كانت كلمات إيزابيلا حذرة، لكن كاساندرا تلقّتها بلا اكتراث، فقد اعتادت لقاء أشخاصٍ أغرب أثناء عملها في التجارة.
قالت ببرود:
“حتى لو كنتِ عرّافة كما تقولين، فما الداعي لكل هذه العجلة؟”
أجابت إيزابيلا بجدية:
“كيف لي أن أقف مكتوفة اليدين وأنا أعلم ما سيحدث؟”
ابتسمت كاساندرا ابتسامة خفيفة وقالت:
“ومع ذلك، لا داعي لأن تكرّسي حياتكِ لذلك وحده.”
“ماذا تقصدين؟”
“هذه قناعتي الشخصية، أرى أن المستقبل أمرٌ لا يمكن التنبؤ به، وأنه يتسم بترابط سببي مرن للغاية… آه، نعم، أنا ممن يؤمنون بتأثير الفراشة.”
كلمة واحدة قد تترك في نفس شخص جرحًا غائرًا يدوم العمر كلّه، أو تمنحه خلاصًا من شقاء طويل.
وحجرٌ يُلقى بلا مبالاة قد يُسقط سدًّا فيغمر قريةً بأكملها بالفيضان.
وأضافت مسترسلة:
“تخيّلي انهيارًا جبليًا يغلق طريقًا على طبيب، فيعجز عن حضور زفاف صديقه. وفي الوقت نفسه ينتشر وباء في قرية معزولة في الطريق ذاته، فيبقى الطبيب هناك وينقذ أهلها من الموت. ثم يتبيّن أن تلك القرية تُخرج بطلًا مستقبليًا يقود الإمبراطورية إلى النصر. أرأيتِ؟”
هزّت إيزابيلا رأسها مستنكرة:
“وكم احتمالًا كهذا يمكن أن يحدث؟”
ضحكت كاساندرا وقالت:
“إن نظرتِ إلى واقعة واحدة فستظنينه نادرًا، لكني أؤمن أن حياتنا كلها حبائل مترابطة بهذا الشكل.”
كانت كلماتها خفيفة النبرة، لكنها تركت في ذهن إيزابيلا دوامات من التفكير.
“ما أقصده أن تلتفتي لمشكلاتكِ الحاضرة بدل أن تركضي وراء المستقبل.”
“إذًا… ترين أن الاستعداد للمستقبل أمرٌ أحمق؟”
ابتسمت كاساندرا بهدوء:
“ليس أحمق. من يعرف بقدوم المطر ولا يأخذ مظلته أحمق بلا شك. لكن، أليس من المؤسف أن تضيّعي جمال شمس اليوم وأنتِ منشغلة بصناعة المظلة؟”
قطّبت إيزابيلا حاجبيها قائلة:
“لا أظنني فهمت قصدك جيدًا.”
ابتسمت كاساندرا ابتسامة دافئة، مدّت ذراعها وأحاطت كتف إيزابيلا ثم جذبتها برفق، وأشارت بإصبعها إلى كشف الأرباح على الطاولة.
“أتخططين لكيفية تلقين الأمير ضربة موجعة؟ حسنًا لا بأس. لكن في الوقت نفسه استمتعي بهذه النجاحات التي صنعتِها. أليست كل مساعينا لأجل السعادة في النهاية؟”
كانت إيزابيلا غارقة في القلق على المستقبل إلى حدٍّ أفقدها القدرة على الفرح بما تحقق أمام عينيها.
ابتسمت كاساندرا بخبث وقالت:
“ثم يا شريكتي، أظنكِ واقعة في خطأ كبير…”
أمالت رأسها نحوها وهمست بصوت ماكر كما لو كانت تكشف سرًا عظيمًا:
“السعادة ليست في المستقبل يا عزيزتي.”
اقتربت أكثر وهمست:
“السعادة ليست غاية نبلغها، بل حالة نعيشها. لا تنسي ذلك.”
ثم نهضت من مجلسها وهي تقول بمرح:
“انتهى درس الحب! والآن إلى العمل!”
تمدّدت قليلًا وأطلقت ضحكة خفيفة ثم تابعت بحماس:
“أكبر عيب في منتجاتنا الآن هو أنكِ تصنعينها كلها، لذا كل أدوات الأرواح محصورة في عنصر الأرض. لكن لدي مفاجأة! لقد أقنعتُ أحدهم من منزلي.”
وأخرجت عقدًا من جيبها وقالت وهي تلوّح به:
“اتفقنا على صنع أدوات تحمل قوة الرياح. هذا هو العقد مع دايفيد. حتى لو كان من العائلة، المعاملات لا بد أن تكون موثقة! اتفقنا على عشرين قطعة في الأسبوع، وهذا سيُحدث فرقًا في المبيعات. صحيح أنه ابتزّني بأجر مرتفع، لكن لا بأس. أما أدوات عنصر الماء، فكنتُ أود صنعها… لكن حالتك تقول لي إن علينا الانتظار قليلًا.”
كانت تتحدث، لكنها لم تكن متأكدة إن كانت إيزابيلا تسمعها أصلًا.
فإيزابيلا كانت تحدّق بعمق في السوار المربوط حول معصمها ووجهها ملبّد بأفكار لا تنتهي.
يبدو أن كلمات كاساندرا عن الحب ما زالت تدور في رأسها بقوة.
أدركت كاساندرا ذلك، فتركتها لتغرق في بحر أفكارها.
***
في مكانٍ آخر، كان صوت رجلٍ بارد يقطع الصمت:
“إذن، تأكّد الأمر.”
تفوّه فايتشي بهذه العبارة بعد أن تلقّى تقريرًا عن منجم بيت ماكا.
أمامه كان يقف تابعه الذي نجح في تنفيذ مهمة تفجير المنجم وعاد سالمًا.
ضحك باستخفاف، لكن نبرته كانت تنضح بالغضب المكتوم، وعيناه الحمراوان تشعّان ببرودة مخيفة تناقض لونهما الناري.
“إن كانت رقعة الشطرنج موضوعة أمامي، فعلى البيادق أن تبقى حيث أضعها… فما الذي يدفع إحداها للتسلّل خارج المسار؟ أليس كذلك؟”
التزم التابع الصمت، مدركًا أن أي كلمة قد تشعل غضب سيده.
رفع فايتشي يده قليلًا، فحطّت على إصبعه كاسا، طائر أسود بأجنحة نارية تذرّ الشرر مع كل خفقة.
قال ببرودٍ قاتل وهو يحدّق في صورة على الجدار:
“بعد أن حطّمتِ الكونت موتكان، الآن تجرؤين على مدّ يدك إلى كارتر؟”
كانت الصورة تحمل وجه إيزابيلا بابتسامة بريئة توحي بالنقاء.
لكن فايتشي كان يعرف حقيقتها جيدًا.
قهقه قائلًا:
“يا للسخرية!”
لم يكن يعرف بأمر التفجير إلا هو والرجل الواقف أمامه وكارتر.
ومع ذلك، هرعت إيزابيلا إلى المنجم قبل وقوع الكارثة وقلّصت الخسائر إلى الحد الأدنى.
لا تفسير لذلك سوى أنها علمت بالخطة مسبقًا.
ولم يكن أمامه شك في أن الخيانة مصدرها كارتر.
تمتم باحتقار:
“يا لها من وقاحة…”
أتريدين سرقة رجالي؟!
أمر كهذا كان أشد إهانة له من سقوط الكونت موتكان نفسها.
‘تظنّين أنني سأتركه لكِ؟’
ابتسم ابتسامة جليدية وهمس:
“لن أسمح بسرقته… سأحطّمكِ أولًا.”
أدار إصبعه في الهواء، فطار كاسا ليحطّ فوق صورة إيزابيلا، وأطلق منقاره المشتعل نحو جبينها.
في لحظة، احترقت الصورة وتحوّلت إلى رماد.
أحرق كاسا صورة إيزابيلا وحدها دون أن يمسّ شيئًا آخر، ثم عاد ليحلق في الجوّ.
تخفّى عن الأنظار متجهًا إلى النافذة وهو يرفرف بجناحيه بخفّة وأناقة، حتى ليصعب تصديق أنه في طريقه الآن ليغرق حياة أحدهم في اليأس.
***
ما الذي أريده حقًّا؟
ذلك هو السؤال الذي بدأ يلازم إيزابيلا منذ أن استمعت إلى نصيحة كاساندرا.
في حياتها السابقة، كان حلمها الوحيد أن تفلت من قبضة فايتشي.
وبعد عودتها إلى الحياة، صار هدفها إسقاط فايتشي.
كان من المهم أيضًا أن تحمي جميع من تحبّ، بما في ذلك ثيو.
لكن لو سُئلت عمّا يدفعها إلى وضع كل تلك الخطط، فالغاية النهائية لم تكن سوى السعادة.
أليس كل ذلك من أجل أن نكون جميعًا سعداء؟
لم يكن هناك جواب أصوب من هذا.
لكن، هل كانت تسير فعلًا في طريق يقودها إلى السعادة؟
ظنّت أنّها ستصبح سعيدة إذا أطاحت بفايتشي والإمبراطورة.
لكن هل هذا صحيح حقًّا؟
فقد وصلت الأمور إلى أن تخاصمت مع ثيو بسبب ذلك، فهل هذه سعادة؟
ربّما يتركان في قلبيهما جراحًا لا تندمل أبدًا.
فألن يبعدها ذلك عن السعادة التي تطمح إليها؟
ذلك الاضطراب ازداد أكثر بعد كلمات أخرى قالتها كاساندرا:
“السعادة ليست غاية نبلغها، بل حالة نعيشها.”
كانت تظنّ طوال الوقت أنّها تسير نحو السعادة، لكن ذلك كان تفكيرًا خاطئًا.
فالسعادة لا تُؤجَّل إلى المستقبل، بل تُعاش في هذه اللحظة.
لماذا ظلّت تؤمن بأنّ السعادة ثمرة تعبٍ طويل لا تُقطف إلا في المستقبل؟
“صحيح أنّني أريد إسقاط فايتشي، وهذا لم يتغيّر قط.”
لكنّها في سبيل ذلك كانت تفقد الكثير من لحظات السعادة في حاضرها.
“الآن فهمت ما كانت تعنيه كاساندرا.”
حين قالت إنّها تراها كمن يطاردها شيء، لم تكن تقصد أنّها مشغولة بملاحقة فايتشي وحسب.
لم تكن تنصحها بالتخلي عن الانتقام، بل كانت تقول لها ألّا تُضيّع الوقت والذكريات التي يمكن أن تعيشها الآن من أجل هذا السعي المحموم وراء الانتقام.
“عليّ أن أصلح الأمر.”
هكذا توصّلت إيزابيلا إلى القرار أخيرًا.
“صحيح أنّ الإمساك بفايتشي مهم، لكن إذا كان ذلك سيُحزن ثيو، فلن يكون لأي شيء معنى.”
فهي عاشت حياتها من جديد لتكون سعيدة مع ثيو.
فإذا كانت السعادة معه في المستقبل مهمّة، فالسعادة معه في الحاضر لا تقلّ أهميّة عنها.
‘كم الساعة الآن؟ يجب أن أذهب إليه فورًا.”
كانت ما تزال بثياب الخروج، ولم تُبدّلها بعد.
أخذت معطفها على عجل وركضت خارج الغرفة.
وما إن فتحت الباب حتى وجدت ليكاردو واقفًا أمامه رافعًا يده ليطرق الباب.
“كنت في طريقي إليكِ.”
“هل من أمر؟”
“لقد عثروا على بقايا المتفجّرات.”
“حقًّا؟ ظننت أنّها انفجرت واختفت تمامًا.”
“وجدوا بعضها، وهذا يكفي لمعرفة ماهيّة الشيء الأصلي.”
وبما أنّهم عرفوا أنّ الانفجار كان بفعل فاعل، فقد كرّست الماركيزة ماكا وقتها لكشف السبب وراء ذلك.
وسارت التحقيقات بسرعة بفضل الأرواح التابعة لإيزابيلا التي رتّبت ما تهدّم في المنجم.
“يبدو أنّهم ينوون تتبّع مصدرها. والتقارير الأوّلية تشير إلى أنّها عبوة لا تنفجر إلا إذا أشعلها أحد من مسافة قريبة، وهذا يعني أنّ هناك متعاونًا داخل المنجم. وهم يحققون في هذه النقطة أيضًا.”
“لو كانت أداة سحرية، فلا بد أنّها كانت تملك زرّ تشغيل للتحكّم عن بُعد.”
“لهذا يركّزون على هذه الفرضيّة الآن.”
“هذا خبر جيّد. سيجدون الحقيقة قريبًا.”
ارتدت إيزابيلا معطفها وقالت:
“إذا كان هذا كل شيء، فسأذهب الآن.”
“إلى أين بهذه السرعة؟”
“لألتقي بثيو!”
قالت هذا وهي تركض مبتعدة بالفعل.
“سأعود بعد قليل!”
–
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات