‘قد ينهار إقليم الدوقية، لكنّ قوة بيت الدوق ستبقى حيّة… مع هذا الطفل.’
قالت ذلك وهي تبتسم، ثم نقرت بأطراف أصابعها على صدر ثيو بخفة.
حتى وإن لم يفهم ثيو ما يجري من حوله تمامًا، فقد أدرك أنّ ابتسامة أمّه في تلك اللحظة كانت غارقة في الحزن.
‘سأتولّى أمر هذا المكان… أمّا هذا الطفل، فاحرص على حمايته مهما كلّف الأمر.’
‘أمركم مطاع.’
لم يجادل الخادم أكثر، بل أعمل ذهنه بسرعة وهو يرمق الموقف بعين حادة.
‘يوستاس… يا بُني.’
‘أمّاه… هل حقًّا ارتكب أبي الخيانة؟’
‘ثقْ بأبيك الذي تعرفه»’
لا تصغِ لما يقوله الآخرون،
ولا تنخدع بالأكاذيب التي صنعوها.
‘ثق بنفسك… بي أنا… وبأبيك. ثم…’
وضعت يديها على كتفيه بقوّة وقالت:
‘عِش… لا، بل احيا.’
‘أمّاه…؟’
‘الحقد… والافتراء… والانتقام… كلّها لا تتحقّق إلّا إذا نجوت. بل إنّها حياة جميلة إن لم تفعل شيئًا من ذلك. لذلك… اجعل نجاتك فوق كلّ شيء. هل تعد أمّك بهذا؟’
‘……’
‘يوستاس.’
‘لكن… أمّاه أنتِ…’
ابتسمت مجدّدًا، لكنّ ابتسامتها كانت أشدّ وجعًا، وهي تربّت على رأسه.
‘آمل أن يأتي يوم تفهم فيه أمّك هذه التي تركت يدك من أجل مستقبلك.’
‘……’
‘أنتَ فخري… يا ابني العزيز.’
ثم طبعت قبلة على جبينه، وأفلتت يده.
وقد امتدّت ألسنة اللهب إلى أرجاء الغرفة،
فلم يكن أمام ثيو إلا أن يترك أمّه وسط الحريق ويرحل.
لفحته الحرارة كأنها تلتهم كلّ ما فيه، ولم يبقَ إلى جانبه سوى الخادم ممسكًا بيده بإحكام، بينما غادر القصر الذي كان يشتعل من كلّ جانب.
خرج عبر ممرّ لم تره عيناه من قبل، وترك وراءه إقليم الدوقية.
كان هناك فتى آخر يمسك بيد الخادم في الجهة الأخرى، يبدو أنّه متدرّب سائق خيل، فهل جلبه ليقود الأحصنة؟
لم يطل تساؤله حتى جاءه الجواب:
‘بدّلوا ملابسكم.’
‘ما…؟’
‘قد يكون الأمر غير مريح… لكن عليكم فعل ذلك.’
كان طلب الخادم أن يغيّر الفتيان ثيابهما، فأدرك ثيو مغزى ذلك إدراكًا مبهمًا…
إنه تمويه.
لقد قرّر الخادم أن يمحو أثر ثيو من هذا العالم ليضمن له الأمان التام.
أراد ثيو أن يقول له إن هذا جنون، لكن… ما إن فتح فمه حتى تردّد في ذهنه صدى آخر كلمات أمّه:
‘عِش.’
أن تحيا… هذا ما أوصته به قبل أي شيء.
لم يكن ثمّة وقت للتساؤل عن صواب ما يفعل.
وبعد أن غيّر الصبيّان ثيابهما، أركب الخادم ثيو على جواد وقال له:
مهارتك في الفروسية لا يضاهيها أحد، لذا لن أقلق. انطلق بهذا الطريق الجبلي حتى تصل إلى تولنغ، وهناك بع هذا الحصان.’
ثم ناوله مزيدًا من المال وأردف:
‘وعندما تصل إلى هناك، ابحث عن نقابة باتوكا، واستقل عربة التجارة العامة المتّجهة إلى ماركيزية ماكا.’
‘ماكا…؟’
‘ماركيز ماكا لن يدير لك ظهره… أراهن بحياتي كأحد من بيت لويد على ذلك.’
قال كلماته الأخيرة، ثم تنحّى إلى الخلف.
كان يمسك الآن بيد الفتى الآخر الذي أصبح، بفضل التمويه، الدوق الصغير لويد.
وكان الفتى يرتجف قليلًا وهو يبتسم في وجه ثيو ليطمئنه أنّ كل شيء سيكون بخير.
‘سيدي الدوق الصغير.’
كانت تلك أوّل مرة يناديه الخادم بهذا اللقب بدلًا من سيّدي الشاب.
وأول مرة يبتسم له من غير أن يوبّخه أو يكثر من نصائحه.
‘كان شرفًا لي أن أخدمك.’
‘أيها الخادم…؟’
‘كُن بخير.’
ثم هوى بسوطه على جواد ثيو.
‘أيها الخادم…!’
اندفع الجواد بسرعة، وقبل أن يفكر ثيو في اللحاق بهما لمح من بعيد المشاعل تقترب، بينما كانت النيران المشتعلة في القصر تلتهم المكان الذي يقف فيه الخادم وذلك الصبي.
أكلت النار كل شيء.
كل من أحبّهم صار رمادًا.
شدّ ثيو لجام جواده وركض مبتعدًا، يشيح بوجهه عن ذلك المشهد المروّع.
وظلّ يركض… حيًّا كما أوصته أمّه.
باع الحصان في تولنغ كما أمره الخادم، لكنّ شابًّا مترفًا في عالم لا يعرفه كان طُعمة سهلة للصوص، فتعرّض للسرقة والنهب، ولم يتمكّن من الوصول إلى الماركيزية.
وقد فقد كل شيء، سوى وصيّة الخادم الأخيرة:
‘اذهب إلى ماركيز ماكا.’
سار نحو الماركيزية.
سار طويلًا بلا نهاية.
ولولا أنّ بعض الطيبين ساعدوه في الطريق لهلك جوعًا.
لكنّ قسوة الدنيا غلبته في النهاية فانهار على قارعة الطريق… في ممرّ جبليّ عند حدود كوم، وهناك لمحه نائب مديرة دار الايتام عائد من عمله.
وحين أفاق…
أبصر أمامه فتاة يسطع في وجهها نور كأنها تختزل ضياء العالم كلّه.
‘مرحبًا! سررت بلقائك! أنا إيزابيلا! وسأكون صديقتك من الآن!’
كان عنيدًا ومتعجرفًا.
لكنّ ذلك الصخب الذي جلبته له، ملأ فراغ حياته التي غدت ساكنة تمامًا.
‘ألن تلقي عليَّ التحية اليوم أيضًا؟ حسنًا، لا بأس! سأحيّيك مرتين إذن! مرحبًا! نعم، مرحبًا!’
كانت تبدو مضحكة وهي تحدّث نفسها وتردّ على نفسها، لكنّها أعادت الألوان إلى وهاد مشاعره التي صارت رمادية باهتة.
ذلك الكائن الصغير الذي بدا له في البداية مثيرًا للدهشة، أصبح مع الوقت يملأ حياته كلّها،
وأضحى سببًا جديدًا لوجوده، نوره واتّجاهه.
* * *
“أظنني فهمت الآن.”
لم تدرك إيزابيلا الحقيقة كاملة إلا بعد أن سمعت قصته كلّها.
“الآن عرفت لماذا لم تكن تريدني أن أصبح مستحضرة أرواح.”
أكبر من رغبته في أن لا تختلط بالنبلاء، كان له أمنية أعظم…
“كنت فقط… تريد أن تعيش.”
كما قالت له أمّه:
إنها حياة جميلة حتى من دون أن تفعل شيئًا، فاحيا فقط.
“…نعم.”
ابتسم ثيو بألم وضمّ وجهها بين كفيه.
“كنت أحتاجكِ أنتِ فقط لا غير. لكنّكِ… أبدًا لم تكوني كما أردت.”
أطلق ضحكة مريرة.
“ولهذا أحببتك.”
“والانتقام…؟ ألم تفكّر فيه ولو مرّة؟”
“انتقام خائن؟ لن يجلب لي سوى خيانة أخرى، أليس كذلك؟”
سألها بنبرة توحي أنّه أمر مستحيل، فأضافت إيزابيلا بحذر:
“لكن… إن كان افتراءً.”
“……”
“أما قالت لك أمّك أن تثق بنفسك وبها وبالدوق؟”
لقد كانت أمّه تصدّق براءة الدوق.
لم تعرف ما هي الحقيقة، لكنّ إيزابيلا أرادت أن تدحض تهمة الخيانة تلك، لأنّها شعرت أنّ والد ثيو… لو كان يشبهه، فلن يفعل مثل ذلك أبدًا.
لم يكن سوى حدس، لكنّه إحساس قوي.
“أوّلًا… لم أجرؤ على ذلك أصلًا.”
فهو أيضًا مستحضر أرواح الماء، فكيف له أن يتغلّب على النار التي التهمت كل شيء؟
حتى المحاولة لم يجرؤ عليها، وقد خسر قبل أن يبدأ.
لقد طُبعت في ذاكرته صدمة الماضي، فلم يستطع أن يطمح لما لا طاقة له به.
“وثانيًا… كنت أرى أن كل شيء بلا جدوى.”
ما الفائدة من تبرئة اسمه؟
هل سيعودون إلى الحياة؟
وما النفع من الانتقام؟
هل سيبتسمون له بعدها؟
“لكن…!”
كانت إيزابيلا على وشك أن تسأله إن كان لا يشعر بالغضب، غير أنّ ثيو قطع كلامها.
ابتسم ابتسامة غامضة، ومسح وجهها الذي بين كفيه برفق وهو يمرّر سبابته الطويلة على خدّها في حنوّ، ثم همس:
“كنت أظنّها بلا جدوى، لكن ذلك لأنني ظللت أنظر إلى الماضي.”
إلى أولئك الذين فقدهم،
إلى الأصدقاء الذين صاروا ذكرى،
وإلى المعاني التي كان يبحث عنها فيهم.
“بينما مستقبلي… هنا.”
وجذب وجه إيزابيلا إليه، فانسابت برفق إلى حضنه وهي جالسة نصف جلوس على ساقه.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات