كان يشبهه، لكنه لم يكن هو.
ذلك الشعر الأشقر الذي بدا لي متألقًا تحت أشعة الشمس، عند التمعن فيه، كان أقرب إلى البني الفاتح مقارنة بشعر كارسـيون.
وبمجرد أن أدركت أنه شخص آخر، لم أعد أفهم كيف التبست عليّ الأمور في البداية، إذ بدا مختلفًا تمامًا عنه.
عندها فقط، انحنيت خجلاً.
لقد تلاقت أعيننا، لكن… لا بأس، صحيح؟
انتظرتُ بهدوء حتى يمر الرجلان دون إحداث جلبة، لكن الرجل الذي كان من المفترض أن يواصل طريقه أمامنا توقف فجأة، مباشرة أمامي..
يا إلهي…
لا تقل لي أنه اعتبر مجرد تلاقي الأنظار وقاحة!
“ارفعي رأسكِ.”
ابتلعتُ ريقي عند سماع الأمر الصادر من فوقي.
حتى صوته كان مختلفًا تمامًا عن كارسـيون، نبرته المشبعة بالسلطة لم تحمل أدنى لمحة من التسامح تجاه وقاحة العامة.
كنت متوترة وأردت تجنب أي خطأ، فرفعت رأسي بحذر..
“صاحب السمو سيدريك.”
تردد صوتُ رئيس البرج العميق عندها، وبفضله تمكنت من معرفة هوية الرجل. اتسعت حدقتاي بعنف..
أمير آخر؟
كنت أظن أن مقابلة أحد أفراد العائلة الإمبراطورية أمر شبه مستحيل، ولكن في شوتزن، يبدو أن الأمر بسيطًا جدًا..
بهذه الوتيرة، قد ألتقي قريبًا بولي العهد، بل وحتى الإمبراطور والإمبراطورة!
بالطبع، هذا مستحيل، لكنني لم أستطع منع نفسي من القلق بينما أتحمل نظرات سيدريك الثاقبة.
كان الابن الثاني للإمبراطور ويحظى بشعبية كبيرة بين العامة بفضل سمعته كشخص مبهج وذكي.
لكن كما يُقال، الشمس جميلة عندما تُرى من بعيد فقط، أما عن قرب… فإنها تُحرق.
وهكذا، كنت أشعر بأنني أُحترق بفعل نظراته النافذة، حتى بدأ جلدي بالوخز..
“غريب… أشعر أنني رأيتكِ من قبل.”
مرة أخرى.
ها هو شخص آخر يحدّق في وجهي بارتباك، وكأنه يحاول تذكّر من أكون.
كنت أعلم السبب تمامًا.
رينيه إيفلين.
إنها تشبهني.
لو أخبرته بذلك، لانتهى الأمر فورًا.
لكن التحدث بوضوح أمام أمير صاحب هالة مُرهِقة إلى هذا الحد لم يكن بالأمر السهل.
“صاحب السمو، لنكمل طريقنا.”
تدخل رئيس البرج مرة أخرى ليحث سيدريك على المغادرة.
أظهر الأمير بعض التردد، وكأنه لم يكن راضيًا عن ترك تساؤله دون إجابة.
“آه، جريزندوف. لقد شعرتُ فقط أن وجهها مألوف…”
“لدينا الكثير لنناقشه بشأن بناء المسرح.”
“صحيح، صحيح.”
أومأ سيدريك برأسه أخيرًا، لكنه لم ينسَ التحديق بي مرة أخيرة قبل أن يدير جسده وينصرف.
هل… هل مرّ الأمر بسلام؟
تنهدتُ بارتياح وأنا أشاهد ظهر رئيس البرج والأمير الثاني يبتعدان، لكنني فجأة تجمدت في مكاني.
اعتقدت أنهما رحلا تمامًا، لكن غريزندوف التفت إليّ للحظة، كما لو كان يتحقق مني للمرة الأخيرة..
عيناه العميقتان بدتا وكأنهما تخترقان روحي.
ومن خلالهما، أدركت الحقيقة.
لقد تذكّرني.
كان يرى بوضوح رينيه إيفلين في وجهي.
“……”
مرّ توتر جارف عبر جسدي، وكأن أنشوطة مشدودة قد لُفّت حول عنقي..
ولكن بعد لحظة، وكأنه لم يرَ شيئًا، أدار غريزندوف وجهه ومضى في طريقه بكل هدوء..
لم أستطع التنفس بسهولة إلا بعد أن صغرت هيئتا الرجلين في الأفق.
“هاه…”
“أوه، أخيرًا يمكننا التنفس.”
وكانت إيسولا تشعر بالمثل.
بعد أن أبقت وجودها مخفيًا طوال الوقت، الآن فقط وضعت يدها على كتفي بمواساة..
“يبدو أن العيش بوجهك هذا أمر مرهق حقًا.”
“……”
لم أستطع إنكار ذلك، فطأطأت رأسي بصمت.
***
وُضعت زجاجة زجاجية صغيرة على صينية فضية، وحملها دويـمن بينما كان يتجول في أنحاء قصر بريتين بحثًا عن كارسـيون.
“هل رأى أحدكم صاحب السمو؟”
كلما سأل إحدى الخادمات، لم يكن يتلقى سوى تعابير متأسفة.
قيل له إن الأمير لم يخرج من القصر اليوم، لكن لم يكن له أثر في أي مكان.
زفر دويـمن بملل، وقد بدأ هذا البحث العشوائي يثير ضيقه. وألقى نظرة عبر النافذة..
“أين يختبئ حقا؟”
كان هذا محبطًا.
لطالما كان يقدم الدواء لكارسـيون كل صباح في نفس الموعد.
بل إن الأمير كان قد اشتكى بنفسه من نقص الأدوية في البرج السحري! فلماذا الآن هو غير موجود؟
فجأة، انبثقت ذكرى قديمة في ذهن دويـمن.
<آنسة رينيه، صاحب السمو كارسـيون، لقد بحثت عنكما طويلًا. ماذا تفعلان هنا؟>
<ههه، دويـمن! نحن نلعب لعبة المنزل معًا!>
<المنزل؟>
دويـمن نظر إلى الآنسة الصغيرة والأمير الصغير بدهشة.
لم يكن الأمر مستغربًا، فقد كانا مستلقيين بهدوء على المقعد وكأنهما عائلة.
أو بالأحرى، كان كارسيون وحده هو من يستلقي هناك، واضعًا رأسه على حجر رينيه..
<أنا الأم، وكارسيون هو الأب.>
<آه… حقًا؟>
رأى دويـمن دمية دب صغيرة موضوعة على بطن كارسيون، وكأنها تلعب دور الطفل، فارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة..
ثم لاحظ احمرار أذني كارسيون، الذي كان يعبس رغم أنه بدا مستمتعًا.
هل كان في التاسعة؟ أم العاشرة؟
كم كان ظريفًا في عدم قدرته على التعبير بصراحة.
لكن لماذا تذكّر ذلك اليوم فجأة؟
ورغم أن الفكرة بدت غير معقولة، فقد أخذ دويـمن صينية الطعام وخرج إلى الحديقة.
كانت شمس الصيف الحارقة تجعل الجو أكثر سخونة.
“…ما الذي تفعله هنا؟”
وجد كارسيون مستلقيًا على المقعد المظلل بجانب تمثال ضخم، فسأله بصوت متردد..
كارسيون، الذي كان يغطي وجهه بذراعه، أنزلها بهدوء دون أن يبدو عليه أي ارتباك.
“أفكر قليلًا فقط.”
“حان وقت تناول دوائك.”
“همم؟ آه، صحيح. الدواء.”
رد كارسيون وكأنه نسي الأمر تمامًا، مما جعل دويـمن يشعر بالقلق.
ألم تزدَد نوبات صداعه مؤخرًا؟
اعتدل كارسيون جالسًا وأخذ الدواء دون تردد، ثم عاد ليغرق في أفكاره المتشابكة.
لم يكن فقط شكلها وصوتها متشابهين، بل حتى خط يدها.
تذكر الورقة التي كُتب عليها “بطاطا” و”بصل”، وزفر بعمق..
“كان خط يد رينيه شائعًا إلى حد ما، صحيح؟”
“آه؟ لا أدري… لا أتذكر شيئًا كهذا.”
كان من الطبيعي ألا يتذكر الناس العاديون مثل هذه التفاصيل.
تجاهل كارسيون نبرة دويـمن المترددة وأطلق أنينًا خافتًا.
لا يمكنه مواجهة الفتاة بتلك الورقة والقول بثقة: “أنتِ لستِ لينا، بل رينيه.”
سيبدو وكأنه مجنون لا محالة..
وما يزيد الأمور تعقيدًا، وجود ذلك الشخص الذي نشأ معها في الميتم منذ كانت في السادسة.
ليونيل.
ذلك الرجل كان مفتاح هذا اللغز.
“يبدو أنك تفكر كثيرًا في الآنسة رينيه.”
“نعم.”
“حسنًا… على أي حال، الموعد يقترب.”
اقتربت الذكرى السنوية.
لم يكن هناك تاريخ وفاة دقيق، فقط يوم اختير عشوائيًا ليكون ذكرى على شاهدة قبرها..
ابتسم كارسيون بسخرية.
“قد يحضر الأمير سيدريك هذه المرة بحسب الأخبار القادمة من قصر كارباس.”
أحيانًا، تصل الأخبار إلى آذان الخدم أسرع من وصولها إلى الأمير نفسه.
فهم كارسيون المغزى على الفور وأومأ برأسه.
“بسبب المشروع الذي رفضته، على الأرجح.”
كان الملك هاينريش الثالث يبذل جهدًا مستمرًا لسحبه إلى ساحة السياسة.
لكن كارسيون، الذي لم يكن لديه أدنى اهتمام بالسلطة، كان يرفض باستمرار.
ويبدو أن سيدريك قد تولى المهمة بدلًا منه.
***
كانت ظهيرة كسولة.
بعد وجبة الغداء الحافلة بالأحداث، كنت أشعر بالاسترخاء وأراقب الوقت وهو يمر بلا هدف.
رغم أنني كنت أتساءل إن كان هذا التصرف مناسبًا لي كمبتدئة في العمل، إلا أنني شعرت بالراحة لوجود إيسولا بجانبي وهي تغفو معي.
وفجأة، تردد في أذني صوت خطوات كعبٍ حاد.
أحسست فورًا بتيقظ مفاجئ.
حتى إيسولا، التي كانت تغط في النوم، فتحت عينيها على الفور.
وبعد لحظات، فُتح الباب لتظهر صاحبة الخطوات المتوقعة— كريستينا.
“لينا، إيسولا. تم تحديد مهامكما البحثية.”
قالتها دون مقدمات، بصوت جاد ومهني.
“عليكما تطوير مكوّن أساسي لمشروع يقوده صاحب السمو، الأمير الثاني.”
هاه؟
الأمير الثاني؟ أليس ذلك سيدريك، الذي التقيت به أثناء الغداء؟
تذكرت همسات إيسولا عن بحث جديد سيقوده الأمير بنفسه.
شعرت براحة غريبة لأن المشروع لم يكن تحت إشراف كارسيون… لكن هل يجدر بي اعتبار ذلك أمرًا جيدًا؟
“نظرًا لأهمية البحث، لن يكون هناك نقص في الموارد والدعم. في الوقت الحالي، عليكم استيعاب هذا.”
قالت كريستينا ذلك وهي تسلم لي ولإيسولا كتابًا ضخمًا.
بدا وكأنه متعلق بالهندسة المعمارية..
بينما كنت أقلب الصفحات بسرعة، واصلت شرحها.
“يجب علينا دراسة مواد البناء. من الإسمنت إلى الطوب والزجاج، كل شيء يدخل في تشييد المباني.”
“وما الهدف من ذلك؟”
عند سؤال إيسولا، عدّلت كريستينا نظارتها وتحدثت بنبرة جادة..
“نخطط لبناء أكبر مسرح في التاريخ لتمجيد الإمبراطور هاينريش الثالث. يجب ألا ينهار تحت أي ظرف. لا أمام العواصف، ولا ضربات البرق، ولا حتى هجوم تنين.”
“…هل هذا ممكن؟”
خرج مني السؤال لا إراديًا، مصدومة من مدى جنون الفكرة.
لكن يبدو أن برج السحر لا يعرف شيئًا اسمه “المستحيل”.
“سنستخدم بقايا نَفَس التنين.”
“وأين يمكننا الحصول على شيء كهذا؟”
بمجرد أن طرحت السؤال، خطر لي اسم شخص واحد.
كارسيون.
البطل الذي هزم التنين الأسود.
كان من المعروف أنه قاتله في سلسلة جبال دينيبرك…
لكن عندما سمعت رد كريستينا التالي، شعرت بصدمة خانقة.
“سنحصل عليه من مقاطعة إيفلين.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"