3
“في البداية، كانت الأصوات تأتي من جهة المطبخ.”
ثمّ من الصالة، فغرفة الاستقبال، فالمستودع، ثمّ غرفة الضيوف…
وأخيرًا، وصلت خطوات الأقدام حتى أمام باب غرفة النوم مباشرة.
كانت إليان تقول إنّه ما إن تغرب الشمس، حتى يبدأ ذاك الصوت بالخارج. صريرٌ متواصل، صرير، صرير، صرير… لا ينقطع.
“وفي الأيام الأخيرة… أسمع بكاءً أيضًا.”
ولم يكن بكاءً عاديًّا، بل كان بكاءً يقطّع القلب، كما لو كان شخصٌ يحتضر.
وحين تحاول فتح الباب، تشعر بأنّ أحدًا ما يدفعه من الخارج، مانعًا إيّاها من الخروج.
“ترى، ما السبب؟ هل يمكن أن يكون… خطيبي؟“
“لحظة، أقول هذا بدافع القلق لا أكثر…”
سألتها لاسيل، التي كانت تلتزم الصمت طوال الوقت خشية أن تبالغ إليان في مخاوفها.
“ألا تظنين أنّ هذا لا علاقة له بخطيبك؟“
“همم؟“
“أتعنين أنّه عاد كروحٍ شريرة يطاردك؟“
“أجل.”
“مستحيل! من قال إنّ الأشباح تتحرّك بهذه السرعة؟!”
على الأقل، جميع الأشباح التي تعرفها لاسيل كانت بطيئة حدّ الإزعاج، متثاقلة إلى درجة تدعو للضجر.
“الأشباح التي أعرفها…”
“الأشباح التي تعرفينها؟“
“هاه؟ لا، لا، أقصد… انسَي الأمر. المهم، هذا ما يثير قلقكِ؟“
أنهت لاسيل الحديث باقتضاب، ثم لخّصت الموقف.
“إذًا تريدين أن تعرفي هوية من يصدر تلك الخطوات، أليس كذلك؟“
“…نعم.”
“حسنًا، سأزورك الليلة. ربما بوجودي لن تشعري بالخوف.”
على الأقل، من الجيد أن يكون في المكان من يألف الأشباح.
“ومن سيحرس الآنسة يوجيريا بذلك الوقت؟“
“ستتولّى لوجيا الأمر.”
كانت لوجيا، خادمة يوجيريا، قد تبعتها إلى الإقطاعية، وهي تتولّى حمايتها في الأوقات التي تغيب فيها لاسيل.
ولم يكن أحدٌ ليتوقّع أن تتحوّل تلك الخادمة التي جلبتها لاسيل بنفسها إلى فارسة فيما بعد.
“إذن… حسنًا، كما تشائين.”
غادرت إليان غرفة الاستقبال وهي تبدو أكثر إنهاكًا مما كانت حين قدِمت، وكأنّ الحديث أعاد إليها وعيها الكامل بحقيقة ما تمرّ به.
“ما رأيكِ بالأمر؟“
ما إن غادرت إليان حتى بادرت يوجيريا بالسؤال.
“عن الأشباح؟ لا أظنّ أنّها مؤذية.”
“لستُ أعني ذلك. أتحدث عن عائلة الماركيز، ألا تشعرين أن هناك ما يُخفونه؟“
“…يبدو كذلك فعلًا.”
فقرارهم المفاجئ بتزويج ابنهم الثاني – الذي تجاهلوه وكأنه غير موجود – لم يكن بلا سبب.
وخاصة أن عائلة الكونت لم تكن ذات نفعٍ يُذكر لهم.
“سأذهب للتحقّق لاحقًا… بالمناسبة، ما ذاك الشريط في شعرك؟ من أين حصلتِ عليه؟“
“أعطتني إيّاه كبيرة الخدم.”
كانت تلك المرأة أول من قابلته لاسيل عند وصولها إلى القصر.
بدت شابة على نحوٍ غريب بالنسبة لمنصبها، لكنها كانت ذات معرفة واسعة وقدّمت لها عونًا كثيرًا.
أما ذلك الشريط، فقد كان متينًا للغاية، مناسبًا لربط شعرها الكثيف.
“…كبيرة الخدم، تقولين؟“
حبست يوجيريا أنفاسها للحظة.
فقد علمت من قبل أن كبيرة الخدم في هذا القصر قد توفيت منذ عشر سنوات.
لم تُرِد أن تُثير قلق لاسيل، فاكتفت بالصمت.
ثمّ تذكّرت كلمات والدتها، دوقة لِرْسِيَان.
“ليس هناك حاجة لأخذ خدمٍ آخرين معكِ، فالقصر هناك مكتفٍ بخدمه.”
لو كانت تعلم أن المقصود هو الخدم الأشباح، لفضّلت لو أُخبرت بذلك مسبقًا.
“ما بكِ؟“
“لا شيء… هل تنوين الذهاب الليلة؟“
“نعم، أظنّ أن الأفضل قبل الغروب.”
أومأت يوجيريا موافقة، ثم نظرت عبر النافذة.
‘إنها هناك مجددًا.’
تلك العيون المجهولة التي تتابعها منذ سكنت القصر كانت لا تزال تحدّق بها من البعيد.
لم تُلحق بها أذى، لكنها لم تفهم بعد سبب اهتمامها.
تمنّت لو كانت قرأت كتب الشعوذة والماورائيات التي تركتها على الرفّ منذ زمن.
***
“أتيتِ مبكرًا.”
“أفضل من أن أتأخر.”
وصلت لاسيل إلى منزل إليان قبل غروب الشمس مباشرة.
كان كوخًا صغيرًا أنيقًا، بحجمٍ يكفي لشخصٍ واحد، ولم يتغيّر كثيرًا منذ زيارتها الأخيرة.
“من الخارج لا يبدو أن هناك مشكلة.”
“المشكلة تبدأ ليلًا فقط…”
“وماذا لو فتحتِ الباب ولم يكن هناك أحد؟“
“سأخاف طبعًا!”
“ولمَ لا تحاولين التحدث معه بدلًا من الخوف؟“
“…هاه؟“
تبادلت إليان ولاسيل النظرات بدهشة.
“لماذا يكون الكلام أول ما يخطر ببالك؟“
“لأن الصمت لن يحلّ شيئًا، أليس كذلك؟“
صمتت إليان، تدرك أن منطق صديقتها غريب، لكنها لم تجد ردًّا.
“ليس لدينا ما نفعله حتى الغروب… هل نلعب لعبة طاولة؟“
حدّقت إليان إليها غير مصدّقة.
كيف يمكنها أن تبدو بهذا الهدوء في وضعٍ كهذا؟
“لا توجد عندي ألعاب… هل اعتدتِ على الحياة في القصر؟“
سارعت إليان لتغيير الموضوع قبل أن تجرّها لاسيل إلى جنونها المنطقي.
“نعم، الجميع هناك لطفاء.”
“……؟“
رفعت إليان حاجبيها بدهشة.
فهي تعلم جيدًا أن سكان القصر لا يتعدّون الثلاثة. يوجيريا، لاسيل، ولوجيا.
فالدوق رفض إرسال أي خدمٍ معهن بحجّة أن على ابنته أن تتعلّم تمييز الناس بنفسها، وأن تستأجر من تراه كفؤًا في الإقطاع.
“من تقصدين بـ(الجميع)؟“
“كبيرة الخدم، رئيس الخدم، وبقية الخادمات…”
‘هل يجدر بي علاج مشكلتها قبل مشكلتي؟‘
فكّرت إليان بجدّية.
كل من في القصر يبدو أنهم أرواحٌ ميتة، وليسوا بشرًا.
‘ذلك القصر بالتحديد…’
كان المكان الذي مات فيه كل الخدم في ليلةٍ واحدة.
ومنذ ذلك الحين، تحوّل إلى مصدرٍ لقصص الرعب التي تردّدها الناس، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
“أنظري…”
بدأت إليان لتخبرها بالحقيقة، لكن في تلك اللحظة، انبعث من الخارج صوتٌ مألوف.
صرير… صرير… كأنّ أحدهم يمشي في الممرّ.
‘هل غربت الشمس بهذه السرعة؟‘
نظرت إليان إلى النافذة، فرأت السماء وقد اسودّت تمامًا بعد أن كانت مضيئة قبل لحظات فقط.
“هل هذا طبيعي؟“
سألت لاسيل بهدوء مدهش.
“أم أنّه أمر يحدث الليلة فقط؟“
“…الليلة فقط.”
أجابت إليان وهي تتصبّب قلقًا، ثمّ خطرت ببالها فكرة.
‘أليست هي نفسها الخطر الأكبر هنا؟‘
ربما كانت قد جلبت لنفسها كابوسًا أسوأ من الشبح نفسه.
“هل يمكنني فتح الباب؟“
“ماذا؟!”
لم تنتظر لاسيل جوابًا، وفتحت الباب على الفور.
“…هل هذا طبيعي؟“
“قطعًا لا!”
في الخارج لم يكن هناك شيء.
لا أرض، ولا طاولة، ولا جدران، لا شيء سوى الظلام الدامس، كأنّ العالم قد مُسح من الوجود.
“الأمر أسوأ من المعتاد!”
“تقصدين أنّه لا يُرى شيء، أليس كذلك؟“
قالت ذلك بهدوء وهي تتقدم نحو المكتب، بينما كانت إليان بالكاد تلتقط أنفاسها.
“هل جرّبتِ استحضار الأرواح من قبل؟“
“كلا!”
صرخت إليان بفزع.
“ولن أفعل!”
“وهل لديكِ طريقة أخرى؟“
“لا… لا أظن.”
استسلمت إليان أخيرًا.
ما دام الخطر قادمًا لا محالة، فربما المواجهة خيرٌ من الانتظار.
“إذن، فلنبدأ.”
“لكن لا أدوات عندي لاستحضار الأرواح!”
“أنا جلبت معي ما يكفي.”
“…ولماذا في المقام الاول؟!”
رمشت لاسيل، متعجبة من السؤال، كما لو كان امتلاك أدوات الاستحضار أمرًا بديهيًا.
“ألا يحمل الجميع واحدة؟“
“من هؤلاء (الجميع)؟!”
“ألم يسبق لكِ أن استيقظتِ صباح عيد ميلادكِ لتجدي طقم استحضارٍ غريبًا وتعليماته عند سريرك؟“
“أبدًا!”
“على كل حال، لنجرب الحديث معه.”
أخرجت لاسيل من جيبها ورقة سميكة مطوية وسهمًا صغيرًا خشبيًا.
كانت الورقة، بعد أن فُتحت، مملوءة بكلماتٍ تمثّل أجوبةً محتملة.
“نعم“، “لا“، “لم أفهم السؤال“، “هل لي بفنجان شاي؟“، “لقد قُتلت“، “شكرًا“، “لستُ أنوي أذيّتك.”
عددٌ غير قليل من الردود، لكن من الصعب أن تُجيب عن شيءٍ محدّد حقًا.
‘تغيّرَت الإجابات مجددًا، كما توقّعت.’
كلّ مرّة كانت تفتح فيها اللوح، تتبدّل العبارات المكتوبة عليه.
كانت لاسيل تجد ذلك مثيرًا، لكنها لم تجرؤ على ذكره أمام لوجيا أو يوجيريا، اللتين لم تعودا تحتملان تجاربها الغريبة.
“إذن، أول سؤال… أريد أن أسأل إن كان ينوي إيذائي.”
التعليقات لهذا الفصل " 3"