كان ذلك قبل ثلاث سنوات. غير أنّ الحديث الجاد عن إنشاء الأكاديمية لم يبدأ إلا مؤخرًا.
فقد تعمّد هارسيز أن يطرح المسألة علنًا مع إيزابيلا في مجلس رسمي، بحيث يصل الخبر إلى آذان الجميع.
ومع أنّ الشكوك كانت قائمة منذ زمن، إلا أن سببها كان نقل عاصمة الدوقية.
فمع سقوط المملكة اندثر معها نظام العبودية. وبعض النبلاء نجحوا في الهرب إلى المنفى، لكن كثيرين لم يسلموا من العقاب.
وفي خضمّ تلك التغيّرات، أعلنت إيزابيلا أنها لن تستخدم القصر الملكي القديم.
فذلك المكان، الذي لم يكن يختلف عن مستنقع قذر، لا يمكن أن يكون أساسًا لدوقيةٍ تريد بدايةً جديدة.
ولهذا اختارت موقع العاصمة الجديدة قريبًا على نحو لافت من إقطاعية دوقية لُويد التابعة للإمبراطورية، لا سيما أنّها ملاصقة لحدود المملكة السابقة.
وبسبب ذلك، شاع القول إنّ ذريعة “البداية الجديدة” ما هي إلا حجة واهية، غير أنّ الموقع الجغرافي الجديد كان بالفعل مميزًا.
ومن هنا، كان أمر القصر الملكي القديم محطّ اهتمام الناس بقدر ما كان موقع العاصمة الجديدة.
فمنهم من قال: ينبغي تحويله إلى أرض مُهملة. ومنهم من اقترح جعله سجنًا. وآخرون تمنّوا تحويله إلى متحف، أو حتى تركه مهجورًا.
وبينما كانت الآراء تتضارب، شرعت إيزابيلا فجأة في ترميم القصر، من غير أن تفصح عن الغاية.
وهكذا تسرّبت الأخبار شيئًا فشيئًا عن الأكاديمية.
وبالطبع وصلت الأنباء إلى مسامع السحرة الذين حُوكِموا أو تشرّدوا بعد أن فقدوا أوطانهم.
قال بعضهم بامتعاض، وهم في مواجهة إيزابيلا وجوشوا:
“أفي أكاديمية تحظى باهتمام القارة كلها، لا الإمبراطورية وحدها، ستجعلون أمثالنا من المجرمين أساتذة؟”
ثم عبسوا قائلين:
“أهذا ما تسمونه إصلاح العلاقات؟ لا نرى فيه سوى جعلنا هدفًا سهلاً لهجمات الجميع.”
ابتسمت إيزابيلا بعينين متسعتين بدهشة وقالت:
“هجمات؟ بل الحماية التي تمنحها الأكاديمية ستكون لكم خير سند.”
ثم تابعت معترضة على توصيفهم:
“وكلمة مجرم قاسية للغاية. فالمدبّرون الحقيقيون قد عوقبوا جميعًا. أما أنتم، ألستم ضحايا أيضًا؟”
عندها لاذ السحرة بالصمت، إذ كان كلامها صائبًا.
فالمتورطون مباشرةً في الأحداث حوكموا أو نُفِّذ فيهم الحكم، أما هؤلاء فما كانوا سوى مشرّدين لفظتهم القارة لمجرد أنهم سحرة.
قال أحدهم ساخرًا:
“أترانا في نظرك بائسين؟”
فأجابت بخفة وصدق:
“نعم.”
فقالوا بدهشة:
“صراحتكِ زائدة!”
فابتسمت:
“ألا يعجبكم التعاطف؟”
“ما لا نفهمه هو أن ترهقي نفسك بالشفقة علينا.”
قالت وهي تميل برأسها:
“أرهق نفسي؟ كيف ذلك؟”
“أليس كل حديث إصلاح العلاقات ذريعة؟ ما تفعلينه حقًا هو أن تؤوينا.”
وأشاروا ببرود إلى العقود الموضوعة على الطاولة، وكأن في الأمر امتهانًا لكرامتهم.
فأخذت إيزابيلا العقد وقالت تتصفّحه:
“تقولون إيواء؟ انظروا: لا أجور، عقد مدته خمس عشرة سنة، شرط إلغاء رخصة السحرة إن لم تحققوا النتائج المطلوبة كل عام!”
ثم ضحكت ساخرة وهي تضيف:
“وفوق هذا لا يُسمح لكم بالبحث الحرّ ولا بمغادرة المنطقة المحددة.”
وأخيرًا وضعت العقد أمامهم وقالت:
“فليكن، فاعتبروه إيواءً إن شئتم.”
ضحك السحرة بخفوت وقد بدت عليهم السخرية، ثم تناولوا العقد ليتفحّصوه:
“صحيح لا أجور، لكن هناك مكافآت، والسكن والطعام مضمونان طيلة خمس عشرة سنة.”
“والبحث؟ مع أنه غير حرّ، لكن بشرط مشاركة الطلاب تُغطّى النفقات كاملةً!”
فضحكوا غير مصدقين:
“إن لم يكن هذا عقدًا صيغ حقًا من أجلنا، فلعلك يا سيدتي لم تفهمي طبيعة السحرة.”
فالسحرة أصلًا لا يغادرون أبراجهم إلا لزيارة عائلاتهم أو لأبحاث مرتبطة بالعلم. فقيود التنقّل لا تعنيهم.
أما الأجور فستُصرف على الأبحاث، والمهم أنّ موارد التمويل ستبقى متاحة لكل ما لا يمتّ إلى السحر المحرّم بصلة.
ومع تأمين الطعام والمسكن، لن يحتاجوا إلى أعمال جانبية تكدرهم، بل يصفّون ذهنهم للسحر.
وفوق ذلك كله، لم يكن في وسعهم من قبل أن يربّوا خلفاء جدداً بسبب سطوة الإمبراطورية التي تقدّم فن استحضار الأرواح على السحر.
أما الآن، فستُجمَع المواهب من كل صوب، فينتقون منها ويعلّمون وينشرون السحر من جديد.
أيّ ظلمٍ في هذا إذن؟ لقد كان العقد في صالحهم على نحو لم يتوقعوه.
فقالت إيزابيلا باسمة:
“إذن أنتم لا تفهمون. حسنًا، لنتعايش إذن بروحٍ أفضل حتى نفهم بعضنا أكثر.”
كانت ابتسامتها متكلفة، لكن السحرة لم يكرهوها.
فإصلاح العلاقة مع مستحضري الأرواح؟ نعم، ذلك عسير. وربما ظلّت فكرة “الأرواح قبل السحر” عقبةً راسخة في أذهان الإمبراطوريين.
لكن ما دامت إيزابيلا الأميرة المخفية وأعظم مستحضرة للأرواح في القارة تتبنّى قضيتهم وتعلن الإصلاح، فلا بدّ أن هناك أملاً.
ثم قالت لهم بابتسامة ماكرة وهي تنقر بأصابعها على العقد:
“ثم إنه ليس لكم مكان آخر سوى الأكاديمية.”
ضحك السحرة، وقال أحدهم:
“بهذا التهديد لا بد أن نوقّع.”
فأجاب آخر:
“فلنُحدِث معًا ضجّة كبيرة.”
فقالت إيزابيلا بارتياح:
“خيار صائب.”
وما إن أنهت كلامها حتى وضع جوشوا نسخ العقود أمام كلّ واحد منهم، مبتسمًا ابتسامة ماكرة لا تقلّ خبثًا عن ابتسامة إيزابيلا.
***
بعد أن أنهى السحرة توقيع العقود وغادروا بحجة أنّ عليهم الاستعداد للانتقال، تنفّست إيزابيلا الصعداء ولم تُرخِ جسدها إلا بعدما جاءها تقرير يؤكد أنهم غادروا القصر.
قالت وهي تنهيدة طويلة تفلت من صدرها:
“هاااه… ظننت أنهم سيرفضون، وقد أرهقني ذلك.”
نظر إليها جوشوا وهي تتدلّى بكسل على الأريكة، فابتسم ساخرًا وهو يضع العقود في الملف:
“مع أمثالهم، لا يمكن أن يتجاهلوا هذه الشروط. لا بد أنها بدت لهم مغرية كالمعارف المحرّمة.”
تمتمت إيزابيلا وهي ترفع فنجان الشاي الذي صبّته لها الوصيفة من جديد:
ــ “أما أنا، فلم أفهمهم قط.”
ثم ابتسمت قائلة:
“أظن أنني أحسنت إذ تركت الأمر بين يديك يا سير جوشوا.”
“ذلك شرف لي.”
وبينما كان يجمع بعض الأوراق الأخرى بعد فراغه من العقود، توقف عند دفتر حسابات ضخم، وحدّق فيه لحظة قبل أن يقول بجدّية:
“لكن… هل أنتِ واثقة من أن هذه الأموال تكفي؟”
كان سؤاله على هيئة استيضاح، غير أن تعبيره الخالي من الابتسامة دلّ على قلقه.
“الأموال الطائلة صُرفت بالفعل على إعادة إعمار الدوقية. حتى هذا القصر لم يُبنَ بعد نصفه…”
كانت أراضي المملكة السابقة التي صارت دوقية تحتاج إلى إعادة إصلاح من الجذور، وهو ما التهم أموالًا بلا حصر.
صحيح أنهم استنفدوا خزائن المملكة القديمة وتلقّوا معونات من الإمبراطورية، لكن إطلاق مشروع أكاديمية بدا أمرًا فوق طاقتهم.
قالت إيزابيلا وهي تماطل بالجواب:
“قلت لك من قبل، الأكاديمية والدوقية شيء واحد في نظري. فالمال الذي يُصرف هناك يصبّ في مصلحة الدوقية.”
غير أن جوشوا أطلق تنهيدة ثقيلة:
“الماركيز ليكاردو ودايفيد وثيو… جميعهم غارقون في القلق. وأنا بما أنني أقف إلى جانبكِ وأتولى الشؤون الإدارية مباشرة، أعرف أكثر من أي أحد حجم المبالغ التي تبتلعها الأكاديمية.”
ثم أضاف بنبرة مشوبة بالدهشة:
“حتى إدوارد نفسه يسألني أحيانًا، هل أنتم بخير من الناحية المالية؟”
قهقهت إيزابيلا وقالت:
“إذا كان اللورد إدوارد وصل إلى هذا الحد من القلق، فلا بد أن الموقف بدا خانقًا حقًا.”
ثم تابعت بثقة وهي تقضم قطعة حلوى:
“لكن لا تقلقوا. عندي الكثير من المال. لا أقولها جزافًا، بل حقيقة.”
وأضافت مازحة:
“إن لم تصدقوني، فاسألوا شان.”
كانت طمأنينتها تلك قائمة على يقين أن ما يخشاه الجميع لن يحدث.
***
‘شان، أحتاج مساعدتك.’
السبب الحقيقي الذي جعل إيزابيلا تبحث عن كاساندرا لم يكن سوى المال.
‘رغبتي في إنشاء الأكاديمية عظيمة، بل إنني وضعت خطة متكاملة في رأسي، حتى أسلوب الإدارة والطاقم اللازم فكرت فيهم جميعًا. لكن…’
قاطعتها كاساندرا بهدوء:
‘لكن الأمر يحتاج إلى المال. هكذا هي الأمور دائمًا.’
‘صحيح.’
‘أتفكرين في الاقتراض إذن؟’
‘ألَا يمكن؟’
‘إذا اعتمدتِ على القروض كلها، فمتى ستسددينها؟ أتريدين إدارة أكاديمية تقوم على الديون؟’
عندها أصدرت كاساندرا صوت امتعاض وهي تنقر بلسانها.
‘ثم إنك رفضتِ أصلًا أن تتلقي دعم النبلاء، ما عدا الإمبراطور نفسه.’
‘نعم. لأنني أريد إدارة نزيهة حقًا.’
فبما أنّ الغاية من تأسيس الأكاديمية هي “التعليم”، فقد كان العدل في المعاملة بين الجميع أمرًا جوهريًا. ولن يتحقق ذلك إذا دارت مبالغ طائلة في الخفاء.
لكن في المقابل، كانت أزمة المال قائمة، وهي التي تُثقل خطط إيزابيلا أكثر من أي عائق آخر.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 141"