تراك—!
في تلك اللّحظة، ارتخت قواي وسقطتُ مباشرةً على الأرض.
‘إنّه جنون، هذا المكان مجنون!’
لم يكن الوقت مناسبًا لأتسكّع وأجمع معلومات عن صاحب البيت بهدوء. كان وضعًا لا يُستغرب فيه لو انغرست سكينٌ في عنقي في أيّ لحظة.
‘إنّها … تحذير … أليس كذلك؟’
لقد مرّت أيّام عدّة منذ أن استلمتُ أوّل رسالة سريّة.
أنا لم أفعل شيئًا لأنّني لم أعرف ماذا أفعل، لكنّ الجهة الّتي كلّفتني بعمل التجسّس ربما ظنّت أنّني تجاهلتُ أوامرها.
‘لا، لكن رغم ذلك—!’
هل يُعقَل أن يقتحم أحدهم غرفة غيره ويطعن الحائط بسكين ملطّخة بالدماء هكذا؟ كم من الوقت غبتُ عن الأنظار أصلاً!
ترقرقت الدموع في عيني.
كنتُ مشوَّشة أصلًا بعد أن وجدتُ نفسي متجسّدةً في عالم آخر بلا مقدّمات، وها أنا أتعرّض لأشياء كهذه … لقد كان الأمر مخيفًا ومُحزِنًا للغاية.
“لماذا يحدث هذا لي فقط ….”
أقصى ما ارتكبته في حياتي السابقة كان ‘شتم الزبائن المزعجين’ أو ‘شتم المدير الظالم’. ومع ذلك، هذه العقوبة كانت قاسية جدًّا عليّ.
ومهما كانت طريقة تجسّدي، لماذا كان عليّ أن أتجسّد بالتحديد في هذا الجسد؟ إن كان هذا موهبة، فهي موهبة منحوسة وبائسة.
“هاه ….”
تنفّستُ تنهيدةً خرجتْ منّي رغمًا عني، لكن لم يكن بوسعي البقاء أندب حظّي إلى الأبد.
مسحتُ الدموع بعنف ونهضتُ بعزم. ثمّ اقتربتُ ببطء من الحائط حيث انغرس الخنجر.
‘يا إلهي، لو أنّه غرسها بلطف قليلًا …’
عند الاقتراب رأيتُ أنّ النصل كان مغروسًا لأكثر من نصفه في الجدار.
تمتمتُ بغيظٍ موجّهٍ إلى اللصّ القويّ عديم الذوق، وأمسكتُ قبضة الخنجر بيدٍ ترتجف وسحبته.
“أوه؟”
خلافًا لتوقّعي، خرجت السكين بسهولة. وفي اللحظة نفسها، سقطت الرسالة السريّة الّتي كانت مُثبَّتة بها على الأرض.
وضعتُ الخنجر الملطّخ بالدم اليابس بسرعة في الدرج وفتحتُ الورقة.
[ تقريرٌ كلّ خمسة أيّام. راقبي تحرّكات الدوق باستمرار إلى أن تصل تعليمات أخرى. ]
كما توقّعت.
كانت مشابهة لأوّل رسالة وصلتني، لكنّ التعليمات فيها كانت أكثر تفصيلاً.
‘كلّ خمسة أيّام، هاه.’
كيف لي أن أكتب تقريرًا وأنا لم أعرف الجاسوسية إلا من المسلسلات والأفلام؟ المستقبل بدا مظلمًا بالفعل.
لكنّ ما خنقني حقًّا كان السطر الأخير من الشيفرة.
[ سنراقبكِ. ]
…وبهذا أصبح الأمر مؤكدًا.
هناك من يراقب “ليليان”، وإن لم أفعل ما يطلبونه، قد أموت في أيّ لحظة. مثلًا أثناء النوم— مثلًا.
لكن، لو كانت لديهم جاسوسة ماهرة لهذه الدرجة، لماذا لا يستخدمونها هم؟
لماذا ليليان بالتحديد …؟
تولّدت في داخلي تساؤلات جوهريّة حول سبب اختيارهم فتاة خرقاء في أعمال الخدم لتكون جاسوسة، لكن كان عليّ تأجيل التفكير في هذا.
لا بدّ أنّ لديهم سببًا ما. على أيّ حال، لم يكن هذا الأمر أهمّ ما في اللحظة.
‘ماذا أفعل؟’
حتى لو جرّبتُ كلّ أنواع الوظائف في حياتي الماضية، فالعمل جاسوسةً لم يكن من بينها. وفوق ذلك، ليس لدي أيّ ذكرى تخصّ صاحبة الجسد الأصلي، ليليان.
‘ولو قلتُ الآن إنّني فقدتُ الذاكرة … هل كانوا سيتركونني؟—’
توقّفي!
عادةً … ماذا كان يحدث للشخصيات الّتي تحاول الانسحاب من أعمال كهذه؟
مرّت في رأسي مشاهد لا تُحصى من الجواسيس في وسائل الإعلام، وكان مصير معظمهم …
غصصتُ وابتلعتُ ريقي بلا وعي. لمجرّد التخيّل شعرت بأنّ مصائرهم الفظيعة تُشبه مستقبلي القريب.
‘لا!’
لن أموت ميتةً عبثيّة في هذه الحياة أيضًا.
قبضتُ على يد ليليان الضعيفة كما لو كنتُ أقبض على إرادتها. وفي داخلي اشتعلت جذوة الحياة بعنف.
***
“تنظيف رواق المبنى الرئيسي اليوم—”
“سأتولّاه أنا!”
“آه، واللّواتي لديهنّ وقت فائض فليقمْن بتنظيف النوافذ—”
“أنا سأفعل!”
“حسنًا، وبعد الانتهاء اذهبن إلى المطبخ—”
“سأتولّى هذا أيضًا!”
رفعتُ يدي مرّة بعد مرّة، فحدّقت بي رئيسة الخادمات بنظرة غريبة. وكذلك فعلت باقي الخادمات.
“يا فتاة، هل أنتِ ما زلتِ نصف نائمة؟”
طَعَنَتني آنا، الّتي كانت واقفةً بجانبي، في خاصرتي بفزع.
‘ومن حقّهم الشكّ.’
فأعمال المبنى الرئيسي كانت الأكثر كرهًا بين الخادمات. إذ إنّ رئيسة الخادمات كانت تُصبح أشدّ حساسيّة عند أيّ شيء يتعلّق بالمبنى الرئيسي.
من تنظيف الرواق إلى غرف الضيوف والمطبخ. حتى الخادمات الماهرات نادرًا ما يسلمن من ملاحظاتها اللاذعة.
لدرجة أنّه وُلدت نكتة بيننا تقول: ‘عندما تعملين في المبنى الرئيسي، فحتى وقت الراحة يتحوّل إلى وقت عمل جديد.’
‘ورغم ذلك أتطوّع للعمل هناك …’
شعرتُ بالبؤس للحظة، لكن لم يكن هناك خيار آخر.
فهذا كان الأفضل بالنسبة إليّ الآن.
‘عليّ أن أبقى في المبنى الرئيسي مهما كلّف الأمر … لأعثر على الدوق.’
هدفي— بل هدف من استخدمني كجاسوس— كان الدوق.
ولكنني لا أملك عنه أيّ معلومة. لا وضع مميّز ولا قدرة خاصّة.
‘إذًا عليّ مراقبته فقط.’
كي أستطيع كتابة تقارير وهميّة تبدو معقولة على الأقلّ.
تجاهلتُ وخزات آنا المتكرّرة ورفعتُ يدي بثبات. عندها حدّقت رئيسة الخادمات بي بنظرتها الباردة المعهودة.
“…افْعَلي ذلك إذن.”
بعد لحظة صمت، نطقت بموافقتها. فابتسمتُ ابتسامة عريضة تدلّ على أنّني سأبذل جهدي.
حسنًا، إلى هنا كان الأمر مقبولاً.
العمل شاقّ، ورئيسة الخادمات أشدّ شدّة، لكن هذا لا بأس به.
مقارنةً بحياتي السابقة، كان هذا المكان بيئةَ عملٍ مريحة فعلًا.
لكن المشكلة هي …
‘أين أنتَ يا سيّدي الدّوق!’
القصر كبير، لكن صاحبه لا يظهر.
عاد إلى القصر، صحيح. لكن لماذا لا يظهر أبدًا؟!
رغم اتّساع الدوقيّة، فقد مضت ثلاثة أيّام كاملة.
بهذا القدر يمكن للمرء أن يشكّ إن كان لا يزال حيًّا.
“يبدو أنّ صاحب السموّ الدوق ملازمٌ لمكتبته.”
“لطالما فعل ذلك، لكن …”
“يبدو أنّه مشغول جدًّا هذه المرّة.”
تحدّثت بعض الخادمات بصوت منخفض، فرفعتُ أذني وأنا أتابع غسل الصحون. حسنًا، هو على الأقلّ حيّ.
‘لكنّه لن يظهر أمامي على أيّ حال.’
فحتى بين الخادمات، هناك مراتب ضمنيّة تعتمد على الخبرة.
أمّا المساحات الخاصّة بالدوق— كمكتبه وغرفة نومه— فيُشرف عليها الخادمات المخضرمات فقط.
أي إنّ احتمالي أنا— الّتي خرجتُ لتوّي من فترة التدريب— أن أراه عن قرب يساوي الصفر تقريبًا.
‘حين أفكّر الآن، كان لقائي السابق بالدوق مجرّد صدفة خياليّة—’
“يا إلهي، ليليان! الطبق!”
“نـ- نعم؟!”
استفقتُ من شرودي ورفعت رأسي بسرعة. ثمّ أدركت الكارثة الّتي أحدثتها.
“آه!”
في وسط الطبق الأبيض الناصع، ظهر خَدْش طويل.
“ليليان.”
تبًّا.
كان الطاهي يقف هناك بوجهه الضخم المخيف وهو يحدّق بي. ولم يكن أمامي سوى الذهاب إليه بوجه باكٍ.
***
لا شكّ أنّه سيوبّخني—
فالطبق تبيّن أنّه ثمين جدًّا.
‘أنتِ.’
‘أ- أنا آسفة!’
‘لا بأس، خذي هذا واذهبي إلى الحديقة.’
‘حاضر … ماذا؟’
لكن الطاهي ناولني سلّة صغيرة بلا مبالاة. كانت سلّة الوجبات الخفيفة الّتي يرسلها كلّ يوم إلى البستاني.
ولمّا رمقتُه بنظرة مُندهشة، غمز لي بعينه القاسية وهمس بشفتيه: ‘إنّه سر.’
ياااه يا عمّي …!
لقد أصبحتُ قريبة منه بعد عملي المتواصل في المطبخ، لكن لم أتوقّع أنّه سيُعاملني بهذه اللّطافة.
أخذتُ سلّة الوجبات بنظرة متأثّرة.
وهكذا، الآن—
“أين يا ترى يكون البستاني؟”
كنتُ أتجوّل قرب الحديقة.
فأنا لستُ المسؤولة عادةً عن إيصال الوجبات إليه، لذلك لم أعرف مكانه بالضبط.
‘لكن غالبًا هو قريب من هنا.’
مشيتُ ببطء وأنا ألتفتُ حولي. وفجأة …
‘هـم؟’
لمحتُ امرأة لم أرها من قبل.
كانت ترتدي ثوبًا أرجوانيًّا فخمًا، وتتنزّه وحدها في الحديقة بلا مرافق. وكانت حركتها الرشيقة تُذكّرني بالفراشات.
‘من هذه؟’
أملتُ رأسي بفضول، وفجأة التقت عيني بعينيها.
“واو …”
انفلتَت منّي شهقة دهشة. ربّما لم تكن فراشة، بل جنّيّة.
لمّا رأتني أحدّق فيها بدهشة، ابتسمت ولوّحت بيدها.
كان تحيةً من جنّيّة جميلة. فرفعتُ يدي أردّ التحية وكأنني واقعة تحت سحرها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"