صحيح. لقد قضيت حياتي كلها أحاول أن أفرّ من ذاك المكان، فمنذ لحظة ولادتي كنتُ أُداس كمن هو أوضع من الحشرات.
تسعٌ وعشرون سنة طويلة قضيتها في ذاك الجحيم، حتى خُيّل إليّ أنّ أن أموت بعضَّ لساني خيرٌ من أن أعود إليه.
“غير أنّه…….”
خفض إدوارد رأسه، وقد انصبّ بصره على الخاتم الذي يطوّق إصبعه.
“هذه التفاهة ليست بالأمر المهم.”
أطلق ضحكةً قصيرة ساخرة.
كم كان مثيراً للشفقة ذلك الماضي حين ظنّ أن خاتمًا فحسب يكفي لينتزع نفسه من ماضيه كعبد.
“لقد أدركت أخيراً الآن.”
رفع رأسه مبتسمًا. ورغم أنّ ما بين حاجبيه يشي بالألم، فإن ابتسامته الصغيرة حملت راحةً خالصة.
“ليتن الحرية رفيقك.”
قالها وهو يواجه عيني إيزابيلا دون أن يشيح بنظره.
“لقد كانت ربّة الحرية بجانبي منذ زمن.”
وبينما ظلّت نظراته ثابتة لا تضطرب، كانت عينا إيزابيلا تهتزّان.
ثم جثا إدوارد على ركبته أمامها، فشخصت عيناها متوسّعتين.
“السير إدوارد……؟”
“لقد قلتِ لي ذات مرة أن أؤمن برفاقي. وإن لم أستطع أن أؤمن بهم، فعلى الأقل أن أؤمن بكِ.”
انسكبت من فمه كلمات الاحترام بسلاسةٍ عجيبة، وإن كان يبدو ما زال متردّدًا قليلًا، لكنها لم تكن في غير موضعها.
وإن لم يستطع أن يخدع فايتشي، فقد كانت ثمرة ما رتّبته إيزابيلا حين جعلت سارا ابنة كارتر تلازمه في دروسها، حتى التقط منها ذلك.
وحين أدرك متأخرًا أنّ الأمر كان أيضًا من عنايتها، شعر بمدى حماقته في أن لم يثق بها.
“حين لم أؤمن بك، حلّت بي الكوارث. وحين آمنت بك، قبضتُ بيدي على النصر.”
حين حاول الهرب، أوشك أن يُساق مجددًا إلى حياة العبودية. لكن حين خرج للحرب، خطف النصر في لمح البصر.
“لذا حيثما مضيتِ، فسأمضي خلفك واثقًا.”
أخرج سيفيه المزدوجين، وغرسهما في الأرض أمامها، ثم رفع بصره إليها.
“إن كنتِ أميرةً للإمبراطورية، فإذن من أجل الإمبراطورية. وإن كنتِ مستحضرة الأرواح لبيت الماركيز، فإذن من أجل ذاك البيت. وإن صرتِ سيدة دوقية لويد، فإذن من أجلها.”
قالها بصوت هادئ على غير عادته. ثم مرّر راحة يده على حَدِّ السيف المغروس في الأرض، حتى سال منه القليل من الدم.
“سأكون سيفكِ، وأتبعكِ حيثما سرتِ.”
وما إن فرغ من قوله، حتى ارتفع الدم المتساقط من كفّه في الهواء متلألئًا كخيطٍ أحمر، فالتفّ بالسيف ثم صار خيطًا ناريًّا يصل بينه وبين إيزابيلا قبل أن يتشعّب ويذوب فيهما معًا.
“السير إدوارد…….”
بانت الدهشة على وجه إيزابيلا، بل وحتى على إدوارد الذي نطق بالقَسَم لم يخلُ بصره من المفاجأة.
وحين نظر إلى يده، وجد أنّ الجرح الذي أحدثه قد اندمل تمامًا، فأطلق ضحكة قصيرة.
“أرأيتِ؟ لم تكوني تنادينني بالسير لمجرّد إرضائي.”
تمتم بصوتٍ ملتبس، لا يُدرى أهو صوت التأثر أم الحزن.
“كنتِ حقًّا تعترفين بي سيرًا، أليس كذلك؟”
رفع رأسه ينظر إليها، وعلى وجهه ابتسامة ملتوية وحاجبان معقودان بملامح متحيرة كأنّه يقول: كيف أمكنكِ ذلك؟ لكن عينيه كانتا تلمعان بالثقة والمودّة.
إيزابيلا لم تجد ما تقول، فاكتفت بالتحديق إليه في صمت.
كان ذلك قَسَمًا خالصًا من روح الطبيعة، يقع بين السحر والأرواح.
فقَسَم الفارس لا يتحقق ما لم يعترف كلٌّ من القائل والمتلقّي بصدق أن القائل فارسٌ بحق.
“وها أنا، من عشت عبدًا، أستطيع أن أُحاكي حتى قسم الفرسان، بفضلك.”
لم يتخيّل إدوارد يومًا أن يحظى بمثل هذه اللحظة.
اعتراف. ثقة. صداقة.
كلّها نعمٌ نالها بفضل هذه المرأة.
منذ ذلك اليوم الذي جاءت فيه مع رفاقها لإنقاذه، قرّر أنّه إن أتيح له أن يقسم قسم الفارس، فسيقسمه لها هي.
ورأى أن الوقت قد حان ليُفصح عن ذلك العزم. حتى لو لم يتحقق القسم حقًا، فليُجرِّب ولو محاكاته.
لكنّه لم يتوقّع أن تتقبّله الطبيعة ذاتها.
“فهل يكون الرجوع إلى القصر الملكي بعد هذا شيئًا يُقلق؟”
“غير أنّه يا سير إدوارد… ذاك المكان بالنسبة لك…….”
لم تستطع إيزابيلا أن تُتمّ عبارتها.
“نعم. هو جحيمٌ أسوأ من الجحيم.”
كان مكانًا مفعمًا بالذكريات البشعة. ولكن……
“ولكنكِ ستحطّمينه كلّه. أليست تلك غايتك من العودة؟”
تنفست إيزابيلا تنهيدة صغيرة، ثم ابتسمت بخفّة.
لقد فهمت سبب قدرته على القول بأنه بخير. الأمر شبيه بما جرى مع ثيو حين غدا بيت لويد بالنسبة له لم يعد ندبة بل شفاء.
“ولِمَ تتحدث وكأنني سأفعل ذلك وحدي؟ ألستَ أنت من سيعيث صخبًا أكثر من الجميع؟”
رمقته بنظرة عاتبة، فضحك إدوارد بخفوت.
“طبعًا. ولذلك قلت إنني سأكون معك.”
ذاك المكان المفعم بماضٍ دامٍ مُهين، لم يكن ينوي إلا أن ينسفه نسفًا.
كما جعله بائسًا ذليلًا، أراد أن يحطّمه بذات القدر وبيديه هو.
“فلنمضِ إذن، ولنُنقذ قائدنا.”
سأكون مرشدًا لكِ عن طيب خاطر.
عند كلمات إدوارد المليئة بالتطلع، التفتت إيزابيلا نحو أداة الاتصال.
“هكذا يقول. ما رأيك يا صاحب السمو؟”
– …تقتصر يدكِ عليَّ وعلى ليكاردو وحدنا إذن.
جاء صوت هارسيز عبر أداة الاتصال، تتخلله ابتسامة خفيفة.
– أجل، ذاك الشخص أيضًا كان مثلك.
كانت صحبتها تبعث طمأنينةً عميقة كالتربة التي تمنح الجذور ثباتًا وتنبت منها الحياة. ولهذا، سواء ليكاردو أو هارسيز، وجدوا أنفسهم يميلون إليها ويعتمدون عليها أكثر فأكثر.
وبهذا، صدر الأمر بما سُمّي: عملية إنقاذ وريث الماركيز.
***
في ساعة متأخرة من الليل، أنهت إيزابيلا وإدوارد استعداداتهما للانطلاق. وقد تعمّدا التأخير ليتجنّبا أعين الناس.
وكان قد اكتمل استعداد كتيبة النخبة من فرسان بيت الماركيز لترافقها في هذه المهمة.
“أرخِ ملامحك. هل ستظل مكفهرّ الوجه هكذا؟”
خاطبت إيزابيلا ثيو الذي كان متجهمًا.
“أفضل أن أراك مبتسمًا.”
“كيف أبتسم وأنتِ ذاهبةٌ إلى قلب أرض العدو؟”
“لن تكون مواجهة مباشرة، فلن يحدث شيء.”
قالت ذلك وهي تربّت على رأسه لتواسيه.
“ثم إنك ستتحرك لتشتيت أنظارهم، أليس كذلك؟”
كانت الخطة أن تتسلل إيزابيلا مع إدوارد إلى المملكة، بينما يثير ثيو وجوشوا الاضطراب هنا ليجذبا الأنظار بعيدًا.
“شان، أعتمد عليك.”
ولهذا الغرض، جرى الاستعانة بكاساندرا أيضًا.
“لم أتخيل يومًا أنني سأضطر حتى لارتداء شعرٍ مستعار.”
جاءت كاساندرا عبر انتقالٍ بعيد المدى سريعًا إلى الجبهة، مرتدية درع إيزابيلا ومتنكرة بشعر مستعار مجعّد يشبه شعرها، إضافةً إلى أساور وقلائد وأدوات أرواح مشبعة بطاقة الأرض.
كانت ستتقمّص شخصية إيزابيلا في غيابها، لخداع الأمير وفايتشي.
“يليق بك الشعر المجعّد.”
“أنا أكره الشعر الطويل. يتساقط بلا توقف ويتعلّق في كل مكان… أُف، حقًا مزعج.”
كانت تُبعد خصلاته عن فمها بضيق، لكنها إذ غطت رأسها بالقلنسوة حتى نصف وجهها، بدت شبيهةً بإيزابيلا من بعيد.
“بما أنني أتحمل هذا الدور، فلتُنقذي وريث الماركيز كما ينبغي.”
رغم نبرة السخرية وهي تزفر، أدركت إيزابيلا أنها تخفي بين كلماتها رجاءً صادقًا. لقد كان الأمر يضايقها ألّا تتمكن من الذهاب بنفسها لإنقاذ من تحب.
“في الطريق، سيلتحقون بك رفاقنا، فلا تفزعي.”
“شكرًا لكِ.”
وكانت نقابة باتوكا الناشطة في المملكة قد وعدت بالمساعدة أيضًا، فأصبح الاستعداد كاملًا.
“إذن أترك المكان لك. سأسبقكِ وأنتظرك.”
التفتت إيزابيلا تودّع ثيو، فبادر إلى معانقتها، بل لَفَّ يده على عنقها في عناقٍ مرتبك.
وتساءلت لِمَ فعل ذلك، حتى شعرت ببرودة شيء يلتف حول عنقها.
“صنعته على عجل، فلم أستطع أن أُضمّن فيه قوةً كبيرة، لكنه سيفيدك.”
كانت أداةً روحية صنعها بنفسه طوال الليل.
“أرجو فقط ألا تضطري لاستخدامه.”
فهو يحوي ماء الروح، واستخدامه يعني أن الحاجة إلى شفاءٍ قد وقعت بالفعل.
فابتسمت إيزابيلا بعاطفة، وعانقته بقوة.
“شكرًا.”
ولم تقل “لا تقلق” إذ تعلم أنه سيقلق مهما قالت. واكتفت بالالتفات منصرفة.
تلاقت عيناها بعيني جوشوا، فتبادل الاثنان نظرة صامتة تحمل ما لا يدركه غيرهما. وبإيماءة صغيرة منه تؤكد أن كل شيء جاهز، استطاعت أن تنطلق نحو المملكة بلا تردد.
***
في قبو رطب خانق، انبعثت برودة من جدران الحجر تُنزل درجة الحرارة أكثر فأكثر.
وانفتح الباب الحديدي الثقيل بصوتٍ صريرٍ مقشعرّ، يتبعه وقع خطواتٍ رنانة على الأرضية الصخرية.
رفع السجين ذو الشعر الفضي رأسه قليلًا داخل زنزانته الضيقة، ليقع بصره على رجلٍ أشقر وقف عند بابه.
كان فايتشي وبابتسامة جانبية وجّه بصره نحو ليكاردو المقيّد بالأصفاد.
“وريث ماركيزنا العزيز، تبدو في صحةٍ جيدة.”
“…….”
“لا تكن هكذا. ألم تكن علاقتنا معقولة يومًا ما؟”
“لم أُخالط منافقًا مثلك يومًا.”
رغم حدّة صوت ليكاردو، واصل فايتشي همسه بنبرة لزجة:
“الأجدر بك أن تُحسن إرضائي إن كنت ترغب في النجاة.”
“هاه، فلن تقتلني. أقصى ما ستفعله هو ابتزازي والتهديد بي.”
كان ليكاردو يعرفه جيدًا. لم يكن من طبعه أن يقتله بدافع غضب، فله فيه مكاسب لا تُحصى.
هاها، ما زلت أفضل أسلوب كلامك عن أخي، ولهذا أشعر بالارتياح معك أكثر.
ارتسمت لمحة ضيق بين حاجبي ليكاردو حين سمعه لا يزال ينادي هارسيز بـ أخي.
“أخي ذاك يثير العجب. لِمَ يتورّط في المخاطرة بالأميرة من أجل إنقاذك؟ من تظن نفسك؟”
“…….”
حاول ليكاردو أن يظل ساكنًا بلا رد، غير أنّ أصابعه ارتجفت خفيةً.
“يبدو أنّ القدر كان مكتوبًا أن تكون هي من نصيبي.”
كان قد نسج شِباكه ليقتنصها، لكنها أفلتت منه. ثم حاول أن يحطّمها حتى لا ينالها غيره، وفشل، فانجرح غروره جرحًا عميقًا.
لكن ها هو الآن، بعد كل ما دار، يجد نفسه قادرًا على أن يتخذها زوجة له. فلا بد أن نجوم القدر اختارت أن تقف إلى جانبه.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 129"