لن أخدع مرتين [ 75 ]
“ذهبتُ إلى دار الأيتام كوم عندما كان عمري أربع سنوات. أي قبل أن تدخل أنت بعامين.”
“بيلا…”
“اسمعني.”
كان ممنوع بين أطفال دار الأيتام أن يتحدثوا عن ماضيهم.
وحين بدأت إيزابيلا بالكشف عن قصتها القديمة، أبدى ثيو ملامح قلقة وعينيه تلتمعان بالأسى.
وكأنه يقول، حتى إن فعلتِ ذلك، فلن أستطيع أنا أن أفتح قلبي لكِ.
“السبب في ذهابي إلى دار الأيتام بسيط. أمي توفيت. ومنذ ولادتي لم يكن لدي أب.”
“…….”
“لكن هل تعرف؟ المكان الذي كنت أعيش فيه قبل وفاة أمي لم يكن كوم.”
لم يعد ثيو يقاطعها، بل أصغى إليها بصمت.
“حسناً… بما أن معظم الأطفال في دار الأيتام مرّوا بظروف مشابهة، فربما لا يكون هذا أمراً غريباً؟”
كان الأطفال يأتون من أماكن شتى.
زوج مديرة دار الايتام وكان نائبها أيضاً، كان تاجراً.
كان يسافر مرة أو مرتين في العام في رحلات طويلة.
وأحياناً كان يعود ومعه أيتام مشردون صادفهم في طريقه.
“أنا أيضاً التقطني نائب المديرة.”
وهكذا قبل ثلاثين عاماً، بدأت قصة دار الأيتام، وكبرت شيئاً فشيئاً.
“وأنت كذلك، أليس كذلك؟”
“…… بلى.”
كلاهما ثيو وإيزابيلا “التُقطا”.
“لكن ألم يقولوا إنكِ وُجدتِ بالقرب من كوم؟”
سأل ثيو متردداً، خائفاً أن يجرحها.
لكن على العكس، ابتسمت وهي تهز رأسها.
“صحيح. لقد التقطني نائب المدير في الجبال المؤدية إلى كوم. ولهذا اعتقد هو والمديرة أنني كنت أعيش في إحدى القرى القريبة.”
سأل عنها أهل تلك القرى، لكن لم يعرفها أحد، مما أثار الريبة.
غير أن جهلهم بطفلة يتيمة لم يكن مستغرباً كثيراً، فمُرّ الأمر ببساطة.
لكن هناك سر بقي مدفوناً، لا يعرفه أحد سواها.
“الحقيقة أنني لم أكن أعيش هناك.”
لقد انتقلت مع والدتها لمسافة بعيدة، قبل أن تلتقطها يد القدر.
“أمي قبل أن تموت، أخذتني وسارت بي حتى وصلنا هناك.”
كانت تشعر باقتراب نهايتها، ولسبب لا تعرفه إيزابيلا، حملتها إلى مكان بعيد.
لا تعرف وجهتها ولا ما كانت تنوي، فقط أنها كانت تمضي بعزم كمن اتخذ قراراً حاسماً.
لكنها توفيت قبل أن تبلغ مقصدها، تاركة ابنتها وحيدة في مكان مجهول.
“ذلك المكان لم يكن حيث وُلدت ونشأت.”
قالتها إيزابيلا هامسة، كما لو تكشف أعظم أسرارها.
شعر ثيو أنها تتحدث بلهجة مريبة، كأنها كانت تنتظر سؤاله منذ زمن.
“إذن، أين نشأتِ؟”
سألها متلهفاً وقد أشرق في عينيه الفضول.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها مازحة لكنها صادقة.
رفعت سبابتها إلى شفتيها، وأشارت إليه بالسكوت.
“دوقية لويد.”
بهذا، كشفت لإيذائه طبقة من أكثر أسرار ماضيها عمقاً وخفاء.
اتسعت عينا ثيو دهشة.
“أتمزحين…؟”
“لست أمزح.”
ظن للحظة أنها تؤلف قصة لأجله، لكنه فوجئ بصرامتها.
“سواء صدقت أو لم تصدق، الأمر يعود إليك. لكن ما قلته الآن حقيقة مطلقة بلا ذرة كذب.”
نظر إليها طويلاً، يفتش عينيها.
خضرة صافية مستقيمة لا ارتعاش فيها.
لم تكن تكذب.
ارتجف بصره وهو يدرك الحقيقة.
“حقاً…؟”
“نعم.”
أومأت إيزابيلا بثبات.
“بالأدق، كنت أعيش في الجبال القريبة من الدوقية. أمي لم تكن تحب أن يراها الناس.”
ومسحت برفق على شعره المتهدل، الناعم الذي تسلل بين أصابعها.
“المناظر التي كانت تُرى من هناك كانت رائعة بحق. وخصوصاً البرج ذو السقف الأزرق، شامخاً في قلب الدوقية.”
ارتجف حلق ثيو، يبتلع ريقه بصعوبة.
“وكانت هناك دوامات مائية عظيمة تظهر أحياناً، كانت رائعة المنظر.”
“آه…”
انفلتت منه أنّة، وانحنى يخفي وجهه المتألم.
“هاه…”
أسند جبهته إلى كتفها وهو يتنفس متقطعاً يحاول ضبط انفجاره الداخلي.
ذلك البرج ذو السقف الأزرق…
كان المكان الذي يطلق فيه والده الأرواح.
أما تلك الدوامات المائية، فقد كانت من لعب الأرواح معه.
طبعاً، إيزابيلا لم تعرف تلك التفاصيل.
كل ما أرادته أن تواسيه بكلمات تظنها قريبة من قلبه.
لم تتوقع أن تصيب جرحه الدفين مباشرة.
“قلت لكِ من قبل… لا تسألي…”
تفجّرت مشاعره المكبوتة أخيراً، فشدها إلى صدره يعانقها بعنف.
تجعدت ملابسها تحت قبضته، وارتفعت حرارة وجهه وهو يحتك برقبتها.
“هاه……”
أطلق ثيو عدة تنهيدات طويلة، ثم همس أخيراً بصوت خافت جداً:
“نعم، أنت على حق.”
أنتِ على حق في كل شيء.
وبعد أن كرر ذلك لوقت طويل، أضاف بصوت أهدأ:
“يوستاس ثيودور فان لويد.”
انتشرت الكلمات التي نطق بها على صدر إيزابيلا بهدوء.
همس صغير بالكاد سمعه ناياس ونووم الذين كانوا نائمين بالقرب من النافذة.
دق قلب إيزابيلا كان أعلى صوتاً من ذلك الهمس.
رفع ثيو رأسه ببطء، وظهر على وجهه تعبير معقد وعيناه مليئتان بمشاعر متشابكة ومعقدة تتجه نحوها.
فتح شفتيه مرة أخرى ببطء وقال:
“هذا… اسمي الحقيقي.”
حتى مع محاولة الاحتراس والاستماع بانتباه، كان صوته بالكاد يُسمع، لكنه أخبرها أخيراً بحقيقته.
الماضِي الثقيل الذي وُسم فيه باعتباره ابن خائن.
* * *
بيت الدوق الذي احترق بالنيران… لا يزال ثيو يتذكره بوضوح حتى اليوم.
كان ذلك منذ زمن بعيد، لكن ذاكرته لم تتلاشى.
منظرٌ محفور في ذهنه بقوة لدرجة أنه لم يستطع محوه مهما حاول.
‘اقتلوا جميع أبناء الخائن بلا استثناء!’
كان ذلك في اليوم الذي مرّ فيه شهر منذ أن غادر والده متوجّهًا إلى القصر الملكي بسبب مسألة عاجلة.
والده وعده أنه سيعلمه المزيد عن فنون استحضار الروح عند عودته، فانتظر تيو الليالي، ليلة بعد ليلة، مرت ثلاث ليالٍ متتالية.
لكن من عاد لم يكن والده، بل فرسان القصر الملكي والقذائف التي أطلقوها.
‘ما هذا بحق الجحيم؟!’
حتى في خضم الفوضى، يتذكر ثيو بصعوبة الحوار الذي دار بين والدته والخادم:
‘ألم تذهبوا لتصحيح سوء الفهم؟ كيف أصبحت هذه خيانة…؟’
‘اللعنة، يبدو أن الإمبراطور لم يستمع لكلمة من كلام صاحب السمو حتى ولو بمقدار غبار العين.’
حتى الشتائم التي اعتاد الخادم صاحب الطبع الناري على إطلاقها يوميًا، بدت في ذلك اليوم أكثر رهبة.
قرأ ثيو رسالة الرسول التي وصلت قبل نحو خمس دقائق من وصول فرسان القصر، وهو يصدّ لسانه من الغيظ.
‘حال وصولهم، أخرج الإمبراطور الأرواح للهجوم فورًا.’
‘هو من فعل ذلك؟’
‘لا، أقصد الإمبراطور! ولمنعه، يبدو أن صاحب السمو أخرج الأرواح أيضًا… اللعنة، وما جاء بعد ذلك في التقرير لا يصدق!’
‘لا يصدق؟’
‘أرواح صاحب السمو ثارت، دمرت القصر وهجمت الإمبراطور. هل يمكن تصديق هذا؟!’
‘لم يكن هدفه صد هجوم الإمبراطور؟’
‘على العكس، يبدو أن صاحب السمو هاجم الجميع بلا تمييز… هذا تقرير هراء!’
في النهاية، قام الخادم بتمزيق الورقة وسحقها بقدمه.
“الإمبراطور لن يسمع، لذلك نصحت بعدم الذهاب…!”
كان في كلامه بعض اللوم تجاه الدوق، لكن حينها سُمعت أصوات انهيار المباني من الخارج، مع الصراخ والدخان الأسود.
‘هذا ليس وقت النقاش! يا صاحبة السمو، اخرجوا فورًا من هنا! سأرشدكم إلى الممر السري!’
والدة ثيو أمسكت صدرها، تبحث بسرعة عن دواء.
صدمتها المفاجئة وحركتها المتسرعة أثارت مرض القلب لديها.
‘لا، سأبقى هنا.’
حاولت والدته تهدئة قلبها بالدواء، لكنها ضغطت على صدرها بعد أن ظل الألم مستمرًا.
‘ماذا تقولين؟!’
‘لو هربنا، فمع هذا المرض سيتم القبض عليك حتمًا. سيكون أخطر لو ذهبت معك.’
‘لكن…!’
‘أرجوك اهتم بيوستاس.’
أمسكت والدته يد ثيو وأعطتها للخادم بإحكام.
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات