تنهد ليونيل تنهيدة عميقة وكأن الأرض قد انهارت تحته.
ثم نظر بعين بائسة إلى الناس الذين كانوا يعبرون تحت الجسر.
لم يعره أحد اهتمامًا، وكأن لا أحد يهتم بجرو تائه، ومضى كلٌّ في طريقه.
ظل يراقب الناس بلا هدف، ثم أطلق تنهيدة طويلة أخرى.
وجوه المارة جميعها بدت له كأنها وجه رينيه.
“أي جرو في الدنيا يتنهد بهذا الشكل كأن عنده هموم؟”
في تلك اللحظة، أظهرت امرأة في منتصف العمر اهتمامًا به.
يبدو أنها ظنت أن ليونيل جرو متروك من قبل صاحبه.
من مظهره، يسهل أن يُساء فهمه.
“هل تخلى عنه صاحبه وتركه تحت الجسر؟”
كان ليونيل منكمشًا على نفسه بطريقة كئيبة، لكن فراؤه النظيف لم يكن يشبه فراء كلب شوارع.
بل بدا وكأنه كلب يتلقى رعاية.
نظر ليونيل إلى المرأة التي اقتربت منه بعين متعاطفة، ثم أدار وجهه بتعبير منزعج.
يبدو أنها فسرت تصرفه بطريقتها، فأخرجت قطعة خبز من حقيبتها ومدّتها أمامه.
“هاك، كُل. كُل قليلاً.”
كيف تجرؤ بشريّة تافهة على هذا؟
تصاعد الغضب بداخله، لكن في نفس الوقت، تذكّر رينيه، فكبح نفسه.
<ريو، وقت الطعام! تعالَ إلى هنا.>
تدفّق إلى ذاكرته عدد لا يُحصى من الأيام التي كان يركض فيها إليها ملوّحًا بذيله، بينما كانت تبتسم له ببراءة.
“تسك تسك، لا يستطيع حتى أن يأكل. مسكين.”
ربّتت المرأة على ظهره بيدٍ يملؤها الأسى.
كانت تلك اللمسة مزعجة، لكنها أيضًا جعلته يتذكر رينيه.
<آه، كم أنت لطيف، ريو خاصتنا.>
من يتكلم؟ هي من كانت ألطف وأجمل.
تذكّر كيف كانت الطفلة رينيه تعبث بفرائه الصغير بكلتا يديها.
آه، رينيه.
لا بد أنك تكرهينني الآن، أليس كذلك؟ لن ترغبي برؤيتي مجددًا، صحيح؟
<أحقًا… أنت ريو؟>
نظراتها المرتجفة التي رآها في النهاية كانت كالسكاكين تمزق قلبه.
كان يريد البكاء.
نعم، أنا ريو.
كان يريد أن يجيبها هكذا بالفعل…
وتخيّل أنه إن فعل، واحتضنته قائلة كم اشتاقت إليه، فكم سيكون ذلك رائعًا.
لكنه كان يعلم.
يعلم أن ذلك لن يحدث.
أنها لن تسامحه أبدًا، وهو الذي ختم كل تلك الذكريات واللحظات معًا، ودفنها بيده.
عيناها الخضراوان المتضاربتان أخبرتاه أكثر من آلاف الكلمات.
رينيه تلومه.
“عليك أن تأكل لتستعيد قوتك، أيها الغبي.”
رفع ليونيل نظره إليها بعينين ممتلئتين بالضيق.
وبدت كأنها تحاول إطعامه قسرًا، حتى دفعت الخبز إلى فمه ودفعته ليكاد يُسحق.
هذه الإنسانة، أصبحت لا تُحتمل!
دعيـني وشأني!
“غرووووو.”
أظهر أسنانه في زمجرة شرسة، فارتعبت وسحبت يدها بسرعة.
سقط الخبز على الأرض وتلطّخ بالتراب.
“آه، لهذا السبب تخلى عنك صاحبك. تافه.”
“كِيع! كِيع!”
اذهبي! قلت لك اذهبي!
“يا لطباعكَ السيئة. تسك تسك.”
هزّت المرأة رأسها ولسانها يتحسر، ثم أسرعت بالهرب كأنها خافت أن تُعض.
وعاد ليونيل وحيدًا من جديد.
“فيووووو……”
وأطلق من صدره تنهيدة أخرى عميقة.
كان يفتقد رينيه.
***
“الآنسة لينا، تم استدعاؤك.”
رفعت رأسي عن الطوب الذي كنت أمزجه بشغف، عندما سمعت صوت كريستينا الذي لم أسمعه منذ مدة.
“أنا؟”
لماذا يستدعيني أحد؟ من الذي يريدني؟
لوّحت لي كريستينا بعجل، تطلب مني أن أتبعها.
شعرت بنظرات الفضول من حولي، كالرؤوس التي ترفعها حيوانات المرموط.
هممم.
أنا نفسي لا أعلم، سأخبركم حين أعود.
ما إن خرجت من المختبر حتى بدأت كريستينا تشرح بصوت منخفض وكأنها كانت تنتظر الفرصة.
“استدعاء من سيد برج السحر.”
“من سيد البرج؟”
رجل بهذا المقام يستدعيني؟ لماذا؟
شعرت بالتوتر على الفور، وبدأت الأفكار تتزاحم في رأسي.
هل ضغطت الإمبراطورة إليزابيث عليه مجددًا؟ أم يريد أن يسأل عن غياب ليونيل؟ هل اكتشف أن ليونيل مستخدم أسطوري قادر على أداء سحر التحوّل؟ أم أن كارسيون فعل شيئًا من تلقاء نفسه دون الرجوع إليّ…؟
<يجب أن نخبر غريزندورف أنكِ رينيه إيفلين.>
<ولمَ سيد البرج بالذات؟>
<إنه أقوى ساحر في العالم. قد يعرف كيف يفك ختم الذاكرة.>
<دعني أفكر. لسنا متأكدين إن كان في صفنا أصلاً. هل أنتما مقرّبان؟>
<ليس تمامًا، لكن…>
تذكرت الحديث الذي دار بيني وبين كارسيون قبل أيام.
رغم علاقاته الهادئة مع أفراد العائلة الإمبراطورية، فإن غريزندورف يضع أوامر الإمبراطور هاينريش الثالث في المرتبة الأولى.
وأنا بالفعل موضوعة في خانة المغضوب عليهم من قِبله.
ألن يكون من الأفضل أن أظل هادئة لفترة من دون إثارة أي ضجة؟
بهذا التفكير، قررنا أن نكون أكثر حذرًا.
مع أنني شعرت أن كارسيون لم يكن مقتنعًا بالكامل.
كان يبدو متعجلًا، كأنّه يريد أن يسترجع لي كل ما فقدته بأسرع ما يمكن.
وذلك وحده، كان كافيًا ليشعرني بالامتنان.
بينما أرسم ابتسامة دافئة في داخلي، تابعت خطواتي خلف كريستينا.
خرجنا من مبنى المختبر، وتوجهنا نحو البرج العالي.
عندما وصلنا إلى الطابق العلوي، كان صوت كعب حذاء كريستينا يرنّ في الممر الفارغ.
ثم توقفت أمام باب مقوّس عملاق بلون خشب البلوط الداكن.
كان الباب كبيرًا لدرجة أن عليّ أن أرفع رأسي حتى أرى نهايته.
لم نُعلم أحدًا بوصولنا، ومع ذلك، فُتح الباب الثقيل من تلقاء نفسه إلى الجانبين، ليندفع منه ضوء ساطع اخترق عينيّ.
“مرحباً بكِ.”
رفعتُ رأسي على صوتٍ جهوريٍّ عميق.
كان هناك مكتبٌ ضخم موضوعٌ على منصة عالية.
فوق المكتب، كانت الأوراق مكدّسة كأنها جبل، في إشارةٍ إلى مدى انشغال سيد برج السحر.
من طرف عيني، رأيت كريستينا تؤدي التحية ثم تتراجع.
نهض غريزيندورف من مكانه وبدأ ينزل بهدوء عبر الدرج الجانبي.
عندما دخلتُ، أُغلِق الباب خلفي من تلقاء نفسه.
“لا بد أنكِ تفاجأتِ لأنني استدعيتكِ فجأة. اجلسي أولاً.”
أشار غريزيندورف إلى مقعد.
جلست حيث أشار، بحركةٍ مهذبة قدر الإمكان.
كنت متوترة لدرجة أن شفتي جفّت.
“لِمَ استدعيتني؟”
لم تكن لديّ أي فكرة عن السبب.
لوّح غريزيندورف بيده في الهواء عدّة مرات.
فإذا بشيءٍ ما يطفو من على مكتبه ويهبط فوق الطاولة التي نجلس إليها.
اتسعت عيناي باندهاش.
“هذا…!”
لقد كان الطوب الذي أنهيتُ تطويره مؤخراً.
كنت أُراجع جودته حتى لحظة استدعائي إلى هنا.
“تسلّمتُه بالأمس عن طريق كولين.”
أشعل غريزيندورف شعلة صغيرة في راحة يده، ثم أطلقها باتجاه الطوب كأنها سهم.
شهقتُ لا إرادياً وتراجعت بجسدي، خشية أن تتطاير نحوي شرارة.
لحسن الحظ، لم تطلني النيران.
“مستواه مُبهر.”
“شـ ، شكراً جزيلاً.”
تلقّيت المديح غير المتوقع وأنا في حالة ذهول.
فالمادة ما زالت غير مثبتة فعلياً.
كل ما فعلته هو أنني طلبت من بنزين، الساحر المتوسط الذي يعمل معي في المختبر، أن يهاجمها.
وقد ثبت أنها لا تُخترق من قِبل ساحرٍ من مستواه.
ارتحت لذلك، لكن ذهني ذهب فوراً إلى ليونيل.
كان هدفي منذ البداية أن يكون هذا الطوب قادراً على مقاومة هجمات ليونيل السحرية.
لم أكن أعلم وقتها أنه يملك القدرة على استخدام سحر التحوّل أيضاً، لذا بدا الهدف قابلاً للتحقيق… لكنه جعل المعايير أعلى مما توقعت.
إن كان سيد البرج يثني عليه شخصياً، فيمكن القول إن الفضل في ذلك يعود لليونيل، بشكلٍ أو بآخر.
“فريق الجمع سيتوجه قريباً في مهمة ثانية إلى إقليم إيفلين.”
“نعم، لقد بلغني ذلك.”
قيل إن الفريق سيكون صغيراً هذه المرة.
فالغرض ليس جمع كميات كبيرة من المواد، بل إجراء أبحاث معمّقة على المواد الثانوية المفيدة.
ولذا فإن فرقة الفرسان “فونيكس” سترسل عدداً قليلاً أيضاً.
ويبدو أن اسمي قد أُدرج في القائمة.
وكان هذا أمراً مُرحّباً به من ناحيتي.
إن استطعت العودة إلى الإقليم الذي أعاد كارسيون إعماره، وأنا مدركة تماماً لهويتي كـ “رينيه إيفلين”…
“أرغب في أن تكوني المسؤولة عن قيادة هذه المهمة.”
“ماذا؟”
اقتراح غريزيندورف كان مفاجئاً تماماً.
خرج صوتي بعلوٍّ لا إرادي.
لم يكن يريدني كعضوٍ في الفريق… بل كقائدة؟
كان ذلك عرضاً غير مسبوقٍ لمن لم يمضِ على التحاقه بالبرج سوى بضعة أشهر.
“اختاري ثلاثة أو أربعة من الباحثين الذين يعجبونك ورافقيهم. قدّمي لي الأسماء.”
أطعتُ تعليماته وأنا في حالة ذهول.
واو.
هل هذا يعني أنني سأترقى قريباً؟
عليّ أن أُفاخر بذلك أمام كارسيون!
***
“ارفُضي.”
على صوته الحازم، شعرت وكأن معنوياتي تهبط مثل جروٍ مبتل بالمطر.
كارسيون، في أوقات فراغه، صار يُوصِلني إلى المنزل بدلاً من إيفان.
وتكررت هذه العادة بشكلٍ متزايد.
وأثناء سيرنا على الطريق المزدان بأشجار الخريف، أخبرته بما حدث مع سيد برج السحر.
كنت متحمسة، لكن ردّ فعله أطفأ تلك الحماسة بالكامل.
“لماذا؟”
لم أستطع إلا أن أسأله.
“ألن يسعدكَ أن أعود إلى إقليم إيفلين؟ وفوق ذلك، أليس هذا اعترافاً بقدراتي؟ كنت أظن أنك ستفرح لأجلي…”
صوتي خفت مع كل كلمة.
ربما شعر بذلك، فقد قال: “ليس الأمر كذلك…”، وحرّك شفتيه عدة مرات وكأنه سيتكلم، لكنه صمت في النهاية.
“ما بكَ؟ تكلم.”
نظرتُ إليه بعينين مستفهمتين ومتذمّرتين في الوقت ذاته.
شاهدتُ تفاحة آدم لديه ترتفع وتهبط بوضوح..
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 62"