الفصل 75. أقوى قلب في العالم
ذلك الرجل…
كان هو نفسه المتشرد الذي صادفناه ذات مرة حين ذهبنا، أنا وكارسـيون لشراء التوت الأزرق.
الرجل الذي تفجّرت منه نية القتل بغتة أمام بسطـة الفواكه.
<سنلتقي مرة أخرى.>
صوته الذي جعل ظهري يقشعر عاد ليحيى في ذاكرتي بكل وضوح.
شعرت بالقشعريرة تزحف على جلدي بينما أتنفّس باضطراب.
<تشبهين شخصًا أعرفه. ظننتكِ شخصًا آخر.>
كذب. لم أكن أشبه أحدًا يعرفه.
ذلك الرجل كان يعرفني.
ويعرف كارسـيون أيضًا.
مع ميلان الضوء تدريجيًا، انكشف وجه الرجل بوضوح أكبر.
“هادِبس.”
جاءني صوتٌ متيبّس من جانبي في تلك اللحظة.
ما الأمر؟ هل يعرفه؟
نظرت إلى ليونيل بعينين مضطربتين.
كان ليونيل يحدّق بالرجل الواقف عند مدخل القصر بوجهٍ جامد تمامًا.
يعرفان بعضهما؟
شعرت أن رأسي فرغ من كل شيء من شدة الصدمة.
وفي تلك اللحظة، خرج صوت من المتشرد الذي ناداه ليونيل باسم “هادِيس”.
“جينيرتس. مضى وقت طويل.”
ارتجّت أذناي. السماء التي تلوّنت بلون الغروب الدموي أوشكت أن تثقب قلبي.
<اسمي جينيرتز. هذه أول مرة أُفصح فيه عن اسمي الحقيقي لبشري.>
ذلك الرجل… كيف عرف الاسم الحقيقي الذي أفصح عنه لي ليونيل للتو فقط؟
تذكّرت. قال إنه لم يخبر به أحدًا من البشر من قبل.
فهل هذا يعني أن هادِيس ليس إنسانًا؟
وإن لم يكن، فماذا عن ليونيل…؟
فششش!
“رينيه!”
حدث ذلك فجأة. انطلقت هالة سوداء من جسد هادِيس، وبدأت هيئته تتغيّر.
هل كان ذلك سحر التحوّل؟
ما إن تساءلت حتى رأيت ليونيل يقفز من على حصانه ويرتمي بجسده أمامي ليحميني.
ثم، صارت ذكرياتي متقطعة.
فووووش!
هبت عاصفة شديدة.
ما الذي يحدث؟
كنت قبل لحظة على ظهر الحصان، والآن صرت في الهواء.
أجنحة مغطاة بالحراشف الحمراء كانت ترفرف بقوة.
لهيب حارق اندفع إلى السماء وتبدد.
وسط تلك الفوضى، حاولت فهم هذا الوضع غير الواقعي.
تنين أحمر. تنين مغطى بحراشف حمراء يمسك بي بمخالبه ويطير في السماء.
يتفادى الأنفاس السوداء المتوهجة التي تتطاير نحونا من الخلف.
رفعت رأسي ونظرت إلى التنين الأحمر بعينين متسعتين.
“جينيرتس…”
خرج صوت مذهول من فمي.
عقلي كان يعج بالكلمات التي تبادلتها مع غريزندورف قبل مغادرتي شوتزن.
<من الذي فعل هذا؟ لقد عقده بطريقة شريرة جدًا.>
<…هل هناك مشكلة؟ هل لا يمكن فك الختم؟>
<يمكن، لكني لست واثقًا إن كان جسدك سيتحمله..>
<في الآونة الأخيرة، استعادت ذاكرتي مشهدًا صغيرًا من الماضي.>
يمكن للذكريات أن تعود بمجرد استرجاع أحداث من الماضي.
ليست مهمة سهلة، لكنها كانت كفيلة بزعزعة قيود الختم.
<هناك نقطة معينة من ذاكرتك، لا أستطيع الاقتراب منها. محاطة بطبقات كثيرة، ممزقة، ومشوّهة. وكأن أحدهم أخفاها عمدًا.>
ما الذكرى التي كان ليونيل يخشى أن أتذكّرها؟
<يبدو الأمر وكأن أحدهم حاول تدميرها وفشل.>
ماضينا… الذي أراد أن يمحوه تمامًا وكأنه لم يكن.
<تدمير الذكريات أمر مستحيل. حتى لو تمكن أحدهم من فعله، فإنه يعد من المحرّمات. لأن ما حدث بالفعل لا يمكن محوه من الوجود.>
لا يمكن أن يكون جاهلًا بهذا. ومع ذلك، أراد محوها تمامًا.
فما الذي حدث وجعله يرغب بذلك بشدة؟
فششش! شقت أجنحة التنين الهواء بصوت هائل.
خلايا جسدي كلها صرخت.
وكأنها تقول: “هذا حدث من قبل.”
“هاه… هااه…”
استعادة الذكريات عن طريق استحضار الماضي تُعد طريقة خارجيّة لكسر الختم، لكنها تترافق مع صداع شديد.
وعندما تُلمس الذكريات المختومة في النواة، لا يمكن التنبؤ بقدرة الجسد على التحمّل.
كما خشي غريزندورف، اجتاحني صداع فتاك.
لكن الأسوأ من الصداع كان قلبي. وكأن سلسلة حديدية مليئة بالأشواك تلفّه وتكاد تفجّره.
“هاه… هاه…”
صار العالم أحمر أمام ناظري.
الألم كان لا يُطاق. خفت أن ينفجر قلبي فعليًا.
“هاه… آآه…”
شيء ما تدفّق من فمي.
“رينيه! رينيه، لا!”
صرخة شخص ما دوّت في أذني.
كان صوت كارسـيون.
ضحكت بخفّة.
مستحيل.
أنا الآن في السماء، وكارسـيون في شوتزن.
ربما كنت أتوهم..
صرت غير قادرة على التمييز بين الحلم والواقع. كل شيء صار أحمر أمامي.
ربما انفجرت شعيرات الدم في عينيّ، أو ربما العالم فعليًا احمرّ.
“الدم! إنها تتقيأ دمًا!”
صوت كارسـيون مرة أخرى. إذا لم يخبرني، لما علمت.
والآن بعد أن سمعت، بدأت أشعر برائحة دم.
“المعالج! أحضروا معالجًا فورًا!”
“ر… رينيه… أ-أنا…”
“تبًّا لك! افعل شيئًا أيها اللعين!”
“تبا… على وجه الأرض…”
في وعيي المتلاشي، تناوب صوتا كارسـيون وليونيل على الطنين في أذني.
حتى في الهلوسة، كانا يتشاجران.
دائمًا… على نفس الوتيرة.
قطرة.
كنت أود أن أسمع المزيد من صوت الشجار، لكن بخلاف الأمل، انبسط السواد.
***
قبل عدة أيام.
ساد جو ثقيل في غرفة الاستقبال بقصر فيلدير. كان سيدريك قد شبك ساقيه الطويلتين، وأبدى انزعاجه.
“أليس هذا مخالفًا للاتفاق؟”
كانت نظرته الممتعضة موجَّهة نحو كارسيون.
جاء فجأة ليقول إنه لن يستطيع دعمهم لبعض الوقت. وكل ذلك فقط من أجل الذهاب إلى أراضي إيفلين.
“حتى التهور له حدود. بهذا الشكل، لن تجد والدتنا سببًا لتدعم زواجك.”
“الوعد لا قيمة له إن لم تكن هناك عروس أصلًا.”
كان وجه كارسيون جادًا. وهذا ما جعل سيدريك يعجز عن الفهم أكثر.
قيل إنه لم يكتفِ بدوق هيلغريت، بل رافقها أيضًا أولاند، معلمه في فنون السيف.
فما الذي يقلقه إلى هذا الحد، حتى وهي ذاهبة لجمع بعض المواد، وكأنها طفل أُطلق في الماء بلا حارس؟
بالطبع، كانت هناك أمور تثير الريبة حتى في نظر سيدريك.
فقد تدخل الإمبراطور هاينريش الثالث شخصيًا في تشكيل فريق الجمع هذه المرة.
وأرسل لينا بالتحديد إلى أراضي ايفلين.
<يبدو أن أوستين ذلك الوغد هو من يقف خلف الأمر.>
استعاد سيدريك حديثًا دار بينه وبين إليزابيث في أحد الأيام، وهو يحرّك قدمه صعودًا وهبوطًا.
كان لديه حدسٌ ضعيف بأن أوستين قد يكون يضمر الشر ويخطط لشيء ما.
كأن يفصل لينا عن كارسيون ثم يؤذيها للإضرار بكارسيون.
<أنا لا أحب تلك الفتاة المسماة لينا.>
رغم أن إليزابيث عبّرت عن أمنيتها فقط، إلا أنها لم تكن تعلم تفصيلًا إن كان أوستين قد نسج مؤامرة فعليًّا.
لذا لم يرسلوا مع فريق الجمع إلا أقل عدد من فرسان فونيكس، تحسبًا لأي طارئ.
ورغم امتثاله لرغبة والدته، لم يكن سيدريك يظن أن شيئًا سيئًا سيحدث.
ولم لا؟ فكل من إيفان وأولاند سيرافقان الرحلة.
“لن يطول الأمر. لدي شعور سيئ، أخي. سلسلة جبال دينيبروك الآن بلا حماية.”
أنَّ سيدريك بتنهيدة معدنية حين سمع صوت كارسيون المفعم بالإلحاح.
<هل تتذكر التقرير الذي رفعته لجلالته قبل عامين؟>
ظل كلام كارسيون يوم غادر فريقُ الجمع أراضي ايفلين يدور حول قلب سيدريك بشكل غريب.
قال إنه يشتبه بوجود مفترس أعلى من الوايفرن.
ماذا قال أيضًا آنذاك؟
<لم أتمكن من قتل التنين الأسود أمام ناظري.>
<هل تعتقد أن ما يحدث من فعل تنين؟>
<علينا أن نبقي الاحتمال مفتوحًا.>
انسحاب فرسان توتين، احتمال وجود مفترس أعلى من الوايفرن، والتنين الأسود الذي لم يُقضَ عليه تمامًا قبل عامين.
كلها أمور جعلت قلق كارسيون مفهومًا بدرجة ما.
تجهم سيدريك وتقلص ما بين حاجبيه بتفكير، لكن ذلك لم يدم طويلًا.
“سأجلسكَ على العرش.”
“……!”
“أقسم بذلك كسيْف الإمبراطورية. سأكون في مقدمة من يدعمونك.”
“أنت…….”
كان سيدريك يفتح فمه ويغلقه كالأبله، إذ لم يكن يتوقع وعدًا بهذه الجدية.
لكن هذا الولاء لم يكن بلا مقابل.
“مقابل ذلك.”
اشتعلت حمرة شديدة في عيني كارسيون الزرقاوين.
<جلالتك، اسمح لي بأن أهب جسدي لأجل سلام الإمبراطورية. سأقضي على التنين الأسود الشرير.>
كما ركع أمام هاينريش الثالث قبل خمس سنوات، جثا كارسيون الآن أمام سيدريك.
“اسمح لي بحماية رينيه ايفلين.”
نظر سيدريك إلى شقيقه الراكع أمامه بعينين ممتلئتين بالتعقيد. وحين رفع كارسيون رأسه، التقت نظراتهما.
وفي عينيه الزرقاوين، تأجج أقوى قلب في هذا العالم، قلب قادر على فعل كل شيء لحماية من يحب.
التعليقات لهذا الفصل " 75"