اقتاد ثيو جيش الإمبراطورية ودفع به نحو العاصمة دون أن يضيع الوقت.
وكانت العملية أيسر مما ظنّوا، وذلك بفضل ثورة الثوار الذين أعانوهم.
فقد كانوا قد ثاروا طمعًا في سقوط الأسرة المالكة والنبلاء، غير أنهم لم يكونوا تنظيمًا منضبطًا، ولم يتسنَّ لهم أن يضعوا خطة متقنة.
ولعل ذلك ما جعلهم حينما مدّت الإمبراطورية إليهم يد التعاون، يهرعون هم أنفسهم ليمسكوا بها طالبين العون.
قالت إيزابيلا:
“كنت أظن أنهم سيدافعون عن موطنهم في النهاية.”
لكن ظنّها خاب.
ففي حين كان جيش الإمبراطورية وقد نصب معسكره في الساحة الفسيحة خارج العاصمة يتحرك بانضباط صارم، بدا أبناء المملكة المتطوعون لمساعدتهم في حال من التخبّط والارتباك.
فقال إدوارد، وقد عاد بعد أن ترك كلامها جانبًا:
“لا بد أنّ آنستي لم يسهل عليها إدراك مدى غضب أبناء المملكة. فكثيرون منهم يتمنون لو انهارت هذه المملكة البائسة. فالقصر مضطرب، ولا يوجد نبيل يؤتمن، والعامة والعبيد ليست لهم قوة يُعتدّ بها.”
وقد كان إدوارد نفسه متحمسًا لهدم القصر، إذ وجد أن مشاعره تلتقي مع مشاعرهم.
بل لقد صار شائعًا بين أبناء المملكة أن يتبادلوا القول ساخرين: “ليت نيزكًا يسقط من السماء فيمحو هذا كله.”
قالت إيزابيلا بأسى:
“حقًا إنه أمر مؤسف.”
ومع أنّ شعب المملكة أحوج ما يكون إلى من يرعاه، كان الأمير لا يشغله سوى افتعال العداوة مع الإمبراطورية.
فقال إدوارد:
“ألم أفرّ بحياتي لأجل ذلك؟ وقد كان ذلك سبب لقائي بسيدتي.”
فابتسمت إيزابيلا تسأله:
“وهل تنوي حقًا أن تظل تناديني سيدتي؟”
فأجاب ببساطة:
“أنتِ سيدتي.”
قالت بحدة خفيفة:
“ومتى صرتُ أنا سيدتك؟”
“أنتِ سيّدة سيفي، وبالتالي أنتِ سيدتي، أليس كذلك؟”
ولما نظرت إليه إيزابيلا بعينين فيهما شيء من الانزعاج، حكّ إدوارد رأسه قائلًا:
“الكلمة جرت على لساني من شدّة ما ألفتها.”
فقالت وهي تتنهّد:
“ألا ترى أن الأفضل أن تكف عن استخدام لفظ كنتَ تستعمله وأنت عبد؟”
أترى أنّه صار أقوى قلبًا حتى لم يعد يتأثر بما يقوله؟ إن كان كذلك، ففي ذلك ما يسرّها من وجه آخر.
“هل يضايقك الأمر؟”
“طبعًا، فالكلمة ليست شائعة الاستعمال في الإمبراطورية. هناك ‘آنستي’ أو ‘سموّك’ أو ‘حضرتك’، أما ‘سيدتي’ فلا.”
حتى في حياتها السابقة، حين كانت مع فايتشي، لم تسمع أحدًا يناديها بها.
ثم فكر إدوارد قليلًا وقال:
“فلنجعل الأمر على هذا النحو إذن.”
قالت باستغراب:
“كيف؟”
“كفّي عن مخاطبتي بلهجة الاحترام، فإذا صرتِ تتحدثين إليّ ببساطة، فلن أضطر أنا إلى أن أناديكِ سيدتي. فالمسألة تبدو غريبة حقًا.”
فقالت بلهجة فيها مزاح:
“عجيب أن تكون تفكر في كل هذا وأنت تتحدث معي بكل بساطة.”
فأخذ يفرك عنقه خجلًا وهو يقول:
“لكنّكِ أميرة… سـ….”
فضحكت إيزابيلا في سرّها من تردده حين أعاد إضافة لاحقة الاحترام، وكان ذلك يليق بإدوارد حقًا، حتى إنها لم تمانع في الاستماع إلى ما يريد قوله.
“لكن أليست لهجتكِ أيضًا يجب أن تكون أكثر علوًا وفوقية؟ أليس من الطبيعي أن تعتادي على إظهار مكانتكِ؟”
فسكتت إيزابيلا، إذ كان كلامه صائبًا.
فهي حقًا لم تستطع أن تتقبّل كونها أميرة بعد.
عقلها يعي ذلك، لكن قلبها وجوارحها لم يعتد عليه بعد.
ولذلك كانت تكرر على مسامع الجميع: “نادوني صديقة، وتعاملوا معي ببساطة.” وحين أبدت شيئًا من الضيق المبالغ فيه من المخاطبات الرسمية، صاروا يعاملونها كما اعتادوا.
وحتى ولي العهد هارسيز تغاضى عن ذلك، لأنها لم تُعترف رسميًا بعد كأميرة.
لكن الجميع كانوا يدركون أنّ الأمر لا بد أن يتغيّر يومًا ما.
فإن رفضت إيزابيلا مقعدها كأميرة، فلن يغيّر ذلك من حقيقة أنها من سلالة العائلة المالكة.
لم يكن المطلوب أن تنبذ صداقاتها، فيمكنها أن تمزح معهم وتحادثهم ببساطة حين يكونون وحدهم.
لكن كل ذلك كان قائمًا على قاعدة واحدة: أن تُحترم كأميرة قبل كل شيء. أن تكون صديقة لا يعني أن يُتجاوز حدود اللباقة.
وهذا بالضبط ما كان إدوارد يلمح إليه.
فلقد كانت غريبةً عن حقها، لا تطلبه ولا حتى تستمتع به، مع أنه ليس استعمالًا للسلطة بقدر ما هو اعتراف بها.
قال إدوارد وهو يتردد كيف يعبّر:
“لقد عشت حياتي وأنا أتحسس الخطى… وأرى أنك تفعلين الشيء نفسه بطريقة غريبة.”
“……”
بسبب ملامح إيزابيلا التي لم يظهر عليها شيء يمكن قراءته، تردّد إدوارد إن كان عليه مواصلة الحديث أم لا. لكنه كان يعلم أنّه إن لم يسأل الآن فلن تتكرر له الفرصة.
“لماذا تراقبين وجوهنا بهذا الشكل؟”
أطلقت تنهيدة صغيرة من بين شفتيها، إذ أصاب سؤاله كبد الحقيقة.
“تقلقين لأجلنا من غير داعٍ، وتضحّين بنفسك في كل مرة من أجلنا.”
تفهمتُ أنكِ تحمين ثيو لأنه الرجل الذي تحبينه، فهذا طبيعي. لكن البقية؟
ألقت بنفسها في منجم آيل للسقوط كي تُنقذ ليكاردو، وأصيبت ساقها إصابة بالغة. ومع ذلك لم يخرج من فمها عتاب واحد. بل إنها ساعدته ليستدعي روحًا عليا.
كما أنها نسبت الفضل إلى كاساندرا في مشروع أُقيم أساسًا على قدراتها هي، ولم تأخذ لنفسها شيئًا من المجد.
وأنا نفسي… لقد أنقذتني. قادت الجميع لتخليصي، ومنحتني الاعتراف الحقيقي كفارس.
فقال إدوارد، وهو يقطّب:
“مهما كنتِ إنسانة معطاءة، فما تفعلينه ليس نبعًا متدفقًا بلا نهاية، إنكِ فقط تعطين وتوزعين دون حساب… لستِ مغفلة حتى يكون هذا مقبولًا.”
ثم شهق متراجعًا:
“الكلمة الأخيرة… اسحبيها من كلامي.”
لقد انطلق في الحديث كفرس جامح، فانزلقت كلمة غير لائقة من بين كلماته، فسارع إلى التفل كمن يتخلص منها.
ثم استجمع نفسه وقال:
“قصدي أنّكِ تعطيننا الكثير من القلق والرعاية والاعتراف….”
صحيح أن الجميع أعانوها، لكن دورها كان الأكبر في القبض على فايتشي. ولولاها لسقطت الإمبراطورية في قبضة الإمبراطورة وفايتشي.
ومع ذلك لم تُبدِ ملامح كبرياء ولا تعالٍ، بل كانت دائمة الحذر والاهتمام.
“لكن لماذا لا تعاملين نفسكِ بالمثل؟”
شعرت إيزابيلا وكأن ثقلًا يهوي في صدرها مع سؤاله هذا.
لماذا تراقب ردود الآخرين ولا تكترث بنفسها؟ لماذا تنسب الفضل إليهم وترفض الاعتراف بفضلها؟
لم يكن مجرد حياء أو تواضع، بل كان رفضًا صادقًا لأن يعود إليها أي مجد. لم تفكر إلا في أن تعطي أكثر، أن تحميهم حتى لو كان الثمن أن تُبخس هي نفسها.
لقد انغرست في نفسها عادة التضحية، تمامًا كما فعل بها فايتشي طويلًا.
‘ثمة طرق كثيرة غير أن تُضحّي بنفسك.’
عندما قال ثيو هذه الكلمات لأول مرة، أقنعته بأن الأمر تكتيك لا بد منه. تشاجرا ثم تصالحا، لكن جوهر الأمر لم يتغير.
كانت تفضّل أن تُصاب هي على أن يتأذى غيرها، فهذا أهون على قلبها.
‘لطالما تساءلت، لماذا تحاولين حمل كل شيء وحدكِ؟ منذ عرفتكِ وأنا أراكِ وكأنكِ مطاردة من شيء خفي، تعيشين في استعجال.’
حين سمعت كلام كاساندرا، أدركت أنها مشدودة أكثر من اللازم إلى ماضيها. فقررت أن تركّز على الحاضر، وتوقفَت كوابيسها عن ملاحقتها.
لكن انقطاع الكوابيس لم يُمحِ الظلام الذي ظلّ جاثمًا في داخلها.
‘أن يُصيبكِ السهم لم يكن ضمن الخطة أصلًا، أما سقوطك عن الجرف… فأي استعراض هذا؟! أرجوكِ في مثل هذه الأمور حدّثيني مسبقًا، أتفقنا؟’
ومع ذلك، كان أول حل يتبادر إلى ذهنها في المواقف الحرجة أن تُصاب هي. رأت أنّ هذا أسهل وأضمن طريق.
ظنت أنها تخلصت من ماضيها، نفضته خلف ظهرها، لكنها لم تُدرك أن آثار استغلال فايتشي الطويلة قد حفرت نفسها عميقًا في روحها.
فقد اعتادت أن تضع نفسها تلقائيًا في خانة الضحية ضمن أي خطة.
واعتادت ألا يُنسب إليها الفضل مهما فعلت.
وفوق ذلك، عاشت حياتها السابقة كلّها تحت عيون تمقتها وتزدريها.
حتى بعد أن صارت لهم صديقة الآن، لم تبرح ذكريات ذلك الماضي ذهنها.
ربما كانت تخشى أن تتخلى عن حذرها فيعودون إلى كرهها من جديد.
لو أنها عانت الإهانة المباشرة مثل إدوارد، لربما استطاعت مواجهتها. لكنها منذ البداية خضعت لإعادة تشكيل فكرية على يد فايتشي.
سنوات طويلة ظلّ يلوّث عقلها، يشككها في نفسها ويُحطمها معنويًا.
ومع السحر الذي أُقحم فوق ذلك، ضاعت بصيرتها وانهارت قدرتها على الحكم.
ومهما عادت إلى الماضي بجسد قوي وعقل صافٍ، فإن ندوب النفس لم تمحُ.
“آه…”
تنهدت إيزابيلا وأحنَت رأسها وهي واضعة أصابعها على جبينها الذي أخذ يسخن.
‘عدوي الحقيقي ليس فايتشي الحاضر، بل أشباحه الراسخة في رأسي.’
لم تكن تدرك حتى الآن أنّ مشكلتها هي انعدام تقديرها لذاتها.
قال إدوارد بتردد:
“هل كنتُ فظًا بسؤالي؟”
غريب أن يكون هو من لفت نظرها. ربما لأنه عاش على النقيض منها تمامًا.
هي عاشت بذراع فايتشي اليمنى حياة ظاهرها رغيد، لكن في عزلة قتلت احترامها لنفسها.
أما إدوارد، فعاش حياة مقهورة، لكنه تشبث بإيمانه بنفسه وصان كرامته.
“ثم إنني لست الوحيد الذي يرى هذا. جوشوا ودايفيد أيضًا يفكران الشيء نفسه.”
وسيلاحظ الآخرون الأمر عاجلًا أم آجلًا.
وبينما كان إدوارد يحك خده في حرج كمن يخشى أن يكون قد تجاوز، رفعت إيزابيلا رأسها وقالت بهدوء:
“لأنكم غالون عليّ.”
***
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات