لن أخدع مرتين [ 48 ]
‘أشعر بالقلق…’
كانت إيزابيلا تحدّق شاردة في عصفور جاثم على غصن شجرة، غارقة في أفكارها.
قبل أيام، حين كانت في طريقها لزيارة سارا، اضطرت للعودة أدراجها.
فإلى جانب الظل الذي يتعقبها دائمًا، أحسّت بوجود دخيل غريب يتجول في أحياء الفقراء.
لقد تعرّفت عليهم بسهولة؛ فهم أنفسهم الذين كانوا يراقبونها بإلحاح في حياتها السابقة.
ولم يكن لتجوالهم هناك سوى سبب واحد:
‘يبدو أنّ فايتشي بدأ يشكّ في السير كارتر…’
لقد عاش كارتر دميةً في يديه لما يقارب العشر سنوات، وهي مدة كافية لفهم طبيعته جيدًا.
وإيزابيلا تعرف أن فايتشي، مهما كان قرب المرء منه، لا يمنحه ثقة كاملة أبدًا.
حتى والدته الإمبراطورة، لم تسلم من ريبة قلبه.
‘لقد تعمّدت أن أُوكل حماية سارا إلى كلاي لا إلى الآخرين كي لا يُكتشف الأمر إن جاء فايتشي بنفسه… ومع ذلك انكشف؟’
فايتشي هو مستحضر أرواح من المستوى المتوسط، لا يملك القدرة على رؤية الأرواح العليا إذا أُخفيت.
فكيف انفضح الأمر إذن؟
هل ارتكب كارتر حركة شاذة؟
أم أنّها هي من كشفت نفسها أكثر من اللازم أمام الكونت موتكان؟
أو لعلّه مزيج من عدة أسباب.
‘على أية حال، ما دمت لم أحسم بعد إن كان كارتر في صفّي حقًا، فالأجدى أن أُبقي مسافة بيننا… حمايةً له وحمايةً لي أيضاً.’
وكان عليها أن تكون أكثر حذرًا، ففايتشي لا تفوته التفاصيل.
ما يقلقها وحده هو أمر سارا.
فالإبقاء على كلاي بجانب الطفلة يستلزم أن تواصل إيزابيلا تغذيته بطاقة من ألفتها الخاصة.
لكن إن عجزت عن لقاء سارا، فلن تجد سبيلًا لذلك.
‘صحيح أنني تركت أثري في أرجاء البيت، وسيكفي هذا مؤقتًا… لكن الأمر لن يدوم.’
زفرت إيزابيلا تنهيدة ثقيلة، وضغطت على جبينها المثقل بالأفكار، حين باغتها صوتٌ يناديها:
“ما سرّ هذا التنهد المفاجئ؟”
“آه؟ أ…”
رفعت رأسها لترى ليكاردو يحدّق بها باستفهام، فتذكرت أنها كانت في خضمّ حديث معه.
“أعتذر… لقد شرد ذهني فجأة بأمر آخر.”
اعتذرت عن قلة ذوقها بالانشغال أثناء الحوار.
فابتسم ليكاردو ابتسامة صغيرة وأجاب ممازحًا:
“هذا يجرحني قليلًا… أمعنى ذلك أن كلامي لم يرق لك؟”
كان يربّت على عنان فرسه المربوط بجانبه وهو يتحدث.
“مستحيل!”
هزّت إيزابيلا يديها نافية، وتقدمت نحوه بخطوات سريعة:
“أبدًا! ليس الأمر كذلك على الإطلاق!”
حتى مع صوتها العالي وحركتها المباغتة، لم يضطرب الفرس، بل اكتفى برجفة خفيفة في رأسه كأنه يجيب، “سمعتكِ”.
كان فرسًا مدرّبًا بإتقان، قوي البنية بحيث يكفي النظر إليه ليُدرك أيّ شخص أنه جواد نفيس.
بل إن الحيوان رفع رأسه بفخر، وكأنه واعٍ لقيمته، ونفث من منخريه هواءً قوياً يعلن اعتداده.
“إنه رائع حقًا. حتى من دون امتطائه، أشعر أنه جواد مميز.”
ابتسم ليكاردو وقال بشيء من الاعتزاز:
“لن أنكر أنه جواد عظيم. أعتبر نفسي محظوظًا بالعثور عليه.”
كان ذلك جزءًا من وعده في الحفل بأن يهديها حصانًا.
رغم أن شراؤه كان في الأصل اعتذارًا، إلا أن ليكاردو وجد متعة في اختيار الجواد وهو يفكر في طولها وفي طبيعتها وفي ما يلائمها.
“يا إلهي… أعجبني بشدة!”
قالتها إيزابيلا وهي تمسح على لجامه وبدت عيناها تلتمعان.
إنه قوي البنية، هادئ الطبع في الوقت ذاته… مزيج مثالي.
أخذ ليكاردو يراقبها، وبدا على وجهه شيء من الزهو، وهو يرى ابتسامتها المشرقة تتألق بسببه.
“لكن لا تكتفي بالمظهر. جربي ركوبه، ستزدادين إعجابًا به. أنا شعرت بذلك حين جربته بنفسي.”
قالها بلهجة يملؤها التباهي، كطفل يتفاخر بدرجاته.
“أوه! جربت ركوبه فعلًا؟”
“بالطبع. لا يجوز تقديم هدية دون التأكد من جودتها.”
ضحكت إيزابيلا بخفة، وأمسكت بالسرج. لقد بدا كلامه معقولًا.
“إذن، فلن أتوانى…!”
وضعت قدمها في الركاب وقفزت بخفة، فنقلت جسدها بمهارة، واستوت على ظهر الجواد بثبات وأناقة.
“هاه! كنت قلقًا أن تجديه ضخمًا ومرهقًا، لكن يبدو أنكِ بخير!”
قالها ليكاردو بدهشة فيها مزاح، فردّت إيزابيلا بنبرة واثقة:
“أوه، أظن أنك تقلل من شأني كثيرًا. بعد فنون استحضار الأرواح، فإن ركوب الخيل هو ما أجيده أكثر! بل أظنني أفضل منك يا حضرة اللورد الصغير.”
انفجر ليكاردو ضاحكًا.
“هاهاها! غريب… في المرة السابقة قلتِ “لا أجيد سوى الركوب العادي، أما الحركات البهلوانية فلا”! ألهذا قررتِ أن تتراجعي عن كلامك؟”
“وقتها كنت حذرة في كلامي أمامك، خشيت أن أثير سوء فهم جديد.”
لم يملك إلا أن يبتسم بمرارة، وقد تذكّر سوابقه في إساءة الظن بها.
“لكن الآن… لم يعد بيننا ما يُخفى. وأنت لن تطردني بعد كل هذا، أليس كذلك؟”
“هاه؟ هل أصبحتِ مغرورة إذن؟”
ابتسمت بجرأة وقالت:
“أجلب لك المال عبر تجارتي، وأُهلك خصومك بمساعدة الأرواح العليا… أيّ نعمة أكبر من وجودي؟”
تذكّر ليكاردو ما حدث يوم الاجتماع، حين سببت هي والكونت موتكان تلك الفوضى التي كادت أن تربك المشهد.
ومع ذلك، لم يُلغَ الاجتماع.
إذ رأت القيادات أن جمع كل أولئك الوجهاء مرة أخرى سيكون أمرًا بالغ الصعوبة، فكل واحد منهم يمثّل بيتًا عريقًا لا يُتاح له الوقت بسهولة.
خاصة أنّ ولي العهد الذي حضر متأخرًا وتلقّى تقريرًا عن الوضع، أصرّ على مواصلة الاجتماع.
فقد خشي أن تأجيل الاجتماع سيكون بالضبط ما يريده فايتشي والكونت موتكان.
وكان من حسن الحظ أنّ إيزابيلا قد حدّثت ولي العهد عن مشروعها مسبقًا، فدافع عنها نيابةً عنها حتى في غيابها.
وبالتالي، لن تعترض نقابة باتوكا على صناعة وبيع أدوات الأرواح لفترة من الوقت.
كل الأمور كانت تسير بسلاسة.
وكان المستفيد الأكبر من نجاح خططها بالطبع هو بيت الماركيز ماكا.
كما قالت إيزابيلا، كانت بمثابة الحظ الجيد للعائلة.
ولكن عندما تعلّق الأمر بإيزابيلا نفسها، لم يجد ليكاردو ما يقوله أمام ثناء صريح منها:
“ألا تشعرين بالحرج وأنتِ تمدحين نفسك بهذه الطريقة؟”
أجابت إيزابيلا متأرجحة كتفيها، كما لو تقول لماذا كل هذا؟
“على الإطلاق! أنا واثقة من نفسي!”
ثم صرخت مازحة بينما أمسكّت باللجام.
“هيياا!”
وبينما دفعت الحصان النبيل الأحمر إلى الأمام، أطلق صهيلًا طويلًا قبل الانطلاق، كأنه يعلن حماسًا.
واقتحم الحصان ملعب الفروسية بأقدام خفيفة ومرتّبة، بينما ظل ليكاردو يراقبها مبتسمًا، حتى انزعج وهو يصرخ:
“أوه؟ هاي، هاي! احذري…!”
لكن إيزابيلا وحصانها تجاهلا صياحه واستمرّا في الركض.
ولم يكتفِ الركض حتى نهاية الملعب، بل قفزت إيزابيلا بحصانها فوق السياج بخفة ورشاقة مذهلة دون أي حركة زائدة.
وبعد القفز، توقفت بهدوء وراحت تنظر إلى ليكاردو المندهش:
“يا سيدي اللورد الصغير! ألا تأتي؟!”
وأضافت بابتسامة ماكرة:
“هل حقًا تجيد الركوب أقل مني؟ سمعت أن سهامك تصيب الهدف دائمًا من على الحصان، فهل كل ذلك كذب؟”
ضحك ريكاردو.
‘يا له من استفزاز لطيف وجميل!’
“انتظري هناك!”
ووافق بكل سرور، فصعد على حصانه الأسود المربوط بجانبه.
هييييع~!
وانطلق جواده الأسود مندفعًا نحو ساحة الفروسية.
قفز بخفة فوق السياج في مشهد لا يقل روعة عن قفزات إيزابيلا، ولم يبطئ من سرعته أبدًا.
“من يصل أولًا إلى شجرة القيقب خلف التل هو الفائز!”
“آه، مهلاً! كان علينا أن ننطلق معًا!”
“أنتِ من انطلق أولًا!”
لم يكن أيٌّ منهما يقل عن الآخر في المكر.
أطلقت إيزابيلا العنان لحصانها سريعًا، وانطلقت خلفه حتى تضاءل الفارق بينهما في لمح البصر.
أطلقا الغبار خلفهما وهما يمران بالحديقة وميدان الفروسية، متجاوزين البستانيين والخادمات اللواتي كن مشغولات بالعمل، حتى وصلا إلى التلة الخلفية.
كان ركضهما المفعم بالحيوية وابتساماتهما البراقة كافيًا لإضاءة أرجاء القصر كلها.
هيييييع~!
“وصلت! أنا الفائز!”
رفع ليكاردو قبضتيه إلى السماء فرحًا كالطفل.
“واو، هذا ظلم! ما الضرر لو تركتني أفوز قليلًا؟ لماذا ركضت بكل قوتك؟”
وصلت إيزابيلا بعده بعدة ثوانٍ، وأطلقت تنهيدة خفيفة معبرة عن أسفها.
“هاهاها، لقد كنتِ تلاحقينني عن قرب لدرجة أنني خشيت أن أبطئ السرعة.”
نزل ليكاردو عن صهوة جواده، وربط الحصان إلى شجرة، ثم تناول حقيبه الماء من الجلد المعلقة على السرج.
“هاه، مضى وقت طويل منذ آخر سباق كهذا.”
منذ عودته من ساحة الحرب، ظلّ يقتصر على المكتب في القصر، ولم يتح له الوقت للتمارين، لذا كان ركوبه اليوم فرصة للتمرين والانتعاش.
“حتى أنا لم أركض بهذه السرعة منذ وقت طويل.”
نزلت إيزابيلا عن الحصان، وبدأت تدير ظهرها وتمطّ جسدها، وقد كانت أول مرة تركب بحماس منذ قدومها من كومّ إلى بيت الماركيز ماكا.
مدّ ليكاردو حقيبه الماء إليها:
“اشربي.”
—
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 48"