لن أخدع مرتين [ 57 ]
ركضت إيزابيلا هابطةً الدرج، تاركةً ليكاردو واقفًا أمام باب الغرفة وهي تصرخ.
وما إن خرجت من القصر حتى اتجهت مباشرة إلى القصر الخاص ببيت المركيز.
كان ذلك القصر يستعمل كسكن لفرسان الأسرة، ولذلك كان الثلاثي، ومن بينهم ثيو، يقيمون هناك.
غير أنّ ثيو الذي توقعت أن تجده هناك، لم يكن موجودًا.
الذي استقبلها لم يكن ثيو، بل جوشوا.
قالت متعجّبة:
“غير موجود؟! إلى أين ذهب إذن؟”
أجابها جوشوا بابتسامته اللطيفة المعتادة:
“من يدري؟ لم يخبر أحدًا، خرج من غير أن يقول شيئًا.”
أطلقت إيزابيلا تنهيدة ضجر وقد بدت في حيرة.
‘أين يمكن أن يكون…؟’
خطر ببالها أنّه ربما ذهب إلى حانة قريبة، لكنها سرعان ما نفت الفكرة.
فهو ليس من النوع الذي يشرب للتنفيس عن حزنه.
“ربما خرج يتمشى…”
تمتمت.
كان يحب أن يطرد أفكاره بالهواء المنعش، أو يسبح قليلًا في البحيرة القريبة.
لكن بما أنّه لا يطيق الأماكن المزدحمة، فربما غادر خارج أسوار المدينة.
“سأبدأ بالتأكد من الحديقة أولًا.”
همست بذلك ثم استدعت أحد أرواحها:
[ابحثوا عن ثيو.]
فالمدينة لا تصلح لأن يبحث فيها المرء عن شخص بالجري وحده.
‘لو علمت أنّ الأمر سينتهي هكذا، لأبقيت الأرواح تراقبه…’
لكن بعد الشجار الأخير بينهما، لم تستطع أن تترك أرواحها بجانبه.
حتى ناياس روح ثيو نفسها، لم تعد تظهر منذ ذلك اليوم، وكأنها هي الأخرى باتت تراعي مشاعر إيزابيلا.
قالت برجاء:
“لو عاد ثيو، هلا تخبره أنني كنت أبحث عنه؟”
ابتسم جوشوا في ودّ وهو يجيبها:
“بالطبع.”
شكرتْه وانطلقت مسرعة، بينما ظلّ يراقب ظهرها المتباعد.
وبينما كان جوشوا واقفًا، مرّ به إدوارد الذي كان يركض تدريبًا، وقال وهو يلهث:
“هاه، أليست تلك الفتاة حبيبة ثيو؟”
أجابه جوشوا ببرود:
“لها اسم، إيزابيلا. لمَ تستمر في تسميتها حبيبة ثيو؟”
قهقه إدوارد:
“حبيبة ثيو هي حبيبة ثيو، ما المشكلة؟”
قال جوشوا هادئًا:
“وليس بالضرورة أن تبقى دائمًا كذلك.”
“ماذا؟! هل انفصلا؟”
سأل إدوارد بدهشة وهو لا يعلم بخصامهما.
وبينما ينفض عرقه عن شعره، برز إصبعه الأوسط المبتور وقسم من جبهة مشوّهة بآثار حرق قديم.
“آه… إذًا لهذا جاءت إلى هنا ولم ترَ ثيو؟”
لكن جوشوا التزم الصمت.
ففهم إدوارد صمته على طريقته، وقال بسخرية:
“يا للعجب! كانا يبدوان وكأنهما لن يفترقا أبدًا، فما الذي حدث؟ هاه… لن أفهم أبدًا علاقات الرجال والنساء!”
“وعلى كل حال، لا تذكر لثيو أنّها جاءت تبحث عنه، سيعقّد الأمر عليه أكثر.”
أجاب إدوارد بفتور:
“هاي، لست من النوع الذي يتدخل في علاقات الغير. ليدوما معًا أو ينفصلا، لا شأن لي.”
لكن جوشوا تذكر بوضوح كم جنّ جنون إدوارد يوم انقطعت رسائل إيزابيلا، بينما الآن يتظاهر باللامبالاة.
“لهذا السبب، الأفضل ألّا تقول شيئًا.”
ابتسم جوشوا ابتسامة خفيفة وهو يرفع بصره نحو المبنى، حيث كان ثيو يخرج منه في تلك اللحظة.
صرخ إدوارد متذمّرًا وهو يستأنف ركضه:
“تفو! لتذهب كل العلاقات إلى الجحيم!”
أما جوشوا فلوّح بيده لثيو وكأن شيئًا لم يكن.
***
كانت إيزابيلا قد أطلقت عددًا من أرواح نووم في باطن الأرض لتساعدها في البحث، ثم اتجهت إلى الحديقة، لكنها لم تصل إليها.
إذ جاءها نداء عاجل من أحد أرواحها المرافقة.
[بووو!]
كان كلاي الذي تركته ملازمًا لسارا.
[ماذا تقول…؟]
لم تفهم كل كلماته، لكنها استطاعت أن تلتقط المعنى بما أنّها قادرة على التآلف مع الأرواح.
وكان واضحًا حتى دون كلمات أنّ الأمر في غاية الخطورة.
توقفت إيزابيلا فجأة، وحدّقت نحو جهة الأحياء الفقيرة.
[بووو!]
[تماسكي!]
صرخ كلاي في عجل، فما كان منها إلا أن تشتم وتندفع بكل قوتها إلى هناك.
“اللعنة!”
جعلت أرواح نووم كلّها تلتفّ حولها وهي تجري نحو الحي الفقير.
وما لبثت أن رأت جمعًا من الناس متحلقين.
صرخت وهي تشق طريقها:
“تنحّوا جانبًا!”
فتحت الأرواح الممر بين الناس بدفع الأرض من تحتهم، فلم يستطع أحد أن يقاوم.
وعندها انكشف المشهد، زقاق بأكمله يلتهمه اللهيب.
كان الناس يحاولون جاهدين إطفاء النار بالدلاء، لكن النيران كانت تتوحش أكثر فأكثر.
أدركت إيزابيلا على الفور الغاية من هذا الحريق.
‘اللعنة… فايتشي فعلها أخيرًا!’
اندفعت نحو اللهب غير مبالية بالنداءات المحذّرة:
“آنسة، توقفي! إنه خطر!”
لكنها صاحت:
“نووم! درع واقٍ!”
في لحظة، التفّ حول جسدها هالة من طاقة الأرض، شكلت درعًا يحميها من النار.
ثم أمرت:
“أنت، أسرع إلى كاساندرا وأحضرها! وأنت، ابحث عن أي روحاني ماء قريب وجلبه إلى هنا!”
[تشيك!]
[تشيك تشيك!]
ثم التفتت إلى بقية الأرواح:
“مولدن! جميعكم، ابنوا جدارًا ترابيًا! بأي وسيلة، امنعوا النار من التمدد أكثر!”
[كوو؟]
فارتفعت جدران من الطين تسد الطرق أمام النار، تكبح امتدادها.
عندها صاح الناس:
“إنها مستحضرة الأرواح…! نعم، إنها هي! إنها الروحانية إيزابيلا!”
“نجونا! لقد جاءت مستحضرة الأرواح لتنقذنا!”
فارتفعت أصوات الناس بالهتاف.
“أبي في الداخل!”
“آه يا ويلتي! صغيري هناك!”
كان كل من له قريب أو صديق في الحي المحترق يصرخ مستنجدًا.
قالت إيزابيلا بصرامة لأرواحها:
“ابحثوا عن الناجين واحموهم! اصمدوا حتى تصل الإمدادات!”
[تشيك!]
وهكذا اضطرت أن تستعمل جميع الأرواح التي عقدت معها العهد من نووم ومولدن.
كانت توزع الأوامر على الأرواح الصغار بكثرة، لكن تركيزها الأكبر كان على كلاي.
[كلاي! أين سارا؟]
[بوو…]
أجابها كلاي وكأنه يتدلّع، شاكياً أنها لم تبحث عنه أولًا.
ذلك الاعتراض الطفولي جعل قلب إيزابيلا يهدأ، إذ بدا أن الخطر ليس كبيرًا، وإلا لما تصرف بهذا الشكل.
ركضت إلى آخر الزقاق، وهناك بدا لها بيت مألوف… بيت قديم لا يكاد يصلح للسكن، وقد اشتعل بالكامل.
“آه… حرارة لا تُطاق.”
رفعت درعها الترابي إلى أقصى حد، ومع ذلك كان العرق يتصبب منها.
وبينما تندفع نحو المنزل، ظهر أمامها إغنيس يقفز في اللهب.
“ذلك الوغد…!”
أيقنت حينها أن هذه كارثة من صنع فايتشي.
“كلاي! كبّحه فورًا!”
فلو تُرك الأمر له، لاحترق الحي الفقير كله.
استدعت إيزابيلا نسخة أخرى من كلاي لتواجه روح فايتشي، بينما هي هرعت إلى داخل البيت.
كان كل شيء يحترق.
غطّت فمها بطرف ثوبها واندفعت خلال الدخان.
‘اللعنة… إخماد النار يحتاج إلى الماء والريح، لو أنّ السير دايفيد كان هنا…’
لكنها لم تملك وقتًا لتتحسر، فاتجهت مباشرة نحو مصدر طاقة كلاي.
في وسط الغرفة كان ثَمّة قبة من التراب، أشبه بالإيغلو.
(م.تعرفو البيت الثليجي متل القبه ؟ يب هاد الايغلو)
[كلاي!]
[بوو!]
ردّ عليها بصوت مفعم بالقوة.
وتحركت جدران القبة الترابية، ثم ارتفعت جدران أخرى فابتلعت إيزابيلا في داخلها.
وبعد لحظات انهار الحاجز.
هناك، وجدت كلاي وقد صغُر حجمه حتى صار بحجم كلب ضخم، وجدت أيضًا سارا متكئة عليه.
“أوه! خالتي!”
ابتسمت سارا بفرح، تمدّ ذراعيها نحوها.
تنهدت إيزابيلا بارتياح وجلست إلى جانبها، تحتضنها وتستند معًا إلى كلاي.
قالت الصغيرة بحماس:
“خالتي، خالتي! رأيت أرنبًا أحمر قبل قليل!”
“حقًا؟”
“نعم! لكن شكله كان مخيفًا… فجأة كبر حجمه كثيرًا.”
“فهل فزعتِ منه؟”
“نعم… لكن بعد ذلك، هنا… هذا الفيل ضرب الأرض بقوة، فظهرت هذه الجدران وأنقذتني!”
ضحكت إيزابيلا وقالت وهي تمسح على رأسها:
“أحسنت يا فيلنا الشجاع! هل تأذت صغيرتي سارا؟”
“لا! لم أُصب بشيء!”
ازداد قلبها اطمئنانًا وهي تلمس رأس الطفلة السليم.
لقد بدت في صحة أفضل من ذي قبل، خدّاها امتلأ فيهما شيء من اللحم، ولون وجهها عاد أكثر حيوية، ربما بفضل الدواء الذي حصلت عليه من كاساندرا.
قالت سارا ببراءة:
“أنا أحب الفيل يا خالتي! حتى الدمية التي أهديتِني إياها فيل!”
لم تتمالك إيزابيلا نفسها من الابتسام وهي تراها بهذا الصفاء.
“وأنا أيضًا أحب الفيل. اسمه كلاي.”
صرخت الصغيرة بفرح:
“آه، إذًا هو كلاي! كلاي!”
وعانقت الروح بكل ما أوتيت من قوة، رغم أنّ ذراعيها القصيرتين لم تستطيعا الإحاطة بجسده الضخم.
ومع ذلك، بدا على كلاي السرور، إذ أخذ يُحرّك أذنيه فرحًا.
بعد لحظات، وصلتها أصوات الأرواح التي تعمل في الخارج:
[تشيك! تشيك!]
إنه نووم يفاخر بأنه أحضر كاساندرا.
[تشيك؟]
ونوم آخر يتعجب من أعمدة الدخان التي ارتفعت إلى السماء.
[شُرييل…؟ آه، إذًا السير دايفيد باتوكا جاء هو الآخر.]
فطاقة الرياح التي شعرت بها كانت مألوفة جدًا، لا يمكن أن تخطئها.
[تشيك! تشيك!]
وكأن الأرواح تؤكد أنها جاءت برفقة الاثنين معًا.
لكن عندها أحست إيزابيلا بطاقة أخرى غير متوقعة:
[وهذا… إيلّايم؟]
–
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 57"