لن أخدع مرتين [ 81 ]
“تعرف أولئك الأشخاص، صحيح؟ الذين تكاد أسماؤهم غير معروفة في العاصمة، شديدو التواضع، لا يملكون أرضًا ولا يعيشون في قصر، بل في شيء لا يتعدى كونه منزلًا فخمًا قليلًا في إحدى القرى.”
وأثناء متابعته الشرح الإضافي، استدار كارتر وأخرج شيئًا ما.
كانت وثيقة أخرى.
“في الحقيقة، أعددت هذه تحسبًا، لكنني لم أذكرها لأنني شعرت أن الطريقة قد تكون قذرة بعض الشيء…”
فتحت إيزابيلا الوثيقة التي ناولها لها، فانفجرت ضاحكة:
“لقد قرأت أفكاري تمامًا.”
كان مكتوبًا فيها عن ذلك “النَبيل المتواضع من إحدى القرى” الذي وصفته للتو.
“وما الضير إن كانت الطريقة قذرة؟ المهم أن نفوز في المعركة.”
كانت المعلومات عن ذلك النبيل قليلة للغاية.
بل إن الوثيقة تقول إنه كان يعيش قرب الحدود، وقد قُتل في الحرب الأخيرة.
تحولت القرية التي كان يعيش فيها إلى ساحة خراب بفعل المعارك.
وكان موقع تلك القرية غير بعيد كثيرًا عن المكان الذي كانت تتمركز فيه قوات مركيز ماكا.
“البارون سولْت إذن.”
“لا ورثة له. انقطع النسب بوفاته.”
وكان ذلك لوجود قانون يحدد التوريث في حدود خمسة أجيال فقط.
‘أرجوك سامحني، سأستعمل اسمك قليلًا’
تمتمت إيزابيلا في نفسها قبل أن تفتح شفتيها قائلة:
“إذن، ما رأيك لو نصنع له ابنًا؟”
لا يمكنها منع فايتشي من البحث عن ماضي إدوارد.
لكن يمكنها أن تخلط بعض المعلومات الزائفة بين الحقائق لتربكه.
فقد عقدت العزم على أن تجعل ماضي إدوارد يبدو وكأنه ابن بارون متواضع بلا حق في الميراث بدلًا من كونه عبدًا هاربًا.
صحيح أن صدّ الأمر تمامًا أمر عسير، لكن على الأقل ستؤثر قليلًا في أحكامه.
“الأمر ليس صعبًا.”
فالتلاعب بالوثائق كان بالنسبة له أشبه بتناول الطعام منذ بدأ العمل مع فايتشي.
واختلاق قصة عن وجود ابن للبارون المتواضع الذي مات ليس أمرًا صعبًا عليها.
“لكن مجرد خلط بعض الوثائق ليس كافيًا…”
قالتها إيزابيلا وهي تربّت بأصابعها على الطاولة تفكر مليًا.
فلإدوارد مظهر مميز للغاية.
يمكنها أن تدبر أمر ندبة الوجه، لكن هناك أيضًا أثر بتر في أحد أصابعه.
ومع هذه العلامات المتطابقة، كيف لها أن تنكر وتقول “هو ليس العبد الهارب الذي تبحث عنه” لا بد من شيء إضافي.
‘إصبعه؟’
أخذت تستحضر صورته في ذهنها حتى تذكرت الخاتم الذي لا يفارق سبابته.
“الخاتم! يا سير كارتر، اسرق لي خاتم السير إدوارد.”
“ماذا؟”
انتفض كارتر مندهشًا من طلبها المفاجئ بالسرقة.
“أريده فقط لعمل نسخة.”
“نسخة؟”
“نصنع واحدًا مطابقًا تمامًا، وننقش من الداخل شعار عائلة البارون سولْت ثم نستبدله به. ما رأيك؟”
“أتقصدين صنع تذكار لم يكن موجودًا أصلًا؟”
“بالطبع! لا يليق بابنٍ أن لا يكون لديه تذكار من أبيه، أليس كذلك؟”
ابتسم كارتر ضاحكًا قليلًا من نبرة إيزابيلا الواثقة.
“سأنجز الأمر قبل الأسبوع القادم.”
“كما هو متوقع منك يا سير كارتر، الأفضل دائمًا!”
يقوم بكل شيء على أكمل وجه!
وبفكرة أن فايتشي كان يحتكر مثل هذه الكفاءة وحده، غلت في صدرها غيرة خفيفة.
قال كارتر:
“لكن يا آنستي إيزابيلا…”
“نعم، تفضل.”
“حتى وإن كان ابن بارون متواضع لا يملك حق الميراث، أليس من الغريب أن يكون أُمّيًّا؟”
“أوه!”
شهقت إيزابيلا ثم قبضت على رأسها بشدة.
“لم يخطر ذلك ببالي!”
فمهما يكن يظل ابن نبيل، أليس من المفترض أن يعرف القراءة على الأقل؟
وأثناء شدها لشعرها فجأة أمسكت بيد كارتر.
“يا سير كارتر!”
“نعم؟”
ارتجف قليلًا من بريق الحماس المتقد في عينيها، لكنها قبضت على يده بإحكام أكثر وأردفت:
“ألا تحتاج الآنسة سارا إلى معلم للقراءة والكتابة؟”
“ماذا؟”
“أعرف ابن بارون متواضع، لا يُشق له غبار، يصلح ليكون مرافقًا لها حين تتعلم، بل وحارسًا شخصيًا كذلك!”
كانت تخطط لإلصاق إدوارد بجانب سارا أثناء دروسها.
فكما يُقال، حتى كلب صاحب مكتبة إن عاش ثلاث سنوات سيعرف قراءة الصحف.
أما أن تطلب من إدوارد المتعالي أن يتعلم القراءة صراحة؟ فلن يقبل أبدًا.
فليس أمامها سوى أن يجلس ويتعلم خلسة من فوق كتفها.
ابتسم كارتر ابتسامة باهتة بعد أن فهم قصدها، ثم أومأ موافقًا:
“حان الوقت فعلًا لتتعلم سارا القراءة والكتابة. وسأوكل لكِ أمر إيجاد معلم جيد وحارس شخصي يا آنستي إيزابيلا.”
كان تجاوبه الحار مع حماسها بمثابة تأييد كامل.
“رائع! فكرة ممتازة!”
وأطلقت إيزابيلا لحناً صغيرًا من السعادة وهي تفكر في مدى صعوبة خداع فايتشي، لكنها في الوقت ذاته كانت في غاية الرضا عن خطتها.
* * *
كان الأمر مؤسفًا بالنسبة لإيزابيلا، لكن في الواقع، هذه المرة كان فايتشي أسرع قليلًا.
“عبد… عبد، إذن.”
كرر فايتشي الكلمة نفسها مرارًا وتكرارًا وهو يحدق عبر النافذة.
كان يسترجع ما دار بينه وبين الأمير هيليبور في جلسة الشراب ليلة أمس.
‘كيف حال تجارة العبيد هذه الأيام؟’
‘لا تذكرني بها، لقد صارت صعبة يومًا بعد يوم، فالناس من حولنا لا يكفون عن التنديد بها واتهامنا بالقسوة.’
‘هاها، لو كان في إمبراطوريتنا نظام للعبودية لكان بإمكاننا دعم تجارة هيليبور في العبيد، ألن يكون ذلك رائعًا؟’
‘أجل، أجد ذلك مؤسفًا أيضًا.’
المذهل أن الحوار بينهما جرى تمامًا كما كانت إيزابيلا قد سمعت في حياتها السابقة.
لكن الرجلين لم يكن ليعلما ذلك أبدًا.
‘وبسبب غياب نظام العبودية هنا، صار هؤلاء الأوغاد يهربون عند كل فرصة… أحم، أعني يفرّون، فيصير الأمر صداعًا لنا.’
‘يا للأسف، لابد أن لديك همومًا كثيرة.’
‘آه… حتى أننا وسمنا جباههم بالحديد المحمى، ومع ذلك لا جدوى، فهؤلاء الأوغاد يمحون الوسم من وجوههم.’
‘أجل، مع كثرة من لديهم ندوب على وجوههم بسبب الحرب هذه الأيام، فلا بد أن تمييزهم صار أمرًا عسيرًا.’
ثم تابع الأمير كلامًا لم تذكره إيزابيلا في ذاكرتها:
‘كان من بينهم واحد بارع جدًا في التعامل مع النار، وفقدانه كان مؤسفًا حقًا.’
‘النار؟ أكان ساحرًا؟’
أيمكن أن يوجد بين العبيد سحرة؟
‘آه، أم لعلّه كان مستحضر أرواح؟’
فمستحضرو الأرواح يُؤسَرون بكثرة في المملكة، لذا بدا الأمر معقولًا.
‘لا، لم يكن سوى رجل عادي، لكن كان لديه موهبة مذهلة في ضبط حرارة الأفران في الحدادات، حتى إن الحدادين كانوا يتنازعون عليه ليأخذوه.’
‘أمر غريب، أن يتقاتلوا من أجل عبد!’
‘ويبدو أن هذا جعله يدرك مدى شعبيته، فأصبح مغرورًا بشكل لا يُحتمل.’
‘أوه… وهل تركتموه وشأنه؟’
‘بالطبع لا. قطعت له إصبعه الوسطى لأنه كان طويلًا بشكل مزعج.’
قال الأمير ذلك بنبرة مفعمة بالرضا، فيما اكتفى فايتشي بابتسامة ساخرة.
فقطع الأصابع بذريعة التأديب كان أمرًا شائعًا.
‘ثم نُقِل إلى ورشة حدادة ميدانية في الخطوط الأمامية أثناء الحرب، لكنه اختفى بعدما اندلعت المعركة هناك.’
‘لابد أنه مات.’
‘هذا ما أظنه أيضًا. فكيف له أن ينجو وسط ذلك اللهيب؟ كان عبدًا نادر الموهبة حقًا.’
‘أمر مؤسف.’
فالعبد الموهوب أثمن من الخادم الموهوب؛
إذ على خلاف الخادم الذي تحتاج لدفع الأجر له وحماية حياته خارج العمل، يمكن استغلال العبد حتى أقصى حدود.
ثم انتقل الحديث إلى مواضيع أخرى، وانتهى النقاش في هذا الشأن.
لكن منذ أن سمع فايتشي تلك القصة، بدأ عدة أشخاص يخطرون بباله.
وأكثر من استحوذ على تفكيره كان ذلك الرجل الذي كان ضمن فرقة ليكاردو.
يا للسخرية، لماذا تذكره الآن بالذات؟
ربما لأن تفكيره الدائم في كيفية الإيقاع بإيزابيلا جعله يفكر في كل من يحيطون بها كذلك.
منذ أن التصق ثيو بفرقة ليكاردو، أجرى فايتشي تحقيقًا في المقربين من ليكاردو.
وقد أوكل لكارتر مهمة التحري بدقة، لكن كان هناك واحد لم يُستَخْرَج عنه أي معلومة.
لم يهتم كثيرًا حينها، إذ كان منشغلًا بثيو.
لكن جاء في التقرير وقتها أن ذلك الرجل يملك ندبة على وجهه.
كان ذلك يزعجه قليلًا، حتى دفعه إلى إعادة فتح التقرير الذي أعده كارتر قبل عام:
‘ندبة صغيرة بحجم عملة معدنية على الجانب الأيسر من الجبهة. أثر بتر في الإصبع الوسطى اليسرى.’
لم يكن فقدان إصبع أو احتراق الوجه أمرًا غريبًا أثناء الحرب.
بل حتى استغرب حينها إدراج هذه التفاصيل في التقرير، فتجاهلها تمامًا.
لكن الآن، بعد إعادة القراءة، أزعجه ذلك أكثر فأكثر.
‘يستحق التجربة…’
وبينما كان يطوي ذراعيه محدقًا عبر النافذة نحو الأفق البعيد، قطع تركيزه صوت طرق على الباب.
“ما الأمر؟”
كان السكرتير هو من دخل، بعد أن غاب كارتر عن المشهد.
بالطبع لم يكن بمستوى كارتر كفاءةً، ولا حاز ثقته الكاملة.
“تحدد موقع الشخص الذي طلبته.”
“أين هو؟”
“في بحيرة الصيد التابعة لأسرة الماركيز ماكا. ويبدو أنه خرج إلى هناك قبل وصول وفد هيليبور بيوم واحد، ولا يزال هناك حتى الآن.”
“هذا يتزامن مع وصول الوفد؟”
هل هذه مصادفة؟
ارتسمت ابتسامة جانبية على وجه فايتشي.
‘مستحيل أن تكون مصادفة.’
فهو لا يؤمن بالمصادفات.
كل شيء يحدث لسبب، وكل شيء مترابط حتمًا.
“أريد أن ألتقي به على انفراد… دبر لي مكانًا هادئًا جدًا، مفهوم؟”
انحنى السكرتير رأسه مجيبًا:
“أمرك.”
وأخيرًا وجده.
الثغرة التي ستسحق تلك المرأة.
ارتسمت على شفتي فايتشي ابتسامة نصر ممزوجة بالإثارة لم يعرفها منذ زمن طويل.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 81"