“إيزابيلا، هل سترحلين حقًا؟ لا بأس إن بقيتِ حتى تبلغي العشرين.”
سألت المديرة العجوز، التي خطّ الشيب شعرها، بقلقٍ ظاهر.
“لقد أصبحتُ بالغة الآن. وعليّ أن أبحث عن طريقي بنفسي.”
“لو أخبرتني مسبقًا، لكنّا أقمنا لك حفلة وداع على الأقل.”
عبّرت المديرة عن أسفها، لكن إيزابيلا لم تعد قادرة على التأخير.
إذا لم تخنها ذاكرتها، فبعد أسبوع سيصل فايتشي دويتشلان إلى هذا المكان، ليغويها بكلامه المعسول ويأخذها إلى العاصمة.
وكان ذلك بداية كل المآسي.
ولن تسمح إيزابيلا بتكرار ذلك مجددًا.
“لا بأس، لقد احتفلنا بعيد الميلاد، أليس كذلك؟“
قبل أيام قليلة، أُقيمت حفلة مشتركة للأطفال الذين وُلدوا في هذا الشهر.
ورغم أن الأمر بدا بعيدًا الآن، إلا أنها ما زالت تتذكر كيف بكت بحرقة في عيد ميلادها السابق لغياب ثيو عنه.
“إن كنتِ مصممة إلى هذا الحد، فلن أُحاول ثَنيكِ بعد الآن.”
تنهدت المديرة بعمق وقد أدركت عزم إيزابيلا الذي لا يتزعزع.
“اعتني بصحتك جيدًا.”
“أنا ممتنة لكم على كل ما قدمتموه لي.”
ثم، وبكلمات وداع قصيرة، غادرت إيزابيلا.
* * *
خرجت إيزابيلا من دار الأيتام، وتوقفت قليلًا لتُنظم أفكارها قبل أن تبدأ رحلتها الطويلة.
‘الحرب ستنتهي قريبًا، لكن ثيو لن يعود على الفور.’
كان هناك عدد من الأبطال الذين قادوا الإمبراطورية نحو النصر، وكان ثيو أحد أبرزهم.
وقد كانت إنجازاته عظيمة إلى حد أن الإمبراطور نفسه اعترف بها.
ولكي يستلم الذهب والكنوز والألقاب التي منحه إياها الإمبراطور، توجّه ثيو إلى العاصمة، لكنه تورط هناك في أحداث عديدة أجبرته على البقاء أكثر مما كان متوقعًا.
‘إن أردتُ لقاء ثيو، عليّ الذهاب إلى العاصمة.’
وكان ذلك أسرع وسيلة لرؤيته مجددًا.
‘لكن قبل ذلك، عليّ أن أقطع خيوط فايتشي.’
في الوقت الحالي، لم تكن إيزابيلا سوى فتاة من عامة الشعب، بلا مال ولا حماية.
والتوجه إلى العاصمة دون استعداد سيكون أشبه بالدخول إلى معقل فايتشي بلا درع.
‘لو أنني عدتُ بالزمن ثلاثة أشهر إضافية فقط، قبل أن ألتقيه لأول مرة…’
لكن للأسف، لقاؤها الأول مع فايتشي قد وقع بالفعل قبل ثلاثة أشهر.
وكانت شبكته المحكمة قد بدأت تُحكم قبضتها. واختفاء الرسائل لم يكن سوى طرف الخيط.
‘أحتاج أولًا إلى قوة تحميني.’
وضعت إيزابيلا يدها على صدرها، وأخذت تتحسس ببطء طاقتها الداخلية.
لقد وُلدت بقدرة فطرية على التآلف مع الأرواح، وما زالت هذه القدرة موجودة بداخلها. لكن جسدها الصغير لم يكن معتادًا بعد على استخدام هذه الطاقة.
ويبدو أن استدعاء الأرواح العليا ما زال صعبًا في الوقت الحالي.
لكن ما فاجأها حقًا كان أمرًا آخر.
‘هل يمكن أن أكون واهمة…؟‘
كان هناك أمر غير طبيعي.
ولتتحقق من إحساسها، تسللت إلى زقاقٍ ضيق وخالٍ من الناس، تأكدت مرتين وثلاثًا من أنها وحدها، ثم مدت كفّها إلى الأمام.
“نووم، تعال.”
انبثقت قوة من أعماق جسدها، صعدت عبر ذراعها والتفّت حول كفّها كدوّامة.
ثم ظهر فوق يدها كومة صغيرة من الرمال الذهبية، سقطت بثقل خفيف.
لقد كان “نووم“، روح الأرض من المستوى الأدنى.
رفع نووم، الذي ظهر فجأة، نظره إليها بدهشة.
كان في هيئة هامستر لطيف المظهر، لكن رغم شكله البريء كان يملك من القوة ما يكفي لهزيمة ثلاثة أو أربعة رجال أشداء.
وسرعان ما بدأ يصدر أصواتًا فرحة، صاعدًا على ذراعها، يتنقل من كتفها إلى رقبتها بحيوية.
كان يبدو مسرورًا جدًا لرؤيتها.
“هل ما زالت الأرواح التي عقدتُ معها العقود موجودة بالكامل…؟“
“تشيك! تشيك!”
هز نووم رأسه بقوة وهو يحتكّ بعنقها، كما لو كان يجيب بالإيجاب.
‘هل الأرواح لا تتأثر بعودة الزمن؟‘
بما أن نووم تعرّف عليها، فهذا يعني أنه ما زال يحتفظ بذكرياته من الحياة السابقة.
رغم أن جسدها عاد فتيًا، وأصبحت غير ماهرة في استخدام قدرتها، فإن الأرواح التي عقدت معها العقود من قبل ما زالت معها.
شعرت إيزابيلا وكأنها تلقت هدية غير متوقعة في عيد ميلادها.
فأصعب ما في فن استحضار الأرواح هو الاستدعاء الأول والعقد.
فحتى لو كانت روحك متآلفة جدًا، إن لم تُجبك الأرواح عند النداء قد لا تتمكن من عقد أي عهد.
لكنها كانت تملك عقودًا محفوظة مع أرواح من المستوى الأعلى أيضًا، راسخة في أعماق جسدها.
لم يكن هناك ما يمنعها من التوجه إلى العاصمة الآن. بل على العكس، كانت تشعر وكأنها تسبق الجميع بخطوة.
“اختفِ.”
أخفت إيزابيلا نووم أولًا.
أصبح نووم شفافًا بحيث يمكنها رؤيته، لكن لا يراه الآخرون.
[هل يمكنك أن تتسلل تحت الأرض وتتفقّد المنطقة من حولي؟]
نقلت إيزابيلا الأمر عبر أفكارها بصمت، دون أن تُصدر صوتًا.
[لا بد أن هناك من يتعقبني، أريدك أن تربكه دون أن يشعر بوجودك.]
لم يكن من المنطقي أن يغمض فايتشي عينيه عنها، وقد قرر أن يجعلها ملكًا له.
تلك العيون التي زرعها لمراقبتها لا بد أنها كانت ترفع إليه تقارير دقيقة عن كل صغيرة وكبيرة فعلتها خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
[تشيك!]
وغاص نووم في الأرض بخفة.
وبعد برهة، شعرت بطاقة تتحرك من مكان قريب.
”أغغ…”
وصل إلى مسامعها صوت أنين خافت لرجل، لا يبعد كثيرًا عن مكانها.
فارتسمت ابتسامة ماكرة على طرف شفتي إيزابيلا.
‘حسنًا… هلا نبدأ لعبة الغميضة؟‘
حتى إن تم التبليغ عن مغادرتها “كوم“، فقد خططت ألا يعرف أحد وجهتها.
ثم…
“ما هذا؟! أين ذهبت؟!”
تأخر الحارس في إخراج قدمه التي علقت في الأرض التي انهارت فجأة، وبسبب ذلك أضاع اللحظة التي اختفت فيها عن ناظريه.
* * *
في الوقت ذاته.
في قاعدةٍ عسكرية تقع على الحدود الجنوبية الغربية لإمبراطورية دويتشلان، كان اليوم مختلفًا في هدوئه.
ولا عجب في ذلك، فقد شارفت الحرب الطويلة على نهايتها.
وكان معظم الجنود مستمتعين بلحظة السلام النادرة التي حلّت أخيرًا.
لكن ذلك لا يعني أن الجميع استسلم للاسترخاء والكسل.
تشنغ!
اصطدم سيفان ببعضهما، ليعلو صوت المعدن الحاد شاقًا الهواء.
كلاك!
بضربة واحدة مشحونة بالقوة، أطاح ثيو بسيف ليكالدو، الذي طار بعيدًا في الهواء.
طن! طانغ…
نظر ليكالدو للحظة إلى سيفه المُلقى على الأرض وهو يُصدر رنينًا خافتًا.
“هاه…!”
التقط أنفاسه ببطء.
“أنت تدفع بكل قوتك دون هوادة، كما لو كنت تحمل شيئًا على قلبك.”
كان يتذمر وهو يدير معصمه الذي تأذى قليلًا عند فقدانه السيف.
لم تكن الهزيمة ما يزعجه حقًا، بل أمر آخر تمامًا.
“ذهنك مشوش جدًا اليوم.”
قالها وهو ينظر إلى ثيو، الذي كان يقبض على مقبض سيفه بقوة مبالغ فيها.
كان من المعروف أن ثيو يملك موهبة طبيعية في القتال، موهبة لا تليق فقط بالوحدة الطبية التي كان يعمل فيها، بل تتعداها.
سرعته، وذكاؤه في التحرك، جعلا ليكاردو يرشّحه لمنصب نائب قائد فرقته، وكان يستمتع بمبارزاته معه بين حين وآخر.
لكن اليوم، بدا ثيو وكأنه شخص آخر.
“هل هناك ما يزعجك؟“
حركاته المرتبكة ونظراته المشتتة كانت كفيلة بكشف ما بداخله.
“لا، لا شيء.”
أجاب ثيو بصوته العميق الرزين، الذي بدا متناغمًا تمامًا مع قسمات وجهه الحادة وبشرته البرونزية.
تقطرت قطرات العرق على طول خصلات شعره الأزرق الداكن المصقول، بينما ظلت عيناه الزرقاوان تحدّقان بالأرض بصمتٍ عميق.
كان يحمل هيبة جدية، وتعبير وجهه الصارم أضفى على ملامحه شيئًا من الشراسة.
“قلت إنه لا شيء، لكن ملامحك تقول العكس.”
عرف ليكاردو جيدًا أن ثيو يملك عادة سيئة: الإدعاء بأن كل شيء على ما يرام، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
“ألا يُقال إن البوح يقلل من ثقل القلق؟ هيا، تكلّم. ما الذي يشغل بالك؟“
قالها بينما انحنى ليلتقط سيفه عن الأرض.
لكن ثيو لم ينبس ببنت شفة، واكتفى بتحريك شفتيه دون صوت، كأن الكلمات عالقة في حلقه.
فواصل ليكاردو كلامه، بعد أن فهم الأمر.
“إنها تلك الفتاة، أليس كذلك؟“
فكلما اضطرب ثيو على هذا النحو، كانت الأسباب دومًا واحدة.
حبيبته، التي تركها خلفه في الوطن.
“اسمها كان… إيزابيلا، صحيح؟“
وما إن نطق باسمها، حتى ارتجفت كتفا ثيو العريضتين بوضوح.
“أرهقك انقطاع رسائلها، أليس كذلك؟“
ولم يكن بحاجة إلى إجابة، فالخمود الذي عمّ عيني ثيو قال كل شيء.
انقطاع الرسائل من الأحباء في أرض الوطن كان أمرًا شائعًا بين الجنود، خاصة في خضم الحروب.
“ومع ذلك، أنتما صمدتما طويلًا مقارنةً بالكثيرين. لا تبالغ في القلق.”
لقد انقطعت خطوبة البعض تمامًا، لذا كانت علاقة ثيو وإيزابيلا تُعدّ من العلاقات النادرة التي استمرت طويلاً.
بل إن البعض في المعسكر تمتموا ساخرين: “هل سيستطيع ثيو الإفلات من لعنة الفراق؟“
لكن ثيو كان مختلفًا.
“رغم كل شيء، لا أرى أي سبب يجعلها تتوقف عن الكتابة فجأة.”
“…….”
“لقد راجعت كل رسائلها من البداية، لم ألمح أي إشارة إلى شيء غير معتاد.”
كان مقتنعًا أن هناك سببًا خفيًّا.
فهي لم تكن من النوع الذي يقطع التواصل هكذا دون سابق إنذار.
“ثيو…”
ناداه ليكاردو بصوت منخفض يحمل أكثر من معنى، فخفض ثيو رأسه ببطء.
“ما زلت أستطيع رؤية ملامحها بوضوح كما كانت في يوم الرحيل.”
قالها وهو يستسلم لذاكرته، وعيناه تغوصان في عمق ذلك المشهد القديم.
* * *
قبل عامين فقط، كان كل من ثيو” وإيزابيلا يعيشان حياة هادئة، ويحلمان بمستقبل مشرق معًا.
لكن كما هو الحال دائمًا، تأتي المصائب دون سابق إنذار.
“بأمر من جلالة الإمبراطور، يجب على كل بيت أن يرسل على الأقل رجلًا بالغًا إلى الجبهة!”
اندلعت الحرب.
تحالفت ممالك الجنوب مع البرابرة، وبدأوا اجتياح الأراضي الإمبراطورية من البحر والبر معًا.
الإمبراطورية، التي اعتادت على السلام، دخلت في حالة من الفوضى.
وجرى تجنيد الرجال بشكل عاجل لتكوين جيش جديد.
سارع النبلاء بالتطوع، إما طمعًا في المجد، أو حفاظًا على سمعة أسرهم.
أما العامة، فقد سُحب أغلبهم قسرًا نحو الحرب.
ولم يسلم دار الأيتام في “كوم” من هذا المصير، فكان من بينهم ثيو الذي بلغ الثامنة عشرة لتوّه، وجرى تجنيده دون اعتراض.
“عُد إلينا ظافرًا!”
قالتها إيزابيلا يوم وداعه، وهي تحاول الابتسام بكل ما أوتيت من قوة.
لكن دموعها، التي تراكمت في عينيها، فضحت ما أخفته شفتيها المرتعشتان.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"