تنفّست ساي تنهيدة ارتياح. ثمّ وجّهت نظرها إلى بنجامين، الذي كان يمسح يديه بمنشفةٍ مبلّلة قدّمها له أحد الخدم.
كان من يخدمون بنجامين متعدّدي المناصب: من الخدم العاديّين، إلى كبير الخدم، المساعدين والسّكرتيرين. كان ذلك نقيضًا تمامًا لها، إذ كانت قد طردت الوصيفات وأصرّت فقط على وجود الخادمات.
‘رغم أنّني لا أتذكّر ما حصل، إلا أنّ عليّ تصحيح الخطأ ما استطعت في أسرع وقت. سأجرّب أن أطرح على المائدة قريبًا فكرة دعوة بعض سيدات وآنسات العائلات اللواتي طردتهنّ سابقًا، بعد أن أختار عددًا منهنّ بعناية.’
وبينما كانت الأطباق المعدّة بإتقان مصطفّة أمامهم، راحت ساي تحدّق بلا تفكير في يد بنجامين المتحرّكة. وفجأة، وقعت عيناها على أطراف أصابعه.
أطراف الأصابع.
في ذاكرتها، كان بنجامين يعانقها بنظراتٍ هادئة غامضة بعد أن قالت له كلماتٍ باردة. ورغم هدوء مظهره، كانت أطراف أصابعه التي تلامس بشرتها حانية، متشبّثة، ومصمّمة على ألّا تفلتها، لدرجةٍ جعلت ذلك اللّمس حزينًا ومؤلمًا.
صرخت ساي صرخةً مكتومة في داخلها، ثمّ أسرعت بإسقاط نظرها إلى طبقها أمامها.
‘امّحِ… امّحِ… أيتُّها الذّاكرة!’
كانت تأمل أن تستعيد ذاكرتها، ولكن لم تكن تتمنّى أن تكون هذه هي الذكرى الأولى.
‘ليست هذه الذكريات التي أريدها… أحتاج إلى ذكريات أكثر نفعًا… حسنًا، قد تكون هذه نافعة، لكنّها لا تفيدني الآن… أريدُ ذكرياتٍ تتيح لي أن أفهم هذا الرّجل أو نفسي بشكلٍ أفضل…’
يبدو أنّ البشر يملكون طبيعةً عكسيّة؛ فكلّما حاولت ألّا تفكّر في شيء، زاد حضور ذلك الشيء في ذهنك.
‘ربّما من الأفضل أن أترك الأمور كما هي، سواء تذكّرت أو لم أتذكّر.’
المبالغة في التركيز قد تؤدّي إلى المزيد من الأخطاء. فحين ترى بنجامين، تتداخل الذكريات معه. ولا يمكنها أن تتجاهله ببساطة. لذا، ربّما الأفضل أن تترك الأمور تسير بطبيعتها حتى تصبح رؤيته أمرًا معتادًا.
بينما كانت ساي في خضمّ صراعها الداخليّ، لاحظت أنّ بنجامين ينظر إلى أحد أطباق الطعام بنظرةٍ حادّة، ثمّ أمر أحد الخدم.
“هذا من طعامكِ المفضّل. يا ويلتون، قدّمه إلى الدّوقة.”
فأخذ أحد الخدم طبقًا من بين الأطباق الكثيرة ووضعه أمام ساي.
نظرت لترى ما هو، فإذا هو حساءٌ مصنوع من نوعٍ من الفطر تراه للمرّة الأولى.
‘ما هذا الفطر؟ لم أره من قبل… هل أعجبني بعد أن تذوّقته في قصر الدّوق؟’
لم تكن قد ذاقت هذا النوع من قبل. فقال بنجامين:
“في أوّل وجبةٍ تناولناها بعد زواجنا، قلتِ إنّك تحبّين فطر التولان. وذكرتِ أنّك ترغبين بتناوله مرّةً واحدة في اليوم، لكن يبدو أنّك لم تعودي تتناولينه في الفترة الأخيرة.”
نظر إليها مباشرة.
كان يبدو وكأنّه يريد سماع شيءٍ منها، أو ربّما كان يأمل أن تتناول الطعام.
نظرت ساي إلى الحساء.
لم تكن تعلم حتى اليوم أنّ اسم هذا الفطر هو تولان. لم تكن تكره نوعًا من الطعام، ولكنّها لم تكن تحبّ الفطر إلى درجة أن تتناوله يوميًّا.
كانت تشعر أنّ المرأة في تلك الذكريات المفقودة ليست هي، بل شخصًا آخر لا تعرفه.
مع شعورٍ بالغرابة، تناولت ساي لقمةً من الحساء الذي قدّمه بنجامين.
وما إن انتشر طعمه في فمها، حتّى عادت إليها ذكرى أخرى.
وفي تلك الذكرى، كان طبق فطر التولان أيضًا موجودًا أمامها. رغم أنّ طريقة الطّهي والشّكل كانا مختلفين، لكنّ المكوّن الأساسيّ كان نفسه.
‘لا أريد تناوله حقًّا…’
همست لنفسها بمرارة ساخرة.
‘لأنّ والدي الذي يحبّ ابنته إلى درجةٍ مرعبة أراد هذا… لذا، يجب أن آكله.’
لكنّ أهمّ الكلمات في الذكرى كانت ناقصة، فلم تتمكّن من فهم معناها الكامل.
‘ما الذي أراده بالضّبط؟’
تناولت ساي الحساء ببطء، على أمل أن تتكشّف تفاصيل أكثر من الذكرى.
لحسن الحظ، بدأت بعض الشذرات تظهر لها.
‘لكن لن يسمع عن حملٍ كما يشاء. لن أسمح بحدوث ذلك أبدًا.’
الحمل.
بمجرّد أن خطرت تلك الكلمة ببالها، توقّفت ساي عن تحريك الملعقة. إذ أحسّت بقشعريرةٍ صاعدة من أعماق جسدها.
كان ذلك شعورًا واضحًا لم يخذلها يومًا، خصوصًا حين كان يتعلّق بأبيها.
‘ثمّة مؤامرةٌ ما…’
تجمّدت ساي كتمثال. ولكن سرعان ما تذكّرت أنّ بنجامين أمامها، فحاولت السيطرة على الموقف بابتسامة مصطنعة.
“يبدو أنّ ذوقي في الطّعام تغيّر منذ فقدت ذاكرتي.”
ثمّ وضعت الملعقة جانبًا وتابعت:
“أرغب بتناول شيءٍ آخر اليوم. يبدو لحم البط هناك شهيًّا.”
قالت ذلك وهي تختار شيئًا عشوائيًّا يقع عليه بصرها.
“حسنًا.”
وحين أشار بنجامين بيده، قام أحد الخدم بتقديم لحم البط إلى صحنها.
خفق قلب ساي بعنف.
‘هل كان والدي يتمنّى حملي؟ وأنا كنت أجد ذلك شيئًا مرعبًا؟’
أيّ نوعٍ من الخطط كان يحوكها؟
ربّما قد يرغب الأب العاديّ، بعد زواج ابنته، أن تُنجب وتعيش حياةً سعيدة.
لكنّ ويليام لم يكن أبًا عاديًّا.
‘حتّى وإن حملت، فالمولود سيكون من سلالة دوقيّة ريفرستا. ولا يمكن لكونت آلانترا، مهما علا شأنه، أن يمسّ تلك السلالة. ومع ذلك، يبدو أنّه يخطّط لأمرٍ ما.’
لمواجهة رجلٍ خبيث وماكرٍ مثله، يجب أن تكون مستعدًّا تمامًا.
نظرت ساي إلى بنجامين.
كان يأكل بطعامه بهدوء ودقّة دون أيّ مبالغة.
لا يُنكر أنّ لديه جاذبيّة معيّنة. فخلف بروده وصرامته، تظهر أحيانًا لمساتٌ من العناية تترك أثرًا في القلب.
‘لكن إلى أيّ حدّ يمكنني الوثوق به؟’
لم تجد إجابة. لذا، قرّرت أن تُخفي مشاعرها بعناية وتطرح موضوعًا آخر.
“هل سارت الأمور على ما يُرام في العاصمة؟”
تظاهرت ساي بعدم الاكتراث وهي تتناول لحم البط. الطّعام كان لذيذًا، لكنّ قلبها القلق جعل من الصّعب الاستمتاع بالمذاق.
“الأمر متعلّق بالوحوش، لذا علينا مراقبتها على المدى الطّويل. الناس يظنّون أنّ منطقة ديبيران قد تمّ تطهيرها بالكامل، لكن لا يزال هناك بعض الوحوش. قد أضطرّ إلى الغياب عن قصر الدوق بسبب الحملات، لذا وجب أن تعلمي بذلك. لحسن الحظ، الوحوش لا تزال في موائلها ولم تخرج منها، لكنّ احتمال اقتحامها للمناطق السكنيّة قائم.”
“سمعت أنّ الوحوش تملك قوّةً هائلة وشهيّةً مخيفة. من الرائع أنكم تحمون الناس من مثل هؤلاء.”
كانت منطقة ديبيران مسكونةً منذ زمن بعيد. لكنّ ظهور الوحوش دمّرها بالكامل، حتى أصبحت موطنًا لهم.
طرد الوحوش من هناك لم يكن بالأمر الهيّن.
فالوحوش تلتهم كلّ ما تراه. تبدأ بالكائنات الظّاهرة، ثمّ تقلع الأشجار من جذورها، وإن لم تجد شيئًا، تأكل التّراب نفسه. شهيّتها المرعبة جعلت مواجهتهم سببًا رئيسيًّا للرعب.
“أنا فقط أقوم بواجبي.”
أجاب بنجامين بهدوء.
‘رغم أنّه أمرٌ جديرٌ بالفخر، لا يتباهى به. هذا يعجبني.’
ربّما لأنّ العلاقة لم تتعمّق بعد، لكن حتّى الآن، بدا بنجامين رجلًا يؤدّي واجبه بصمت، دون أن يفتخر أو يتفاخر، ومع ذلك يبدو أنّه يدرك قيمته جيّدًا، ويملك ثقة بالنّفس.
“هل ستخرج قريبًا في حملةٍ أخرى ضدّ الوحوش؟”
“ليس الآن… لكن الأمر يتوقّف على تطوّر الأوضاع.”
‘دعوة القصر الإمبراطوري له كانت بالتّأكيد من أجل حملة جديدة. وإن لم يُحدّد التّاريخ، فالأمر واردٌ قريبًا.’
فكّرت ساي، ثمّ قالت:
“أفهم. إذا حدث أيّ تعديل في الجدول، أخبرني من فضلك.”
“سأحرص على إبلاغكِ، ولو كان التّغيير بسيطًا.”
ضحكت ساي بخفّة.
“تبدو على استعدادٍ للإجابة حتّى على عدد زياراتك للمرحاض في اليوم.”
“إن أردتِ، يمكنني تقديم جدول يومي بالدّقيقة. لا أريد أن تقلقي عبثًا.”
قد يبدو هذا الكلام باردًا للوهلة الأولى، لكن ساي شعرت بعكس ذلك. بدا كأنّه رجل لا يستهين بكلماتها.
ومن هذا الإحساس، استمدّت الشّجاعة لتقول.
“بنجامين، لديّ أمرٌ أودّ قوله.”
“أيًّا يكن.”
تنفّست ساي بعمق.
كان الاعتراف بخطأ لا تذكره أمرًا مربكًا. رغم أنَّ فقدان الذّاكرة لا يُلغي الذّنب، إلا أنّها نشأت على احترام الآخرين رغم قسوة والدها، لذا شعرت بالظلم.
لكن، لا يمكن التّظاهر بالجهل إلى الأبد.
“سمعت أنّني طردت جميع الوصيفات اللواتي كنّ من عائلتك. الآن، أدرك مدى حماقة ذلك. أودّ اختيار بعضهنّ من جديد.”
حين قالت ذلك بعزم، لم تجد صعوبةً في الحديث كما توقّعت.
وأثناء حديثها، أدركت مدى التوتّر غير المبرّر الذي كانت تعانيه.
‘والدي لم يكن يصغي إليّ أبدًا. إمّا تجاهلني، أو سخر منّي، أو فرض طاعته عليّ. لا عجب أنني خشيتُ أن يكون بنجامين مثله.’
رغم أنّ هذا الرّجل مختلفٌ تمامًا، لم تتمكّن من التخلّص من ظلّ والدها بسهولة. وهذا كان أمرًا مخجلًا.
لذا، تابعت حديثها بوضوح:
“لكن قبل كلّ شيء، يجب أن أهدّئ من روعهنّ وأفهم مشاعرهنّ. لا أريد أن يعتقدن أنّني أطلب عودتهنّ فجأة وكأنَّ شيئًا لم يكن.”
‘لطالما قلت لنفسي، إلا أسمح لظلّ والدي أن يتحكّم بي. إن استسلمت، سأسقط تمامًا.’
ثمّ عزّزت قرارها داخليًّا.
‘هذا الرّجل، وإن كان ذكرًا، لا يشبه والدي في شيء. لا في أسلوبه، ولا في تصرّفاته. إنّه شخصٌ آخر تمامًا.’
“بصفتي دوقة، سأعتذر عن وقاحتي السّابقة، وسأحاول التّصرّف بإخلاصٍ تام.”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 23"