خرجتُ بعد رؤية المنزل الثالث، غارقة في التفكير.
لم يكن سيئًا، لكن السعر كان مرتفعًا بالنسبة لي.
وبينما كنتُ أهزّ رأسي وأُحدّق بوجه كئيب، بدأ الوسيط العقاري يشرح بهدوء..
“بالنسبة لأسعار شوتزن، هذا ليس سعرًا سيئًا. صحيح أن العيش في الطابق الخامس سيكون متعبًا بسبب الصعود والنزول يوميًا، لكن يمكنكِ اعتباره تمرينًا. كما أنكِ لن تتعرضي للأذى طالما لم تتجولي ليلًا.”
“…هل هذه المنطقة خطيرة؟”
التعرض للأذى…؟
شعرتُ بعدم الارتياح.
لسبب ما، تخيلتُ وجود رجال سيئي السمعة يتسكعون في الأزقة القريبة.
وبينما كنتُ غارقة في هذه الأفكار المزعجة، أضاف الوسيط العقاري تفسيرًا آخر.
“عند غروب الشمس، أي مكان يصبح خطيرًا. على أي حال، هذا هو أرخص منزل يمكنني عرضه لكِ.”
“أليس هناك مكان أرخص؟ أبدًا؟ ولا حتى واحد؟”
لابد أنني كنتُ أبدو بائسة، لأن الوسيط العقاري تنهد بتردد قبل أن يستسلم ويتكلم..
“في الواقع، هناك واحد، لكنه في الطابق شبه السفلي، لذلك لا أنصحكِ به. بالكاد تصله أشعة الشمس، لكن… ربما يصبح مقبولًا إذا أضأتِ المكان جيدًا ورتبتهِ بعناية. هل ترغبين في رؤيته؟”
“نعم، بالطبع!”
بينما كنتُ غارقة في حساباتي المالية، إغتنمت هذه الفرصة بسرعة.
في النهاية، سأكون في المنزل للنوم فقط، وسأقضي معظم وقتي في برج السحر.
وباستخدام أدوات سحرية عالية الجودة للإضاءة، لن تكون هناك أي مشكلة في العيش فيه.
حان الوقت لشد الحزام قدر الإمكان.
بينما كنتُ أعقد العزم بحماس، خرج ظل أسود من أحد الأزقة..
قفزتُ في مكاني، وشعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي.
“…هل تنوين الانتقال إلى مكان أسوأ؟”
جاء صوت رجلٍ قويًّا، كأنه لا يُصدّق ما سمعه.
هل كان يتحدث عني؟
ارتبكتُ وضاق بصري قليلًا، ثم سرعان ما تعرفتُ على الرجل المختبئ في الظلام، واتسعت عيناي بدهشة.
“سموك؟”
تألقت خصلات شعره الذهبية تحت وهج الغروب الأحمر، مانحة إياها بريقًا خطيرًا..
أما وجه كارسيون الظاهر أسفلها، فلم يكن بأي حال من الأحوال تعبيرًا يمكن وصفه بالجيد.
بخطواتٍ ثقيلة، اقترب مني، محاطًا بهالةٍ تنطق بعدم رضاه المطلق عن الموقف.
“ما الذي تفعلينه في زقاقٍ متهالك كهذا…؟”
“يبدو أنك تدرك أنه رثّ.”
بدا كارسيون في حالة مزاجية سيئة للغاية.
سمعتُ بوضوح الوسيط العقاري يهمس لنفسه بدهشة، “لماذا يوجد تمثال الساحة هنا…؟”
بصراحة… كنتُ أتساءل عن الأمر نفسه.
ما الذي يفعله سموه في حيٍّ لا يناسبه على الإطلاق؟
ثم تذكرتُ أنه مسؤول عن أمن العاصمة.
لفت انتباهي عباءته البنية البسيطة، التي بدا أنها تهدف إلى إخفاء هويته.
لقد كان أشبه بشخص متخفٍّ في مهمة سرية.
“ماذا تفعلين في منطقة خطرة كهذه؟”
“آه، إذًا هذه منطقة خطرة…”
ابتسمتُ بتوتر، ثم حدّقتُ في الوسيط العقاري بنظرةٍ حادّة.
لكن في داخلي، كنتُ أدرك أنه لا يمكنني إلقاء اللوم عليه تمامًا.
بعد كل شيء، ظللتُ أطلب منه العثور على منزلٍ رخيص، لذا لم يكن لديه خيار سوى اقتراح هذا المكان.
“لقد وصلتُ إلى شوتزن مؤخرًا وأبحثُ عن مكانٍ للإقامة.”
“إذًا قررتِ العيش في منطقة خارجة عن القانون، معرّضة حياتكِ للخطر.”
“هل هي بهذا السوء؟”
هذه المرة، حدّقتُ في الوسيط العقاري نظرةً أشدّ حدة..
لكنه تهرّب من نظرتي، متراجعًا قليلاً مثل سلحفاة تختبئ داخل صدفتها.
هُووف…
اهدئي…
على أي حال، لم أكن قد قررتُ توقيع العقد بعد.
وبما أنني شعرتُ بالإحراج ولم أرد أن أبدو كمن لا يفقه شيئًا عن الحياة، حاولتُ التغطية على الموقف.
“كنتُ أفكر في البحث عن مكان آخر.”
“ذلك المكان شبه طابق سفلي…!”
تحدث كارسيون باندفاع، لكنه سرعان ما أغلق فمه فجأة.
لكن الأوان كان قد فات.
لقد سمعتُ كل شيء.
ضيّقتُ عينيّ وحدّقتُ به بشك..
“ماذا؟ هل كنتَ تتجسس؟”
“لم أكن أتجسس، لكنني سمعتُ أثناء مروري.”
مريب…
لم أستطع إخفاء شكوكي، فواصلتُ التحديق به بريبة.
لكن كارسيون تجاهلني، وأدار رأسه بعيدًا بعصبية، ثم مرّر يده في شعره الذهبي بنفاد صبر قبل أن يعيد نظره إليّ ليقول بحدة:
“هل الأمر بسبب المال؟”
“ماذا؟”
“هل تتجولين في هذه المناطق الخطرة لأنكِ لا تملكين المال؟”
“هذا صحيح… لكن هل كان عليكَ قولها بهذه الطريقة المحرجة؟”
بدأتُ أشعر بنفورٍ تجاهه.
لكن ما قاله بعد ذلك جعل عقلي يتوقف تمامًا.
“سأعطيكِ المال. لشراء منزل.”
“.…؟”
“لذا، ابحثي عن منزلٍ في منطقة جيدة وآمنة.”
“.…؟”
لم أستطع استيعاب الكلمات التي سمعها عقلي للتو.
كان صوت الوسيط العقاري يطنّ في أذني مثل ذبابة وهو يتمتم، “أوه، إذن سأعدّ قائمة جديدة…”.
ثم ردّ عليه كارسيون، قائلًا إنه يمكنه الاتصال بقصره بمجرد إنهاء الإجراءات.
ظللتُ أرمش، مذهولة، بينما كان كل شيء يحدث بسرعة خاطفة..
لكن لحظة…
أليس هذا غريبًا جدًا؟
صحيح أن كارسيون أمير ولديه المال ليبعثره، لكن لا يوجد سبب يجعله يعطي المال لشخصٍ بالكاد تعرّف عليه منذ بضعة أيام، أليس كذلك؟
ما هذا؟ هل حقًا لأنني أشبه صديقة طفولته؟ هل هذا معقول؟
“لحظة، سموك.”
تداركتُ نفسي وأمسكتُ بحافة رداء كارسيون في عجالة بينما كان يستدير للمغادرة..
توجهت عيناه الزرقاوان نحو يدي، المثبتة على طرف ردائه.
“هذا لا يبدو صحيحًا.”
“ما الذي لا يبدو صحيحًا؟”
رفع نظره ليحدّق بي مباشرة.
كانت عيناه العميقتان، التي خفت ضوءهما، تفيض بشيء لم أستطع تحديده، مما جعلني أتعثر في كلماتي للحظة.
لكن لا، ما زال هذا خطأ..
“كما قلتُ لكَ من قبل، أنا لستُ من تعرفها.”
“هل أنتِ متأكدة؟”
“بالطبع أنا متأكدة!”
“لكن لديكِ فقدان ذاكرة.”
“لكنني عشتُ حياتي مع ليونيل.”
“….”
في عينيّ كارسيون الزرقاوين، وُلدت شرارة غريبة.
كانت نظرته مليئة بشكٍّ غير منطوق، وكأن لسان حاله يقول: كيف يمكنكِ الوثوق بليونيل؟
شعرتُ بالذهول.
كيف يجرؤ على التدخل بيني وبين ليونيل، بينما لا يعرف أي شيء عن علاقتنا؟
والأكثر استفزازًا أنه كان يتصرف وكأن ليونيل دَخيل مزعج!
أنتَ من اقتحم حياتي فجأة!
كدتُ أنفجر غاضبة، لكنني حبستُ كلماتي.
ليس فقط لأنه أمير، ولكن بصراحة، في هذه اللحظة، لم أكن أفكر في كارسيون كفردٍ من العائلة المالكة.
ما أوقفني كان شيئًا آخر تمامًا.
“كم أنتِ وقحة.”
كان صوته باردًا كالجليد، وسرت قشعريرة في جسدي بأكمله..
كان في نبرته قوةٌ خانقةٌ تكفي لسحق الهواء من حوله..
ظللتُ جامدة في مكاني، محركةً عينيّ فقط للبحث عن صاحب هذا الصوت الجديد..
خلف كارسيون، ظهر رجل ذو شعر فضي مائل إلى الزرقة، يتماوج مع خطواته.
كان الصيف في أوجِه، لكن حضوره وحده جعلني أشعر وكأنني عالقة في عاصفة ثلجية من شمالٍ جليدي.
“كفى، إيفان.”
على الرغم من هيبته المروعة، تحدث كارسيون بنبرة هادئة.
لكن الرجل، الذي ناداه باسم “إيفان”، لم يخفِ استياءه وهو يحدّق بي قبل أن يستدير إلى كارسيون ويعترض.
“سموك، بغض النظر عن مدى تشبّهها برينيه إيفلين، فإنها مجرد عامية.”
“توقف.”
“بل تجرأت حتى على لمس ثوب سموك، كم هذا وقح.”
تركتُ طرف الرداء على الفور..
“توقّف.”
هذه المرة، بدا صوت كارسيون أكثر حدة.
بمجرد أن قالها، صمت إيفان على الفور، كما لو قُطع لسانه.
أما أنا، فوجدتُ نفسي تحت نظرات كارسيون الثاقبة.
كل ما حدث قبل لحظات، حيث كنتُ أجادله وجهاً لوجه، بدا الآن بلا معنى.
لأول مرة، شعرتُ بالفرق الشاسع بين مكانتنا الاجتماعية، وبدأ القلق يتسرب إلى أعماقي..
ماذا أفعل؟
لقد كنتُ وقحة جدًا…
قد يُغفر لي جهلي في البداية، لكن الآن بعد أن عرفتُ من هو…
هل هذا يُعدّ إهانة للعائلة المالكة؟
هل سأدمّر حياتي بلحظة؟
اجتاحتني أفكار مخيفة مثل موجة مدٍّ عنيفة، حتى تحدث كارسيون مرة أخرى.
“إذًا، سأقرضكِ المال.”
“…ماذا؟”
لم أستطع فهم ما سمعته للتو.
خرج صوتي مترددًا، وكأن أذنيّ تخدعانني.
لكن يبدو أنني لم أكن الوحيدة التي وجدت كلماته سخيفة.
كان إيفان، الذي ظل صامتًا، يراقب الوضع بنظرة محبطة وهو يمسك جبينه وكأنه أصيب بصداع.
“أموال المنزل. لن أعطيكِ إياها، سأقرضكِ إياها. سدّديها لي.”
“لماذا تفعل كل هذا…؟”
“بما أنني أقرضكِ المال، فلا يوجد سبب لرفضه، صحيح؟”
“هل تجعلني مدينة كما يحلو لك؟”
“لا بأس إن لم تسدّديها. لذا لا تشعري بالعبء وخذي هذا الدين.”
“لكنّك قلتَ لي أن أسدّده.”
“فقط بما يمكنكِ تحمله. لكنني لن أطالبكِ بالسداد أبدًا. طوال حياتي.”
“….”
“حتى في هذا، أجبرتِني على أن أكون أنا من يطلب. تمامًا كما فعلتْ هي.”
“…….”
لم أسأله عمّن كان يقصد.
كان عليّ أن أردّ عليه قائلةً: أنا لستُ صديقة طفولتك، لستُ تلك المرأة، لستُ رينيه إيفلين.
لكن، لسبب ما، لم أستطع النطق بهذه الكلمات.
ترك كارسيون كلماته في الهواء واستدار ببطء.
نظرتُ إلى ظهره وهو يبتعد، وشعرتُ بانقباض غريب في صدري.
لماذا تبدو أكتافه بهذا الشكل؟ لماذا يبدو ظهره… بهذا الوهن؟
“آنسة، ما علاقتكِ بسموه؟”
انتظرتُ حتى ابتعد هو وإيفان قليلًا، ثم جاءني صوت الوسيط العقاري متلهفًا، محمّلًا بالفضول.
لم أكن في مزاج للرد، فتظاهرتُ بعدم السماع.
لحسن الحظ، كان يملك بعض الذكاء، فلم يكرر سؤاله.
ظللنا واقفين حتى اختفى كارسيون وإيفان خلف المباني.
تنهدتُ، مستعدةً أخيرًا للرحيل، لكن فجأة…
“آاااه! اللعنة! ما هذا؟!”
تجمدتُ للحظة، مستجيبةً لا إراديًا للصوت الحاد القادم من زقاق قريب.
“حتى إعادة بيع شيء مستعار تُعدّ تجارة غير قانونية…!”
“أنا مظلوم! لم أسرقه، فقط استعرته!”
“أغغ! لقد أخطأت! أخطأت!”
كلما زادت الضربات، تحوّل صوت الرجل إلى نبرة أكثر استسلامًا وتوسلًا..
كنتُ أستمع إلى صرخاته تتردد عبر الزقاق المعتم، بينما جفلتُ وابتلعتُ ريقي بصمت.
حسنًا، ربما يجب أن أستمع إلى رئيس أمن العاصمة.
سأستدين المال، وأنتقل إلى حيٍّ آمن وجيّد.
التعليقات لهذا الفصل " 7"