لن أخدع مرتين [ 67 ]
فجأة، ما إن سمع لغة المملكة حتى انتفض رأس إدوارد كلمح البصر.
اتسعت عيناه حتى كادتا تخرجان من محجريهما، وتباعدت شفتاه قليلًا من دون أن يخرج أي صوت.
حتى أنفاسه توقفت، وجسده تجمّد في مكانه.
“آه، لعلّك لا تفهم هذه العبارة.”
أضافت إيزابيلا ببرود وهدوء.
“إنها كلمات كان يرددها لي شخص عزيز جدًا حين كنت صغيرة. لا أعرف معناها الدقيق، لكنه كان يستخدمها دائمًا ليطمئنني ويقول لي، لا تقلقي.”
نعم، كانت تلك كلمات اعتادت أمها أن تقولها لها.
لكن ما جعل إدوارد يرتجف من الدهشة لم يكن مجرد كونها كلمات بلغة مملكة هيليبور.
كان السبب هو العبارة نفسها.
‘لتكن الحرية رفيقك.’
كانت تلك جملة شائعة بين عبيد مملكة هيليبور.
دعاء يُقال للتمني بنيل الحرية يومًا ما، وشعارًا يمنحهم القوة كي يواجهوا بؤس الواقع.
“آه… أ… آ…”
خرج من حنجرته صوت مشوّه، لا هو بكلام ولا بهذيان، كأن نفسه مختنق.
أصواته المتقطّعة كانت تُعبّر عن حالته المضطربة.
“ظننتك منشغلًا بالقلق أكثر مما يجب. بالنسبة إليّ هذه العبارة أشبه بتعويذة سحرية تزيل كل همومي، فقلتُها لك على أمل أن تفعل معك الأمر نفسه يا لورد إدوارد.”
مدّت يدها مجددًا وأسدلت خصلاته المموجة لتغطي ندبة جبينه.
“سيكون كل شيء بخير. فقط جرب أن تثق بزملائك.”
“…….”
“وإن لم تستطع أن تثق بهم، فثق بي على الأقل. حتى لو اضطررت أن أستدعي كل أرواحي لأجلك، سأقف معك.”
غمزت بعينها بخفة.
أن يقول مستحضر أرواح رفيع المستوى إنه سيجرّ جميع أرواحه لمساعدته، فهذا لا يختلف عن وعد بالوقوف في مواجهة فرسان القصر الإمبراطوري إن استلزم الأمر.
وهل هناك رفيق أوفى من ذلك؟
وبعد أن تركت هذا الوعد الجليل، وقفت إيزابيلا بكل بساطة وكأنها لم تقل شيئًا عظيمًا.
“لا تبقَ جالسًا هكذا. الأرض باردة، وستُصاب بالزكام. وأنت فارس، أليس كذلك؟ الفارس لا يُسمح له أن يقع فريسة مرض كهذا.”
ثم خرجت أولًا من بين الأدغال.
“إذن، عد بحذر يا لورد إدوارد.”
شددت على اسمه الأخير وهي تودّعه.
أما هو، فظل واقفًا بلا حراك، يراقبها حتى اختفت تمامًا عن ناظريه.
***
قبل وصول وفد مملكة هيليبور بثلاثة أيام.
حصلت إيزابيلا أخيرًا على بعض الراحة في غرفتها.
طلبت من آنا ومن باقي الوصيفات أن يتركنها وحدها بحجة أنها تحتاج إلى بعض الوقت الخاص من دون إزعاج.
لكن السبب الأكبر كان شيئًا آخر، شيئًا لا يجوز أن يكتشفنه.
“ما حقيقتك أنت بالضبط؟”
همست وهي ممددة على السرير، وفي يدها كيس صغير.
كان الكيس مصنوعًا من خيوط نصف شفافة، وبداخله حبات حمراء.
لم تستطع حتى الآن أن تحدد ما إذا كانت ثمارًا أم خرزًا.
“وتلك الأحلام… ما هي؟”
بسبب ما حدث مع كارتر مؤخرًا، وانشغالها بمتابعة رفاق ثيو، لم تجد وقتًا للتفكير مليًّا بالأمر.
“نووم.”
رفع نووم رأسه من فوق الوسادة حيث كان ممددًا.
“ألا يعجبك هذا الشيء؟”
“تشييك!!”
وما إن قرّبت منه الكيس، حتى فزع وقفز ليختبئ أسفل الوسادة.
“ناياس، وأنت؟”
“كرووك!”
فما إن أرت الكيس للـ ناياس الجاثم على كتفها، حتى اندفع مختبئًا في ثنايا ثيابها.
“ذاك اليوم، بدا أن إيلايم أيضًا لم يتحمله… يبدو أنكم جميعًا لا تطيقونه.”
لكن… ما هو إذًا؟
جربت أن تشمه. أن تلمسه بلسانها قليلًا.
لكن لا رائحة… ولا طعم.
كان ألين قليلًا من أن يكون حجرًا أو خرزة، لكنه ليس طريًا كبيض السمك أيضًا.
ولو لم تخشَ العواقب، لتذوقته. لكنها متأكدة أن ذلك سيجرّ كارثة.
فردة فعل الأرواح وحدها كانت كافية كتحذير.
ثم إن لم يكن لديها سوى هذه الحبة الواحدة، فلو أكلتها فلن يبقى لديها ما تفحصه.
‘لا يمكنني طلب المساعدة من شان أيضًا…’
لم تستطع أن تذهب إليها وتقول بكل بساطة “ابحثي لي في هذا.”
مع قوة نقابة باتوكا في جمع المعلومات، ربما كان بإمكانهم الوصول إلى الحقيقة.
لكن ما دامت لا تستطيع أن تفسر من أين حصلت عليه، فسيكون الأمر خطرًا.
وإن كان فعلًا السبب في جعل الأرواح تستشيط وتفقد السيطرة، فالخطر أكبر.
لأن ذلك يعني أن في الأمر سرًا لم يُكشف بعد، وأي خطأ قد يجرّ شكوكًا نحوها.
‘إن كان هذا ما جعل أرواح نائب المركيز وصاحب السمو ولي العهد تفقد السيطرة… فكيف وصلهما هذا الشيء أصلًا؟’
فهم لم يكونوا ليأخذوه بأنفسهم.
بل لا بد أن أحدًا وضعه في أيديهم.
‘الاحتمال الأكبر هو فايتشي… أو حتى الإمبراطورة نفسها. لكن هل من المعقول أن يقبلا شيئًا كهذا منهما؟’
حتى لو قُدّم لهما، فأرواحهما ما كانت لتقبله.
يكفي أن تنظر إلى أرواحها وأرواح ثيو؛ فقد اشمأزوا لمجرد رؤيته.
فحتى لو كان مصدره فايتشي أو الإمبراطورة… من أين حصلا عليه أصلًا؟
‘هل يعرفون ما هذا…؟’
إن كان صحيحًا أنهم استخدموه على ليكاردو وولي العهد في المستقبل، فلا بد أنهم يعرفون.
‘لكن لا يمكنني الذهاب وسؤالهم مباشرة.’
ولن يخبروني حتى لو فعلت.
شعرت وكأنها وصلت إلى طريق مسدود.
إيزابيلا وقد غمرها شعور بالانسداد بعد غياب طويل عنه، أطلقت تنهيدة طويلة.
“هاه…”
ارتمت على السرير.
غطّاها ملمس الفراش الناعم، لكن ضيق صدرها لم يزُل.
وفوق ذلك، ما يشغل بالها لم يكن مجرد هذا الأمر وحده.
“الأحلام تلك أيضًا… مشكلة.”
حتى إنها لم تعد متأكدة إن كانت أحلامًا حقًا.
‘لا تختفِ…’
حين رأته لأول مرة ظنّت أنه مجرد وهم صنعته رغباتها.
لكن حين تكرر الحلم للمرة الثانية…
‘لماذا لا تردي على رسائلي؟’
تركها في حيرة.
صورة ثيو التي رأتها هناك كانت مطابقة لصورته حين التقت به في الواقع.
‘هل يمكن أن أتأكد إن طلبت منه أن يريني ندبة الترقوة؟’
ندبة الترقوة التي لم ترها بوضوح حتى الآن.
إن كان حلمًا، فلا بد أنها من نسج خيالها. أما إن لم يكن حلمًا… فلا بد أن الندبة ستكون في نفس الموضع الذي رأته هناك.
‘لكن إن لم يكن حلمًا… فما هو إذن؟’
في آخر مرة رأت الحلم، لم يكن ثيو حاضرًا أصلًا.
بل كانت في مكان مختلف تمامًا عن المكان الذي التقت فيه به من قبل.
كان مجرد إحساس مشابه جعلها تعتقد أنه نفس الحلم، لكن لا ضمان أنه كان متصلًا.
‘لقد التقيت بروح نائب المركيز… بل وحتى بروح ولي العهد…’
وهو أمر مستحيل في الواقع.
أما مكان وجود روح ولي العهد فغير معروف، لكن روح ليكاردو بلا شك…
“…..!”
بينما كانت غارقة في التفكير، صُعقت فجأة وكأن برقًا ضرب عقلها.
فرضية لا تُصدق خطرت لها.
أي شخص يسمعها سيصفها بالجنون، ومع ذلك وجدت نفسها تميل إليها بقوة.
‘من يضمن أنني لست بدوري أعيد الزمن في هذا العالم المجنون؟!’
قفزت من سريرها بسرعة، وضعت الكيس الذي يحتوي على الحبة في صدرها، وارتدت معطفها.
فتحت الباب بعنف لتخرج، فاندهشت آنا التي كانت تنتظر في الخارج واتسعت عيناها.
“ستخرجين يا آنستي؟ هل أرسل معكِ فارسًا؟”
“لا، لا حاجة! قد أتأخر قليلًا!”
قالتها على عجل، ثم ركضت مسرعة.
حتى تحية الخدم الذين مرّت بهم نسيتها في طريقها.
اجتازت بوابة القصر، وركضت عبر الساحة العامة.
وبلا توقف، وصلت أخيرًا إلى مبنى جمعية الأرواح.
“مرحبًا بعودتك يا آنسة إيزابيلا.”
حيّاها موظف الاستقبال بابتسامة مشرقة.
فالقانون يفرض على كل من يدخل أو يخرج من المبنى أن يُبرز بطاقة استحضار الأرواح.
لكن بالنسبة لمستحضرة أرواح رفيعة المستوى مثل إيزابيلا، فمجرد حضورها يعد تصريحًا مفتوحًا.
حتى لو لم تكن مشهورة بين عامة الشعب، إلا أن كل من له علاقة بعالم الأرواح يعرفها جيدًا.
“سأستخدم المكتبة قليلًا.”
قالتها باختصار، واتجهت مباشرة إلى المكتبة السفلية.
كان المدخل في القبو، لكنها في الحقيقة مكتبة ضخمة تعادل أربعة طوابق من الارتفاع.
ومثلما يُنتظر من مكتبة خاصة بالمستحضرين، فقد كان الهواء يتخلله عبق التراب، وتهب فيه نسائم مصدرها غير معلوم، كلها من قوى الأرواح.
الإضاءة من نيران الأرواح، وزُيّنت المكتبة أيضًا بشلال صغير يتدفق من ماء الأرواح.
“على ما أذكر، يجب أن يكون هنا في هذا القسم… آه، ها هو.”
إيزابيلا التي اعتادت ارتياد المكان في حياتها السابقة، وجدت القسم المطلوب بسهولة.
<عالم الأرواح>
كانت هذه هي اللافتة المعلقة على بابه.
على عكس الأقسام الأخرى التي درست الأرواح أو فن الاستحضار، فإن عدد المصادر هنا كان ضئيلًا.
فالمعرفة تكاد تكون معدومة.
وحتى لو تمكن المرء من التواصل مع الأرواح، فلن يكون ذلك بلغة مفهومة يمكنه سؤالهم بها.
لذا معظم ما وُجد هنا كان نتاج تخمينات وبحوث العلماء.
لكن قوة العقل الجمعي عظيمة.
وكانت هناك نظريات مقنعة بالفعل.
بدأت إيزابيلا تلتقط الكتب واحدًا تلو الآخر وتقلب صفحاتها بعجلة.
عيناها تجريان بسرعة عبر السطور.
[كل روح تولد وهي تحمل أحد العناصر الأربع، الماء، النار، الرياح، التراب. والقدرة على التوافق تتبع هذه الطبائع.
ومن هذه العناصر الأربع تنشأ علاقة التوازن بين الروح والمستحضر.
فالأرض تحجز تدفق الماء، والماء يطفئ النار، والنار تستهلك الهواء، والهواء ينحت الأرض.]
كانت البداية بديهيات.
[وجوهر فن الاستحضار هو فتح الطريق بين عالم البشر وعالم الأرواح. وأي روح ستعبر ذلك الطريق أمر يخضع للحظ.
غير أن الأرواح ذات العنصر الموافق للقدرة المستعملة في الفتح تكون أكثر رغبة في عبور الطريق، لذلك غالبًا ما يظهر المستحضر من نفس العنصر.]
وجدت الكثير من التفاصيل التي يجهلها معظم الناس.
—
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات