أوّل صيدٍ شارك فيه صديقَي والدها ، و في الصيد السابق أطلق النار على خمسة سجناء مجهولين واحدًا تلو الآخر ، محقّقًا أعلى عدد من النقاط.
كانت دافني تبغض هؤلاء الذين يصطادون البشر من أعماق قلبها ، و قد أقسمت أنّها ستقتلهم جميعًا بنفسها إن استطاعت النجاة من هذا الجحيم يومًا ما.
ما دامت بندقيّة النايت مغطّاة بدماء الأبرياء ، فلا بدّ أنّها ستُعيد توجيه فوهتها إلى رأسه بنفسها يومًا ما حين تسنح الفرصة.
“…….”
رفرفت عباءة النايت الرمادية حين توقّف أمامها.
ثمّ رفع بندقيّته ببطء نحو الأدغال التي تختبئ فيها دافني.
كأنّه شعر بنيّتها القاتلة التي لم تستطع كبحها.
و كانت عيناه الزرقاوان خلف القناع باردتين كالجليد.
تسارعت دقّات قلب دافني حتى شعرت أنّه سينفجر—
‘هل أركض و أشتبك معه الآن؟’
لكن من دون “النواة” الّتي أغلِقت بالقوّة داخل جسدها ، لن تتمكّن من التفوّق عليه.
و مع ذلك ، لم يكن الموت خيارًا مقبولًا بهذه السهولة.
و بينما كان يعيد تسليح بندقيّته ، سحبت الذاكرة حياتها كلّها أمام عينيها كالشريط.
أيام طفولتها و نشأتها في قصر آل أغريف ، لحظات السعادة و لحظات الألم ، لحظة القبض على والدها بتهمة الخيانة الملفّقة ، و صعود أمها و شقيقها إلى المقصلة.
أغمضت عينيها بإحكام و هي تدرك أنّها النهاية.
طاخ—!
اخترق صوتُ الطلقة السماء.
لم تشعر بأيّ ألم ، لكنّ قشعريرةً تسلّلت إلى جسدها.
نهضت دافني ببطء ، ثمّ نظرت خلفها بوجهٍ شاحب.
“هاا … هاا …”
كان والدها ، لايت أغريف ، واقفًا خلفها مباشرة ، ولا تدري متى وصل إلى هنا.
كانت الرصاصة قد اخترقت صدره ، و الدم يسيل منه بلا توقّف.
“أبي …؟”
لكنّ وجهه كان هادئًا.
نظر إليها بعينيْ طمأنينة.
و انهمرت الدموع من عينيها فورًا.
“أبــي!! لااا!!”
شقّ صراخها السماء.
و تجمّع الصيّادون خلفها بينما كانت ممسكةً بجسد والدها و تبكي بلا توقّف.
“يا لها من عاطفة رائعة. حقًّا ، الإنسان مخلوقٌ رحيم صنعه الحاكم”
ضمّ بيشوب يديه كأنّه متأثّرٌ بالمشهد ، بينما أخرج النايت من ياقة ملابسه منديلاً و مسح فوهة بندقيّته ببطء.
وصل الملك متأخّرًا ، و أصدر صوت “تس” بضجر.
“يا له من موتٍ سخيف ، كنت أظنّه سيُمتعنا أكثر من هذا”
نظر بازدراء إلى الرجل البائس الميت ، الذي لم تُغلق عيناه حتى عند الموت.
“ظننتُه سيقدّم لنا عرضًا أفضل. لكنّه ضحّى بحياته فقط لينقذ ابنته”
رفعت دافني من الأرض حجرًا قبضت عليه سرًّا ، ثمّ اندفعت نحو الملك بكلّ ما لديها من قوة.
و إن كانت توقّعاتها صحيحة ، فالملك ليس سوى الإمبراطور نفسه—ذلك الأصل الدنِس الذي دمّر آل أغريف.
لكنّ النايت كان أسرع منها بكثير ، إذ نطحها بفوّهة بندقيّته في صدرها بقوةٍ هائلة ، ثمّ ضرب مؤخرة عنقها بقسوة حتى أغمي عليها.
“كـ …”
سقطت دافني أرضًا ، و أغلقت عينيها ببطء.
و سقطت دموعها الأخيرة على التراب تاركةً بقعةً دائرية.
**
استفاقت في المكان ذاته الذي كانت تُستَقبَل فيه كلّ صباح: سجن القبو.
عندما ينجو أحد من الصيد ، كانوا يكافؤونه بطعامٍ شهيّ ، لكنّ باب زنزانتها كان خاليًا اليوم.
يبدو أنّهم فرضوا عليها عقوبة “العصيان” لأنّها حاولت مهاجمة الملك.
ارتسمت ابتسامةٌ مريبة على شفتي دافني.
السجن الواسع ، الذي كان يضجّ بالسجناء قبل ليلةٍ واحدة فقط ، لم يبقَ فيه الآن سوى هي وحدها.
‘أبي …’
أبي … مات بدلاً عنّي.
تدفّق الدم من قبضتها المشدودة بسبب انغراس أظافرها في جلدها.
“ها …”
كان الغضب الذي يعتصر قلبها أقوى من أيّ وقتٍ مضى.
إنّهم قمامة ، و تمزيقهم أشلاء لن يكون كافيًا.
لكنّ الواقع أقسى: بجسدٍ كهذا ، لا يمكنها فعل شيء.
‘لو لم يُغلقوا النواة …’
حينها فُتح باب الزنزانة بصوتٍ مزعج ، و دُفِعت امرأةٌ ترتدي فستانًا إلى الداخل مترنّحة.
و أُغلق الباب خلفها بقوّة.
تردّد صوت رجل من الخارج ، كان صوته باردًا و متغطرسًا.
“سآتي غدًا لأسمع جوابكِ. و إن لم تغيّري رأيكِ ، فاطلبي من تلك المرأة أن تقتلكِ. فهي قادرةٌ على كسر عنقكِ بسهولة”
شعرت دافني بالصدمة.
لقد كان ذلك صوت “روك”.
أحد الصيّادين مثل النايت (الحصان) و بيشوب (الفيل).
سرعان ما تحوّل نظر دافني الحادّ نحو المرأة التي دُفِعت إلى الداخل.
كان وجه المرأة شاحبًا ، و شعرها الأشقر يصل حتى كتفيها ، و ملامحها شديدة الجمال.
عينان بنفسجيّتان هادئتان ، أنف مستقيم ، شفاه دقيقة ، و رموش طويلة.
“أنتِ …”
“أنتِ دافني أغريف ، صحيح؟”
و قبل أن تسألها عن علاقتها بروك ، سبقتها المرأة و سألت بصوت منخفض.
“هذا الشعر الأسود و العينان السوداوان … لا شكّ أنّكِ دافني أغريف ، حاكمة الحرب”
تجهّمت دافني بحذر ، فأكملت المرأة بتردّد و هي تعرّف عن نفسها: “اسمي إفريلين لو إسترا دو مارشيليس”
في تلك اللحظة ، تصلّبت ملامح دافني ، و مدّت يدها مباشرةً لتقبض على عنق المرأة.
مارشيليس—هذا هو اسم العائلة الإمبراطورية.
الإمبراطور الحقير ، الذي دمّر عائلة أغريف بلا رحمة ، يحمل هذا الاسم.
و مستحيل أن تكون هذه المرأة سوى فردٍ من العائلة الإمبراطورية.
“كـ … لحظة فقط … لحظة …”
“موتي. كما فعلتم بنا ، سأُبيد نسلَكم بأكمله …”
“سأجعلك تنتقمين. كخ …”
ارتجفت يد دافني للحظة.
و عندما خفّفت قبضتها قليلًا ، شهقت إفريلين و أخذت تتنفّس بصعوبة.
و في عينيها ، وسط عتمة الزنزانة ، لمع الغضب نفسه الذي يحترق في داخل دافني.
“سأجعلك تُسقطين عائلة مارشيليس القذرة. أنا أيضًا … لقد فقدتُ الكثير ، تمامًا مثلك”
أرخَت دافني قبضتها ببطء.
و سألت بنظرة باردة كالثلج: “أتجرؤين و تقولين إنّكِ فقدتِ بقدر ما فقدتُ أنا؟”
“قد لا تفهمين الآن. لكنّك ستفهمين قريبًا. أنتِ …”
مدّت إفريلين يدها داخل فستانها و أخرجت عقدًا مرصّعًا بحجر أميثيست (نفسه حجر الجمشت) لامع.
“أنتِ امرأة قويّة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حجر الجمشت ، الأميثيست:

التعليقات لهذا الفصل " 1"