“صحيح أنّ بينهما فارقًا في المكانة، لكن جوشوا كان ابن بارون، ثم إنّه فتى ذكي، ولعلّ الماركيز رأى أن يُبقِيه قرب اللورد ليكاردو الصغير ليربّيه معه.”
كانا يحضران الدروس نفسها ويركبان العربة ذاتها.
ولم يكن قرار الماركيز ماكا السابق بذلك سيئًا؛ فوجود ندٍّ في العمر نفسه قد يكون دافعًا لـ ليكاردو على التعلّم والنمو.
“لكن لا بد أن تكون هناك حدود.”
فأحدهما وريث بيت الماركيز، والآخر مجرد طفل التُقط من خارج العائلة. حتى لو كان والده بارونًا، فالفتى نفسه لم يكن يحمل أي لقب.
من المستحيل أن يكونا قد نُشِّئا بالمساواة التامة.
“لا بد أن الاختلاف ظهر في تفاصيل أخرى.”
مهما حاولوا تربيتهما معًا، فلا بد أن ملابسهما كانت مختلفة، ومعاملة الخدم لهما مختلفة أيضًا.
وكان ذلك أمرًا طبيعيًا.
لكن ما يثير التساؤل هو، كيف شعر جوشوا حيال ذلك؟
“هل تملك ذكرى قبل الرابعة من عمرك يا لورد كارتر؟”
“لا.”
“إذن فكم يا تُرى يتذكّر جوشوا من والديه؟”
“……”
“أنا لدي بعض الذكريات قبل الرابعة. لا أذكر رائحة أمي، لكنني أستطيع أن أستحضر وجهها بشكلٍ باهت. أذكر بعض الكلمات التي اعتادت أن ترددها عليّ، وأتذكر أن حضنها كان دافئًا. لكن…”.
راحت إيزابيلا تنقر على الطاولة وهي تسترجع ماضيها البعيد.
“لو حاولت أن أتخيل أنّ أمي ماتت ميتة ظالمة…”.
غرقت في الخيال.
“لا أدري إن كان بإمكاني أن أشعر بمرارة ذلك الظلم في ذلك العمر. كنت صغيرة جدًا لأشعر بمثل هذا الغبن أو الغضب.”
لم أكن حتى أفهم معنى موت الأم.
كل ما فعلته في الميتم هو أنني ظللت أبكي باحثة عنها.
بل ربما ألقيت اللوم عليها، وظننت أنّها تخلّت عني.
بالطبع، حين كبرتُ فهمتُ كل شيء، لكن وقتها لم يكن إدراكي سوى إدراك سطحي، عقلي بحت.
“فهل يا ترى كان موت الأم المأساوي أعمق وقعًا عليه؟ أم أنّ التمييز البسيط والاختلاف في المعاملة الذي يراه يوميًا كان أشد إيلامًا له؟”
ساد صمت قصير، ولم يُسمع سوى صوت إيزابيلا وهي تنقر حافة الورق.
لكن هل يُمكن اعتبار ذلك تمييزًا؟ فالمعاملة المختلفة أمر طبيعي بحكم اختلاف المكانة.
ومع ذلك… هل حقًا لم يشعر بشيء؟
“حتى وإن حاول التظاهر بخلاف ذلك، ألم يكن من الممكن أن يتراكم في داخله حزنٌ وغيرة دون أن يشعر؟”
كان مجرد طفل. ومن الطبيعي أن يمر بمرحلة اضطراب وصراع داخلي.
فهل لم يتساءل يومًا، لماذا أنا مختلف عنه؟
“هل تظن أنني أبالغ في التحليل؟”
“لا يمكن استبعاد الاحتمال كليًا… لكن لا أظن أن اللورد جوشوا من هذا النوع…”
توقف كارتر قبل أن يتم عبارته متردّدًا، ثم التفت إلى إيزابيلا متحسّبًا لردّ فعلها.
عادة قديمة لديه؛ فإبداء رأي يخالف الأمير فايتشي كان يجرّ عليه العواقب أحيانًا.
لكن إيزابيلا لم تُظهر أي انفعال، بل تابعت أفكارها وكأنها لم تسمع.
“صحيح، لا يبدو كذلك. غير أنّ هناك أمرًا آخر… إنه يبتسم دائمًا.”
فهو دائمًا يرسم ابتسامة لطيفة.
قد تكون ابتسامة طبيعية، لكن إيزابيلا لم تستطع نزع فكرة أنها أشبه بقناع كامل الإتقان.
“إنها ابتسامة مكتسبة، مدروسة.”
فهي تعرف جيدًا هذا النوع من الابتسامات؛ إذ عاشت طويلًا بين النبلاء الذين يُجيدون ارتداء الأقنعة.
لكن متى بدأ يكتسبها؟
متى أدرك أن عليه إخفاء مشاعره الحقيقية؟
والأدهى من ذلك، أنّه يبتسم كذلك في وجه ليكاردو. وهذه النقطة بالذات كانت ما أثار أعظم شكوك إيزابيلا.
“أنت تعلم ذلك أيضًا، أليس كذلك يا لورد كارتر؟”
حتى كارتر الذي عاش طويلًا بجانب فايتشي ورأى مثل هؤلاء النبلاء بأمّ عينه، لم يسعه إلا أن يشعر بما تشعر به.
“لكن…”
أدلى كارتر برأيه بحذر.
“هل يمكن أن يكون شخصًا جاحدًا للنعمة إلى هذا الحد؟ شخص حكيم إلى هذه الدرجة؟”
كان جوشوا أذكى شخص بين زملاء ثيو.
فهو واسع المعرفة وسريع البديهة، ووجوده بجانب ليكاردو الذي يميل إلى العمل الفعلي كان لا غنى عنه.
‘لكن بفضل ذكائه، لو كانت المصالح تتوافق، فقد يفعل أي شيء…’
قد يكون فايتشي قد قدم له اقتراحًا مذهلًا، لا أحد يعلم.
لكن إيزابيلا، التي كانت تفكر في ذلك، هزت رأسها سريعًا.
لو كان مجرد اقتراح مغرٍ، لما كان كلام فايتشي صحيحًا.
‘أمام المشاكل الواقعية، ينحني المرء دائمًا.’
مهما فكرت، لم يكن لجوشوا أي مشاكل واقعية.
كل ما فعلته إيزابيلا هو مجرد تخمين مبني على مشاعر افتراضية.
“هل أنا أرى العالم بوجهة نظر مشوّهة للغاية؟”
ومع كل الشكوك التي انتابتها، شعرت ببعض الأسف تجاه الثلاثي.
“نعم، حتى لو حاولت الإصرار، فهذا لا يبدو منطقيًا.”
لقد خيّلت بعض السيناريوهات المتطرفة، لكنها لم تبدُ صحيحة.
‘ليست الحسد أو الغيرة، بل الأرجح أن الصغير قد ترسخ في ذهنه أنّه شخص يجب أن يخدمه بلا نقاش.’
خيال الخيانة أمر مستحيل بالنسبة لشخص يعتبره السيد المطلق، هذا أمر آخر.
هزّت إيزابيلا رأسها بسرعة لتتخلص من تلك التخيلات العقيمة.
‘فقط أريد أن أترك كل الاحتمالات مفتوحة.’
ثم حولت إيزابيلا نظرها إلى الملف المتبقي لرجلٍ واحد فقط.
كان من بين ثلاثة ملفات هو الأقل معلوماتًا.
لا، حتى وصفه بأنه قليل المعلومات لا يكفي، فلا يوجد شيء تقريبًا.
“هل هذا حقًا كل شيء؟”
“نعم. أما بالنسبة للورد إدوارد… أود أولًا أن أعتذر. لم نجد أي معلومات رغم كل البحث.”
كان الوضع نفسه عندما طلب فايتشي التحقيق في أتباع ليكاردو.
كانت معلومات ثيو وجوشوا ودايفيد موجودة إلى حد ما، لكن ماضي إدوارد كان فارغًا كصفحة بيضاء.
على عكس الآخرين الذين نشأوا منذ الصغر معًا، التقى إدوارد لأول مرة أثناء الحرب.
حوالي عامٍ واحدٍ بعد اندلاع الحرب، دخل القسم الذي يديره ثيو لأول مرة.
لكن لم يكن لديه بطاقة تعريف مثل جميع الجنود الآخرين.
فقدان الجنود لبطاقات التعريف أثناء المعارك والتنقلات الطويلة أمر شائع، لذا لم يكن مهمًا.
لكن لتسجيل عملية العلاج، كان الرقم التعريفي ضروريًا، فقام ثيو بتخصيص رقم جديد لإدوارد.
خلال بضع كلمات، لاحظ جوشوا لكنّة شمالية قوية لديه، فأبدى اهتمامه بإدوارد.
كانت ألفاظه الحادة التي تتضمن شتيمة في كل جملة تتماشى مع لكنته الشمالية.
ما لم يتناسب معها كان الخاتم الفاخر الذي يرتديه على إصبعه، واسم إدوارد الذي يوحي للناظر بأنه ينتمي للنبلاء.
والمثير للاهتمام أيضًا أنه لا يعرف القراءة.
معدل الأمية في الإمبراطورية منخفض جدًا، حتى أطفال الأحياء الفقيرة يعرفون القراءة.
عدم قدرته على القراءة أثار اهتمام جوشوا بشكل أكبر.
أكثر ما أدهش جوشوا هو سبب وجود جندي شمالي ضمن قوات الماركيز ماكا.
عند توزيع الجنود العاديين، يُعيَّنون ضمن قوات الجهة التي ينتمي إليها قائدهم النبيل.
أُدرج ثيو ضمن قوات ليكاردو لهذا السبب.
لكن أراضي الماركيز ماكا بعيدة عن الشمال.
كيف وصل جندي شمالي إلى هنا؟
قد يحدث اختلاط الجنود بين الوحدات أثناء المعارك، لذا لم يكن أمرًا عظيمًا.
لكن بالنسبة لجوشوا، كان إدوارد رجلًا غريبًا بطرق عدة، أميّ لأول مرة، لكنّة شمالية لأول مرة، ووجود عناصر غير متناسقة لأول مرة.
أبدى جوشوا اهتمامه بإدوارد، وهذا الاهتمام هو ما أدى للعلاقة الحالية بينهما.
“يُرجّح أنه من المرتزقة. فالمرتزقة الشماليون مشهورون بخشونتهم.”
لو كان من المرتزقة الذي اختبروا أشد المخاطر، كانت الندوب على وجهه وجروح أصابعه مفهومة.
“لكن… بعد التحقق من كل قوائم المرتزقة، لم نجد اسم إدوارد.”
تحققوا من آلاف أسماء المرتزقة بأمر من فايتشي، لكن لم يوجد أي اسم مطابق لإدوارد.
حتى عند البحث عن “إد” لم يظهر أي شخص يطابق مظهر إدوارد.
“هاه، أكثر شخص يثير الفضول، ولا توجد عنه أي معلومات.”
أطلقت إيزابيلا تنهيدة تعبيرًا عن إحباطها.
في اليوم الذي ظن فيه زملاء ثيو أن إيزابيلا تتآمر مع كارتر،
في اليوم الذي اقتحموا غرفتها وعبثوا بالرسائل، استطاعت إيزابيلا تخمين الخائن ضمن الثلاثي بشكل غامض.
والخائن الذي كانت تشتبه فيه مستقبلًا لم يكن سوى إدوارد.
لقد تركت الاحتمالات مفتوحة لدايفيد وجوشوا، لكن أكثر من شكّت فيه كان إدوارد.
والسبب بسيط للغاية.
‘شخصية لا تتحمل الإحباط، يغضب بغضب ناري، ويقفز بلا تردد مثل فراشة النار.’
تلك كانت بالضبط تصرفاته في ذلك اليوم.
ومع المراقبة الطويلة، لاحظت أنّه كذلك دومًا.
‘لكن ذلك اليوم، لم يكن كذلك.’
—
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 61"